المعجنة..المستقبل بطعم الماضي

المعجنة..المستقبل بطعم الماضي

العدد 591 صدر بتاريخ 24ديسمبر2018

البكاء على الأطلال هواية، لها محبوها، وعشاقها، بل ليحسب المرء بعض الأحيان التغزل في دروب الماضي غريزة، يشترك فيها جميع البشر، فحاضرنا دوما هو صورة قبيحة لماضينا السعيد، المليء بصنوف المتع وعظائم الملذات، لا إنه لن يعود أبدا فما يبقى منه سوى آثار لخطوات مشيناها يوما. تمحوها رياح الحاضر الرقيقة هازئة بنا.
ما بين دهاليز الماضي وآمال المستقبل، يأخذنا عرض “المعجنة”، تأليف سامح مهران وإخراج أحمد رجب برحلة إلى منزل (عبده)، تاجر(الجبس) الثري البخيل، الذي يعيش مع ولديه (مفتاح) و(حكاية) ابنته شظف الحياة، على الرغم من ثرائه، ولم يكتف الأب بهذا، بل قد طرد (انشراح) أمهم إذ قد شك في مسلكها إثر عملها كخادمة في دار (الحلواني) الذي يأتمنها على ابنته (تحفة)، وبموت (عبده) بعدها، تقع الأسرة في مأزق الوصول لثروة الفقيد، محاولين استحضار روحه، ليفاجأوا باستحضار روح أحد الفراعنة بدلا منه.
تلك كانت القصة التي يحكيها العرض ببساطة، ولكن ما هو مغزاه الفعلي؟ وكيف برزت الثنائية التي ذكرناها فيما تقدم؟ تتشكل تلك الصورة الجدلية أول ما تتشكل بواسطة واحدة من أهم عناصر العرض، ديكور وملابس وأزياء صبحي السيد, متمثلة في سلم يتوسط المسرح تماما يفضي بنا إلى الدور العلوي حيث مخدع الأب, وذلك السلم يتحول في مشهد الفرعون (عبده) إلى ما يشبه الهرم ليكمل الصورة السينوغرافية التي تحيلنا إلى عهد الفراعنة في هذا الفصل تحديدا – الفصل الثاني والأخير من المسرحية – ولكيلا نستبق الأحداث، فهذا الفضاء المسرحي الذي شيده صبحي السيد, يعرض لطرازين من المعمار في آنٍ, طراز ينتمي إلى عصر (المشربيات) والزخارف الخشبية بالشكل الذي تراه إن مشيت يوما في شوارع القاهرة الفاطمية، تراه في تلك الآريكة يمين المسرح التي طالما جلس عليها الأب، في السلم نفسه الدي يحتل أكبر حيز من الفضاء المسرحي, مختلطا بطراز آخر مغاير, يبدو أقرب للطراز الذي نراه في منازلنا الآن كالباب الدي يفتح عن طريق الجر, يحتل هذا الطراز تصميم الحوائط الجانب الأيسر من المسرح إلا أن ذلك لم يمنع تداخل الطرازين معا، فنرى بعض (القلل) المعلقة على الجانب الأيسر، وتتداخل تركيبة الحوائط على الجانب الأيمن.
وعلى مستوى بنية النص وتصاعد الأحداث, نجد تأكيدا مدعما بالعلاقات المسافاتية والدوال المشكلة بواسطة الصورة على تلكم الثنائية التي طرحناها مسبقا, فالمشاهد الأولى المتدفقة تصف علاقات في إطار جنسي مشتبك ما بين (مفتاح) و(هدية) من جانب, و(حكاية) أخته من جانب آخر, وهذه العلاقات غير مصرح بها طبعا وإنما نستشفها من الأوضاع الجسدية للممثلين التي تشير إلى هذا النوع من العلاقات, من ملابس (مفتاح) الملتصقة بجسده أشد الالتصاق مبرزة عضلاته كأيقونة ذكورية، فهذه البنية الأولية التي يقدمها العرض, لهي تنتمي إلى الماضي, إلى الحياة البدائية, حيث للغريزة الكلمة الأولى قبلما تشرع القوانين والأعراف.
يقدم هذا النسق، داخل إطار غالبا ما يعد عنوانا للدفء الإنساني, هو الإطار الأسري, وتلك صورة أخرى للماضي الذي يحاول العرض مسألته، مفهوم الأسرة وما يتعلق بترابطها وتكوينها, إذ إنها أسرة مفككة, لا نشعر بكونها أسرة عادية أبدا، فألاب يحتقر الأبناء ويسيء معاملتهم أيما إساءة، والأم غير موجودة، والأب نفسه يأتي من الأفعال ما قد أنكره على (مفتاح) ابنه, فيتزوج بهدية التي تصلح أن تكون ابنته ولنلحظ الحوار الملفوظ الذي يصفهم به لهدية (شغالين عندي بلقمتهم, لا تأمين ولا معاشات ولا أي حاجة من الحاجات اللي بتصرفها الحكومة دي), فهنا تبرز الأسرة في صورة مناهضة تماما لما قد اعتدنا عليه كصورة للأسرة, كرمز للترابط والتواصل الإنساني والعطاء.
وصورة هذا الأب تبدو وثيقة الصلة بالماضي حيث يحتل هذا الأب - مكانيا - الجانب الأيمن من المسرح دوما, وعلى تلك الآريكة الخشبية، وأعلى السلم، مع ما يحمله هذا المكان لمضجعه ضمنا، أعلى السلم من سيطرته على واقع بقية الشخصيات وحاضرهم، ولا نراه يتخذ يسار المسرح إلا حينما يعالج سكرات الموت, وبالمثل يمكننا أن نرى كيف يضع العرض المرأة كنموذج لقيم ماضوية، فلا يهم (حكاية) سوى الزواج ما يرمز إليه فستانها الأبيض طيلة العرض والطرحة البيضاء التي ترمز إلى الزفاف بدورها مع أغنية (دقوا المزاهر), في ثاني مشاهدها بإيقاع كئيب يوحي بضياع الأمل في الزواج وما تذكره (هدية) في مونولوجها الأخير (أربع حيطان مع راجل أحسن من مفيش), بل وما ترمز إليه ملابسها أيضا في عش الزوجية مع (عبده), إذ ترتدي ثوبا محليا برسم يشبه جلد الفهود, أي أنها تشبه الفريسة التي تستحق الصيد, كل مما سبق يوضح كيف ترتأى المرأة لنا في العرض بصورة بالية, مرتبطة بالماضي بدورها, فهل ثمة أمل في مستقبل مشرق يملأنا حبورا؟ سنري.. لكنني أولا أود التعرض لأهم خصيصة وضعها العرض لمسألة الماضي وتأمله مليا.
التراث الديني، هي تلك الخصيصة، لحظها في شفرات ثقافية مثل النقاب الدي نفاجأ بارتداء (هدية) إياه, متناقضا مع مسلكها الشبقي مع (مفتاح), وأيضا في شخص (مولانا), الضرير الذي يزعم قدرته على استحضار روح (عبده), لنفاجأ بكونه مفتوح العينين ثاقب النظر, ثم أنه يحتل نفس الآريكة التي سبق أن جلس عليها (عبده), ويطالب الأسرة البائسة بالكثير من النقود قبل استحضار المرحوم, بما يشي ضمنا بنفس النظرة الناقدة التي وجهها العرض للماضي بما يتضمنه من تمسك بالتراث الديني.
تمثلات الماضي في العرض لا تقتصر على الجوانب الفكرية أو الموضوعية، وإنما تنحو نحو الجوانب الجمالية واللغوية أيضا، فمن الدلائل اللغوية التي تدعم رأيي, كثرة الأمثلة الشعبية في العرض، وما يحمله المثل الشعبي دوما من ضرورة الاقتداء بالأجداد والسلف الصالح، مثل بعض الأمثال التالية: (اكنس بيتك ورشه ما تعرف مين يخشه، جبتك يا عبد المعين) في شفرة ثقافية أخرى تتعلق بالماضي, ومن الناحية الجمالية, نجد أسلوبا من أساليب الكوميديا التي أكل عليها الزمن، وهو تعريض الفتاتين (هدية) و(حكاية) ببعضهن وصلات من (الردح) إن شئنا الدقة, وثانيهما تلك المواويل التي أطرب قلوبنا بها الشيخ (محمد العزيزي) بصوته العذب، فيما تعنيه تلك المواويل من أسلوب فني تراثي بدوره.
كانت صورة الماضي فيما ذكرناه آنفا؟ فما هي تمثلات المستقبل؟ يتمثل المستقبل، كالمعتاد، في صورة طفلة، تلك الطفلة الرشيقة ذات الطاقة المتوهجة (مريم إسلام) والتحكم المذهل بحذائها الطائر، أو (تحفة) ابنة (الحلواني) التي تعهدتها (انشراح) بالرعاية بعد موت والدتها, وعلام تمثل هذه الفتاة المستقبل؟ نلحظ ذلك أول ما نلحظ بتركيبة ملابسها المغايرة عن بقية الشخصيات, إذ ترتدي في أرجلها (الباتيناج), بدلا من الأحذية المعتادة، مما يحمل معنى لعيني المشاهد بكونه يشير إلى المستقبل, إذ هو في نهاية الأمر آلة, وتقدم به الفتاة رقصا حداثيا لا يمت بصلة لتراثنا من جهة أخرى. وفي نفس المنحى التأويلي لشخصية (تحفة), نلحظ حركتها الدائرية فيما يشبه عقارب الساعة طيلة الوقت، وعلاقتها بالمكان نفسه، ومواقع تموضعها، فنراها تتخذ نفس مكان الأب بعد موته, أعلى السلم وجواره.
هل يكون المستقبل هو الحل إذن؟ بعدما تدعو (تحفة) الله أن ينتقم من (عبده), إذ قد ضرب مربيتها (انشراح), ويبدو أن الله قد استجاب لدعائها فعلا، وهو ما تردد على لسان (انشراح) فيما بعد، فهل أقصى (المستقبل) (الماضي) بالفعل؟ يبدو ذلك للوهلة الأولى، ولكن الواقع ينقلنا إلى مشهد ما قبل مجيء (انشراح) و(تحفة) بلحظات نرى (عبده) يتناول جرعة زائدة من منشط جنسي كان بحوذة (هدية), فذلك هو السبب المنطقي, وليس دعاء (تحفة). فإذن, على مستوى الفضاء الدرامي, فوجود (تحفة) لم يؤثر بقليل أو كثير وإنما أضفت حيوية وجمالا ذا طبيعة خاصة تنقل المشاهدين لعالم سحري يطير به الأطفال على المستوى البصري أو المسرحي.
يصبح طرفا المعادلة بهذه الكيفية المستقبل والماضي متساويين، كلاهما لا يملكهما الإنسان وهو ما يتم التأكيد عليه بواسطة الحوار الملفوظ من (تحفة) تارة وتارة أخرى بأغنية (انت المدد) التي يختتم بها العرض، والتي أهداها (علي الحجار) خصيصا للعرض, لتشير إلى النتيجة النهائية.. المجد للحاضر، وللإنسان الذي يحيا هذا الحاضر بكل جوارحه، بدلا من دفن ذاته بماضيه، أو التعلق بحبال المستقبل الذائبة.


بيشوي عادل