انتحار معلن .. انتحارها لم يكن جريمتها

انتحار معلن .. انتحارها لم يكن جريمتها

العدد 630 صدر بتاريخ 23سبتمبر2019

رغم النظرة التكفيرية للمنتحر من قِبل الدين والناس, إلا أنني في وقت من الأوقات ظللت محتارة بين هل المنتحر شخص ضعيف يهرب من مواجهة الواقع والحقائق, أم شخص قوي يُقدم على نهايته ويلتقي مع الموت في حين يخشاه البشر؟! وبعد الحيرة والتعاطف قدم الكاتب السعودي دكتور سامي الجمعان الإجابة عبر عرض انتحار معلن, الذي يكون الإنتاج الأول لرابطة ATPA , وهو مشروع معني بإنتاج عروض مسرحية عربية شرطها الأساسي مشاركة مسرحيين من مختلف الدول العربية في العمل الواحد, وهو ما نراه في عرض انتحار معلن حيث الكتابة للدكتور السعودي سامي الجمعان والإخراج للمصري مازن الغرباوي وتمثيل الفنانة التونسية منى التلمودي .
وهو عرض مونودراما احتضنه مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته السادسة والعشرين على خشبة مسرح الغد .
عبر خمسة مشاهد قدمت لنا البطلة سيرة حياة الكاتبة والروائية الإنجليزية فيرجينيا وولف, صحيح أن الشخصية كان اسمها مي, وهو لعدة أسباب أولها النقل إلى متفرجيين عرب وثانييها أن اسم مي دون غيره كي يداعب ذاكرة المتفرج, ليرى مي زيادة الكاتبة العربية والتشابه بين حياتيهما, ولكن إذا نحينا الأسماء جانباً وركزنا مع الأداء التمثيلي والأسلوب الذي اتبعه الغرباوي في العرض, والصرخات التي ملأت الصالة ولم تأخذ هدنة, فالعرض تعبير عن النساء جميعاً ومعاناتهن, لذا كان العرض مونودراما حيث تركز المونودراما مع الصراع النفسي وباطن الشخصية الموجودة, إلى جانب أن المشهد الأول كان عبارة عن كتابة رسالة مي الأخيرة لزوجها قبل الانتحار, وبعدها قدمت رسالة مباشرة للنساء تحذرهن من معشر الرجال وتحثهن على الرحيل الآمن, لذا فالصرخات كان هدفها إيصال صرخات النساء جميعاً- التي غالباً تكون صرخات داخلية- لنراها صراخات مسموعة تنضح بالثورة على وضع مخجل للمجتمع-أياً كان البلد- ورجاله .
أما عن الوضع المخجل الذي أتحدث عنه وبالمناسبة هو قضية تقشعر لها الأبدان وتندهش معها العقول لتزايُدها في السنوات الأخيرة, وهو الإغتصاب, وهي المعاناة الأساسية في حياة فرجينيا وولف حيث تعدى عليها شقيقها مما جعلها تدخل في نوبات إكتئاب متعددة على إثرها حاولت الإنتحار مرتين وفشلت, مرة تراجعت من أجل أطفالها ومرة ُأنقذت, ومن ثم تُقدم على الثالثة بشجاعة معلنة للموت إنتصارها عليه, فقد سلب منها الأعزاء من عائلتها لتبقى وحيدة مع معاناتها, لذا كان من الإثراء بعد حكي سبب المعاناة في مشهد, والحكي عن زواجها الذي رغم قصة الحب شوهه وجود معاناة مع باقي نماذج الرجال التي قابلتها طوال حياتها لذا تحولت لحجر لا يشعر, وسرد محاولات الانتحار السابقة الفاشلة, قبل الختام(مشهد الموت) تُقدم عرض بداخل العرض الأساسي وهو ما يُسمى بالميتادراما, تحاور فيه الموت تلومه وتثور عليه, قائلة له ومكررة «هم يموتون وأنا أجن» و أنها لن تترك له شرف أخذ روحها ببساطة بل ستذهب هي إليه معلنة إنتصارها عليه .
وبما أن صرخات الإنسان عموماً- وليس النساء فقط- تكون داخلية, وإذا حاول إخراج الصوت سيكون بمكان داخلي, فالمكان داخل العرض هو منزل مي وربما غرفتها التي تمارس بها فعل الكتابة فهي من أوصت النساء في كتابها «غرفة تخص المرء وحده» بأن إذا كانت المرأة تريد الكتابة فكل ما تحتاجه غرفة و دخل مادي ثابت و ان كان بسيطاً, أما عن  المنزل أو غرفة مي نراها عبر قطع بسيطة هي الكرسي الهزاز, شماعة الملابس, الساعة الضخمة, مكتب مي, أما عن بقية الصورة فتكتمل عبر ثلاث شاشات تُوضع عليهن صورة حوائط المنزل البيضاء التي تحتوي إحداهن مدفأة تتعامل مي مع نارها كما لو كانت موجودة بالفعل وتعطيها الدفء, و في النصف الثاني من العرض نجد صورة المنزل مائلة كما لو كانت تعبر عن حال من بداخل المنزل من إضطراب و ميل للإنحراف عن الخط الطبيعي المرسوم للبشر, وقد سهلت الشاشات تنقل المتفرج مع حكي الشخصية من المكان الحالي(قاعة المسرح ومن ثم المنزل الذي تحكي من داخله الشخصية المعذبة مي), إلى أماكن أخرى كالمكان الهادئ الذي تم فيه التعدي عليها عندما كانت تقرأ لشكسبير, ومكان النهر الذي انتحرت به, لذا فكان زمن العرض دائري حيث نبدأ بمشهد رسالة الانتحار و انتحار مي و المشهد الأخير يكون الانتحار أيضاً, يتخللهم مشاهد حكي المعاناة والحوار مع الموت , وهو يشبه كثيراً حياة مي الزوجية التي بدأت عند ضفة النهر بزفاف رقصت فيه بجنون ومن ثم انتهت هذه السعادة الخارجية التي رآها الناس عند ضفة النهر أيضاً.
وقد أضفت موسيقى دكتور طارق مهران بُعد مأساوي يلازم الأذن لأيام عديدة, فمن بداية العرض تجد الصوت في الخلفية ملئ بالآهات وقد اختار آلة الكمان خصيصاً لتعبر عن الوجع والمشاعر الداخلية وكم المعاناة .
وبعد الإنتهاء من تحليل مفرادات العرض لفت نظري أنني طوال المقال كنت أتحدث عن الشخصية باسمها مباشرة (مي) وكي لا يحدث سوء فهم فالحياة التي سترونها بالعرض ليست حياة مي زيادة رغم تشابه حياة مي زيادة مع حياة فرجينيا وول من حيث ان كلاهما كانتا كاتبتان وروائيتان, مناهضتان لحقوق المرأة والكتابة لأجل توعيتها, فقد كان في زمن فيرجينيا وول بداية ظهور النسوية و مبادئها, وانما هي حياة كل امرأة تريد حفر اسمها في مجتمعات لم تترك التصنيفات جانباً.
و في نهاية مقالي سأعود إلى الحيرة و السؤال الذي طرحته في بداية المقال, عن الانتحار وما يدور حوله من تساؤلات وهل اهتمام البشر بنهاية المُنتحر في الآخرة أهم من اهتمامهم بتأثير وحياة هذا الشخص قبل إنتحاره, وعن الأسباب التي أوصلته إلى الانتحار, ففي حالة فرجينيا كان مرض الإكتئاب الحاد هو ما أوصلها إلى الانتحار, أما عن سبب الإكتئاب و المعاناة النفسية التي كانت بها فرجينيا فقد وضح جلياً بالعرض وقد كان التعدي الجنسي عليها من قِبل أخيها, لذا نتمنى في الأعوام المقبلة أن نرى معاناة النساء قد اندثرت, ولا نرى مثيلات فرجينيا منتحرات بل نراهن يعمرن الفكر والإبداع و يثرين البشرية .


سارة أشرف