عبد الرحمن الشرقاوي.. والمسرح الممنوع

عبد الرحمن الشرقاوي..   والمسرح الممنوع

العدد 811 صدر بتاريخ 13مارس2023

تمثل تجربة الأديب الراحل عبد الرحمن الشرقاوي رافدا مهما من روافد الإبداع العربي في القرن العشرين، والذي ضرب في فضاءاته من سهام التجريب الكثير في المسرح والشعر والرواية، وفي كل منها كان رائدا، فعلى سبيل المثال كانت قصائده في شعر التفعيلة من أوائل القصائد التي كتبت في الشعر الحر في العالم العربي، متوازية مع تجربة صلاح عبد الصبور ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وأحمد عبد المعطي حجازي.
وفي مجال الرواية يكفيه أنه صاحب واحدة من أهم الروايات الواقعية في تاريخ الرواية العربية وهي رواية “الأرض”، والتي تحولت بعد ذلك إلى فيلم يعد كمن كلاسيكيات السينما المصرية والذي أخرجه يوسف شاهين في نهاية الستينيات، وهي رواية تجسد صراع الفلاح المصري مع  الإقطاع، من خلال شخصية “محمد أبوسويلم” الفلاح البسيط الذي بتشبث بأرضه حتى الموت.
وهو أيضا أحد رواد حركة التجديد المسرحي في مصر، بل هو ورفيقه الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور يمثلان قمة الهرم في المسرح الشعري، فإذا كان عبد الصبور قد غاص في التراث الصوفي ليقدم لنا جواهره المضيئة من خلال “مأساة الحلاج” و”الأميرة تنتظر” و”مسافر ليل” و”ليلى والمجنون”، فإن “الشرقاوي” قد بحث في لحظات الصراع في التاريخ الإسلامي ليقدم لنا رائعة “ثأر الله” المكونة من جزءين “الحسين ثائرا” و”الحسن شهيدا”.

الواقعية الاشتراكية
وينتمي الشرقاوي – بمعني من المعاني – إلى جيل “الواقعية الاشتراكية” في الأدب، وهو جيل له رؤية فنية تتوافق مع الواقع الاجتماعي وتعبر عن همومه، مبرزة قيم العدل والمساواة والحرية ومناهضة التراتب الطبقي، بحيث يصبح الإنسان وصراعه الدائم من أجل التحقق في ظل مجتمع يؤمن بالتعددية وتوزيع الثروات بشكل عادل، وهو الجيل الذي بدأ في الظهور على الساحة الثقافية وانضم بعضه إلى الحركات الثورية مثل “حدتو” وغيرها وكان له دور فاعل في التبشير بفكرة الثورة والتي تحققت بعد ذلك على يد الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952.
وقد ولد الشرقاوي في 10 نوفمبر 1921 بمحافظة المنوفية، وتخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة، وعمل محاميا لمدة عامين، ثم مفتشا في إدارة التحقيقات بوزارة المعارف، إلى أن قدم استقالته عام 1956 ليتفرغ للكتابة الصحفية، والتي كان اسمه بدأ يعرف فيها منذ عام 1936، حيث كان ينشر بعض المقالات المتفرقة في السياسة والأدب، حتى تولى رئاسة تحرير مجلة “الطليعة” الشهرية عام 1945، التي كان يصدرها “اتحاد خريجي الجامعة”، وفي عام 1950 شارك في تأسيس مجلة “الغد” مع الفنان حسن فؤاد، والتي اتخذت شعارا هو “الأدب في سبيل الحياة”، وفي عام 1970 عين الشرقاوي رئيسا لمجلس إدارة روز اليوسف، ثم تفرغ للكتابة بجريدة الأهرام منذ عام 1979 حتى رحيله عام 1987 عن عمر يناهز السادسة والستين.

لغة شعرية
وتتسم الكتابة الأدبية عند “الشرقاوي” بلغة شعرية راقية تعتمد في أغلب الأحيان على البحث المضني في الواقع العربي، وتدور معظم أعماله حول ثنائية الخير والشر والصراع الإنساني في مواجهة جحافل الظلم والاستبداد بأنواعه المختلفة، سواء كان استبدادا سياسيا أو اجتماعيا أو طبقيا.
لذا رأينا عددا كبيرا من أعماله تتعرض للرقابة، خاصة الرقابة الدينية، ربما لما في هذه الأعمال من مناقشة للمسكوت عنه في التاريخ الإسلامي، وليس أدل على ذلك من مسرحية “ثأر الله” والتي كتبها عام 1969، التي حاول المخرج الراحل كرم مطاوع تقديمها على خشبة المسرح القومي عام 1971، لكن في ليلة البروفة الأخيرة قرر الأزهر الشريف إيقافها بحجة اعتراضه على عدم جواز تقديم أصحاب الرسول وتشخيصهم، نظرا لأن النص المسرحي يتناول فترة تاريخية هامة في التاريخ الإسلامي، حيث يتناول شخصية الإمام الحسين كبطل شعبي يضحي بنفسه من أجل التأكيد على قيم إظهار الحقيقة والعدالة والنقاء الإنساني.
وعلى حد تعبير عبد الرحمن الشرقاوي في مقدمة مسرحيته فإنه يحاول من خلاله نصه أن يقدم للقارئ ولمشاهد المسرح أروع بطولة عرفها التاريخ الإنساني كله، دون التورط في تسجيل التاريخ بشخوصه وتفاصيله، التي لا يملك أن يقطع فيها بيقين.
ويؤكد الشرقاوي أنه ما سعى إلى تقديم شخصية الحسين إ”لا من وازع الحب لهذه الشخصية النادرة، فيقول في مقدمة المسرحية: “لقد علمتني أمي منذ طفولتي أن أحب الحسين ذلك الحب الحزين، الذي يخالطه الإعجاب والإكبار والشجن ويثير في النفس أسى غامضا، وحنينا خارقا إلى العدل والحرية والإخاء وأحلام الخلاص”.
وبالتأكيد فإن العمل الفني سواء اتخذ قناعا تاريخيا أو جاء وليد التخيل لا ينفصل بحال من الأحوال عن لحظته الزمنية التي ولد فيها، فقد نشرت المسرحية بعد هزيمة يونيو 1967 بعامين، أي بعد انهيار الحلم القومي ماديا ومعنويا، فكأن “الشرقاوي” بعين المثقف الواعي بالأمور والمشارك في الأحداث يقدم شهادته على مشروع الحرية المغتالة، التي كانتت تتجاذبها في تلك الآونة مجموعة من الخيوط والرؤى، لذا رأيناه يمزج في نصه بين التطلعات الثورية من خلال التأكيد على جوهر الحلم،ة “إلا أن هذا الحلم يأتي – عادة – مكبلا بكثير من القيود.
وهكذا كانت الحياة في مستواها الواقعي حيث آفاق التمرد والسعي في إحياء الحلم بالعدل الاجتماعي بعد هزيمة اغتالت هذا الحلم ماديا ومعنويا، وبين صورة الحاكم متمثلة في جمال عبد الناصر كرمز لمشروع الحرية، وبين قابلية التحقق التي طال انتظارها.
ومن هنا جاء استلهام الشرقاوي شخصية البطل “الحسين” تجسيدا للقيم النبيلة المفتقدة ولعل أهم ما تمثله حرية التعبير، أو كما جاء على لسان الحسين في النص المسرحي:
الحسين: أتعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة.. الكلمة
- دخول النار على كلمة
الكلمة لو تعرف رحمة
- زاد مذخور
الكلمة نور
بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري
الكلمة فرقان بين نبي وبغي
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور.. ودليل تتبعه الأمة
عيسى ما كان سوى كلمة
إن الكلمة مسئولية
شرف الله هو الكلمة
الوليد: بايع يزيدا واسترح
الحسين: لا.. لن أهادن أو أصانع.
وقد اعتمد “الشرقاوي” في كتابة هذا النص على فكرة “البطل التراجيدي” الذي يرى في التضحية مكن أجل مبادئه فردوسه الأعلى، وهذا النوع من الكتابة يتكئ على منظور مثالي للرؤية، وهي خاصية تميز الأطر الفنية العربية القائمة على تمثيل البطل الشعبي.
كذلك تكشف المسرحية عن رؤية دينية عميقة يتبناها المؤلف ويؤمن بها وتتوافق مع أصول الدين والسيرة المتواترة.
وهنا تكمن إشكالية هامة: إذا كان هذا النص المسرحي يمجد لحظة فارقة في التاريخ الإسلامي، ويجسد حقيقة وواقعة تاريخية كان لها أكبر الأثر على المسلمين قديما وحديثا، فلماذا المنع – إذن – رغم أن الإطار الفني والفكري الذي كتب به يتوافق مع المنظور الفكري للمؤسسة الدينية.
وهذا تناقض واضح يجعل قرار المنع غير مبرر.
وتكشف الوثائق المتبادلة بين الشرقاوي ومجمع البحوث الإسلامية عن تأكيد الشرقاوي على التزامه بعدم جواز تقديم أصحاب الرسول وتجسيد شخصياتهم على خشبة المسرح، حيث سيتم الاستعاضة عنهم بشخصية “الراوي”، لكن المجمع أعلن أنه “لا يجوز كذلك ظهور الراوي”!!.
مع العلم أنه في لقاء الرئيس السابق “محمد حسني مبارك” مع المثقفين في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1987، وبحضور الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر في ذلك الوقت، طالب المثقفون برفع الرقابة عن المسرحية فأجيبوا بأن الأزهر ليس جهة للمصادرة، وأن الاعتراض فقط على تمثيل وتشخيص أصحاب الرسول.
وقد حاول المخرج جلال الشرقاوي أكثر من مرة أن يأخذ موافقة من الأزهر الشريف بعرض المسرحية دون تجسيد للشخصيات بحيث سيستعاض عنها بالراوي، وبالفعل عقدت جلسة خاصة بمجمع البحوث الإسلامية في آواخر نوفمبر سنة 2000 وحضرها د.محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، بعد أن قدم له الشرقاوي التماسا بضرورة حضور هذه الجلسة،
حيث أكد “جلال الشرقاوي” في بدايتها على أنه “منذ فترة طويلة يراوده الحلم بتقديم شخصية الحسين رضي الله عنه على خشبة المسرح درسا ورمزا وعظة وقدوة ونموذجا عظيما وكريما لهذا الجيل وللأجيال التي ستليه، والموقف العظيم الذي وقفه الحسين رضي الله عنه في مجابهة العذاب، والشجاعة في مجابهة قوى القهر والطغيان، والإيمان الذي تجلى في صدق النبي صلى الله عليه وسلم.. كل هذا يجعلني – والكلام للشرقاوي_ مليئا بالإعجاب والإجلال بهذه الشخصية العظيمة، من هنا جاء حلمي بتجسيد هذه الشخصية وهذا الفعل فنيا على خشبة المسرح”.
ومن الناحية الفنية فإن الشرقاوي أكد على أنها تطرح عدة أسئلة حول موقف الشرع من توريث الملوك الحكم لأبنائهم، مما يناقض ال’ية الكريمة “وأمرهم شورى بينهم”، ثم نا موقف الدين من قوى الظلم والقهر التي مارسها “يزيد” في مواجهة “الحسين”؟.
ثم وجه كلامه لفضيلة شيخ الأزهر قائلا: وهناك سؤال يتعلق بي شخصيا وهو ما الذي يدفعني إلى أن أقدم مثل هذه التجربة الفنية مع ما يشوبها من محاذير سواء كانت هذه المحاذير رقابية أو دينية؟.
وفضيلتكم تعلمون أن شعبنا لا يميل إلى إعمال ذهنه بعد يوم طويل مفعم بالكد والإجهاد، وهو يريد أن يسري عن نفسه قليلا في نهاية اليوم ولا يفضل قضاء سهرة مع الفكر والذهن والعواطف النبيلة التي تحملها هذه المسرحية؟أليس في إنتاج مثل هذه المسرحية مغامرة مادية كبيرة؟ إذن ما الذي يدفعني أن أقدم على ذلك إلا إذا كان الغرض نبيلا شريفا، وليس من أجل إحداث فتنة! أنا أريد أن أقدم النموذج والمثل والقدوة فقط لهذا الجيل من خلال هذه الشخصية العظيمة.
ورد د.عبد المعطي بيومي عضو المجمع على الشرقاوي مشيرا إلى نبل الفكرة والغرض النبيل الذي دعا إليه‘ إلا أن هناك مجموعة من الأثار التي يمكن أن تترتب على عرض المسرحية منها أن الشرقاوي عرض لفكرة المواجهة، فأي مواجهة يقصد فالمواجهة هنا ضد فئة مسلمة، وليست ضد فئة باغية.
“أما د. محمد رجب بيومي –عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- فأكد على أهمية الأدب في دراسة التاريخ والنهوض بالواقع الاجتماعي.
في حين أشار د. رأفت عثمان عميد كلية الشريعة وقتها إلى أن عبد الرحمن الشرقاوي استقى رؤيته الفنية من بعض المصادر غير القوية من الناحية التاريخية، وطالب “عثمان” بالرجوع للقرار السابق للأزهر بالمنع.
ولم تكن معركة “الشرقاوي” مع الرقابة حول “ثأر الله” فقط بل سبقتها معركة أخرى أشد شراسة، وذلك حين ألف كتاب “محمد رسول الحرية” عام 1962، والذي نشره –في البداية مسلسلا – في جريدة المساء، ثم طبع في كتاب وصدر عن مكتبة عالم الكتب،، وبعد أيام قليلة من صدوره كتب الشيخ “محمد أبو زهرة” تقريرا يطالب فيه بمصادرة الكتاب.
حيث كتب أبوزهرة في تقريره:
“لم يسلم كتاب محمد رسول الحرية الذي أفه عبد الرحمن الشرقاوي من الخطأ.. أو بالأحرى كان له اتجاه غير ديني في دراسته، فهو ما درس محمدا صلى الله عليه وسلم على أنه رسول يوحى إليه، بل على أنه رجل عظيم له آراء اجتماعية فسرها الكاتب على ما يريد”
وبناء على هذا التقرير صادرت المباحث العامة الكتاب، مما جعل الشرقاوي يرسل ببرقية إلى الرئيس جمال عبد الناصر، والذي طلب من بعض رجال الدين والأدب كتابة مجموعة من التقارير حول الكتاب، والتي جاءت لصالحه مما جعله يأمر بالإفراج عنه والتصريح بنشره وتداوله بين الناس، وقد صدرت منه حتى الآن أكثر من عشر طبعات.


عيد عبد الحليم