التغريبة بنت الزناتي صراع العشق والخيانة

التغريبة بنت الزناتي  صراع العشق والخيانة

العدد 750 صدر بتاريخ 10يناير2022

من مشاعر العشق والحب كيف يمكن أن تنبت أشواك الخيانة؟ خيانة الوطن والأهل والعشيرة. هل هذا يبرر ذاك؟ في المقابل تنطلق أطماع الخسة والنذالة ليولد من رحمها الغدر بأقرب الأقربين. وهنا تبرز أسئلة شائكة: كيف يحاكم الحب والخيانة كل منهما الآخر؟ وهل العشق يبرر خيانة الأوطان؟ أن أصعب النهايات تلك النهايات المأساوية المؤلمة لفرسان كبار خاضوا بطولات ومعارك حيث يصل المطاف بكل جهودهم وبطولاتهم نهاية مؤلمة تحطمت معها أحلامهم وطموحاتهم وخسروا كل ما بذلوه بسبب الغدر والخيانة. 
من إنتاج الفرقة القومية للموسيقى والآلات الشعبية التابعة للبيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية قدمت المخرجة/ منار زين, العرض المسرحي «تغريبة بنت الزناتي» التي قام بإعدادها عن السيرة الهلالية المؤلف/ بكري عبد الحميد, وقدمت بقاعة صلاح جاهين بمسرح البالون. حيث تظل السيرة الهلالية منذ أكثر من 800 عام حتى الآن مصدر وحي وإلهام كثير من المبدعين لما فيها من أحداث وبطولات وهمم وحكايات مشوقة غنية بالشخصيات والمواقف التي تجذب مشاعر وعقول المستمع في مصر والوطن العربي كله حيث توثق لسيرة وهجرة بني هلال منذ خروجهم من نجد إلى تونس, فصارت ملحمة كبيرة من أهم مظاهر الأدب الشعبي تتناول الحياة الاجتماعية والفكرية في تلك الفترة بما تحمل من مواد درامية إنسانية عميقة ومدهشة للمتلقي.
إن استلهام التراث يتم على عدة مستويات؛ إما بتقديمه كما هو دون تدخل, وإما بتوظيفه وإسقاطه على الواقع أو بمساءلته والجدل معه. وفي عرض «التغريبة بنت الزناتي» برؤية درامية مختلفة قدم الكاتب/ بكري عبد الحميد وجهة نظره في أحد أنسجة تغريبة الهلالية بالتركيز على سلوكيات الشخصيات وتسليط الضوء على سلبياتها التي أدت إلى نتائج لم تكن أبدا حلم نهاية المطاف. لم يقدم بطولات وفتوحات أبوزيد ولا قصص العشق والحب بين الأبطال ولكنه قدم محاكمة صريحة لأبطالها من خلال الجدل مع التراث وإعادة تشكيله لاستنبات أفكار جديدة.
تدور رؤية العرض من خلال مواجهة بين دياب وسعدة يحاكم فيها كل منهما الآخر أو بمعنى أدق يكشف كل منهما زيف الآخر فيحاول دياب السيطرة على سعدة والنيل منها بمنطق أن حصوله عليها هو حق له بعدما تفوق في نهاية المطاف وصار حاكما وصار الجميع خدم له, وقد حقق انتصارا على أبو زيد (ولو بالغدر) وقتل الزناتي ليتمكن من حكم تونس , يصرخ لها قائلا:(هما فين الهلايل ؟ جتتهم عفنت تحت الشجرة الميتة ، وبيوتهم صارت خرايب ، سيوفهم انكسرت تحت رمح دياب ،وحريمهم جواري في قصر دياب ، وعيالهم من صلبي ، حتى انتى ..)، مواجها سعدة بخيانتها لأبيها الزناتي خليفة وخيانتها الأكبر لوطنها من أجل عشقها لمرعي بقوله: (انتى اللى سلمتى الهلايل مفاتيح تونس ، انتى اللى سوقتى لها الخراب والموت ، انتى اللى فتحتي البيبان عشان ندخل ودخلنا)، في المقابل تتهمه سعدة بالخسة وتحقيق بطولة زائفة لغدره بأبي زيد وطعنه في ظهره، وتحاول سعدة أن تستعين بحبها لمرعي لكنه مقيدا في سجنه لا يملك من أمره شيئا، وتستدعي شخصيات أبطال الهلالية من مرقدهم لعل أرواحهم تبعث فيها الأمل وتعينها على طمع دياب فيها, ويسخر دياب مؤكدا أنهم كلهم أموات ليس لهم نفع ولا ضر. وتحضر الشخصيات (أبو زيد والخضرة وحسن والجازية) وتقف في مواجهة دياب ويدور الجدل ليحاكم الجميع. وعليه يذكرنا الكاتب من خلال الفلاش باك (الاسترجاع) بومضات من الأحداث الرئيسة التي مرت بالشخصيات , فيبدو لنا (خضرة الشريفة والدة (أبو زيد) ، ووالده (رزق الهلالي) مع صرخات الأغبر الشخصية الشيطانية رمز الشر وهو يقول: (بنات يا هلايل ، كلكم ح تجيبوا بنات ) لتسليط الضوء على ولادة الخضرة لأبي زيد الأسود اللون مما يؤدي لاتهامها بالزنى وطردها من قبيلتها, وبالاسترجاع نعرف أن هذا يرجع إلى أن خضرة عند طرح أمنيتها مع النساء عند البحيرة قبل الولادة كانت قد اختارت الغراب الأسود.
كل هذا مع وجود شخصية (الأغبر) كشخصية شيطانية ملازمة لدياب ليزرع في رأسه الشر والغدر والخيانة والقسوة ويحرضه باستمرار على النيل من سعدى , وكان له دور كبير في تصعيد تلك الحالة طوال العرض في نفسية دياب, وهو يمثل معادل موضوعي لغراب البين رمز الشر والكراهية والحقد.
وتعد شخصية (شلقامية) العرافة من الشخصيات الرئيسة المحركة للأحداث, فالإرث الثقافي للعرب ويمثلهم هنا الهلالية لا يخل من اتباع نبؤات العرافين, مما حدا ببني هلال إطاعة مشورة شلقامية العرافة في هجر أرضهم الجدباء والرحيل إلى تونس حيث الخضرة الأرض النماء رغم اعتراضهم في البداية, تقول العرافة: (شايفة أرض وسيعه، ومطره كثيرة، وخير ممدود مش محدود، رزق في كل جيهه، منين ما تروح مرزوق يا سلطان), وينفذون رغم تشاؤمهم منها, لينطلق أبوزيد ويحيى ومرعي ويونس لاستكشاف الوطن الجديد.
 ويتواصل مع هذا في المقابل صوت الزناتي خليفة حيث تظهر روحه على فترات متقاطعة أثناء العرض ليذكر ابنته بالوطن مناديا تونس يا سعدة (رجليكى متحنيه بدمك ودم الزناتة، بتسقى الرياح حزن تونس، وتسلمي رقبة أبوكي لمشنقة الجلاد), ويظل صوته منبها لها حتى النهاية بلا فائدة, متهما إياها بالتفريط في الوطن وفي أبيها بسبب حبها لمرعي, مسترجعا نبوءة العرافة (وهي طوال العرض هي نفسها شلقامية في كل الأزمنة والأمكنة) أنه سيقتله غراب في توب أسد حينما قالت له (مكتوب عليك تحارب غراب و تموت بيد طير أحمر، ويده ما قتلتكش) فيطردها وينعتها بالشوم.
الأحداث كثيرة ومتشعبة لسنا في سبيل روايتها بالتفصيل لكنها باختصار اعتمدت على توضيح الأبعاد التاريخية والاجتماعية لكل شخصية بالاسترجاع الزمني والمكاني, اعتمادا أيضا على معرفة المتلقي السابقة بأحداث السيرة الهلالية قبل دخوله قاعة العرض, وتم ذلك من خلال الجدل المتواصل بين كل حدث سابق وبين حوار المواجهة والمكاشفة بين سعدى ودياب عدة مرات لبيان كيف أدت الخيانة والغد والأطماع إلى تلك النهاية المشؤومة والحزينة لبني هلال. بل ويحاول دياب اغتصاب سعدة بالقوة والاستيلاء عليها وامتلاكها بعد أن فرطت في وطنها وأبيها مقابل العشق ويصل الحال بأبطال الهلايل بخروجهم من القبور عميا وصما لا يقدرون على الفعل, فقد أصبحوا مجرد سير وذكريات لا نفع لها, ليبقى دياب وحده مسيطرا بجبروته وشره وغدره. 
اعتمدت المخرجة/ منار زين في رؤيتها على إدماج الجمهور في أحداث العرض منذ البداية حيث يبدأ العرض من خارج قاعة العرض بالراوي (شلقامية) الذي ينشد بصحبة فرقته من الآلات الشعبية الربابة والكولة والنقرزان والمزمار مصطحبا الجمهور إلى داخل القاعة، ومع دخول القاعة يستقبل المؤديون الحركيون المكتسين باللون الأسود بحركاتهم الشيطانية الجمهور بدءا من بابا الدخول حتى يجلس المتلقي بالمنتصف يحيطه موتيفات الديكور العربي من كل الجهات. ويمثل كل ركن من الأركان الأربعة مكان وزمان ما، حيث يدور القرص الدائري الذي يجلس عليه الجمهور حول نفسه لينتقل المتلقي إلى حدث ومكان مختلف (فلاش باك لأحداث سابقة) ثم يعود بالاستدارة ثانية ليعود للحدث الرئيس. وهذا التكنيك المختلف هو بديل لتغيير الديكور بأن يكون من خلال تحرك المتفرج بدلا من تحريك كتل أو قطع ديكورية في مكان ثابت، وقد شاهدت استخدام هذا التكنيك من قبل في عرضين بمسرح «الغد» بجلوس المتفرجين في منتصف الصالة وتقديم الأحداث من حوله على الجوانب والأركان, هما عرضي «حدوتة ملتوتة» إخراج/ أشرف فاروق (1998م)، و«عين في الجنة وعين في النار» إخراج/ إسماعيل مختار(1999م)، لكن باختلاف أسلوب التنفيذ حيث كانت إمكانية الحركة والاستدارة متوفرة في مقعد المتفرج حول نفسه، وهو أسلوب أفضل وأسهل نسبيا من قيام عدة عمال بتحريك قرص برتكابل يحمل عشرين متفرجا.
على مستوى الديكور (الذي صممه والإضاءة/ عمرو الأشرف) ساهمت فكرة وجود المتفرجين في منتصف الصالة في عملية دمج المتفرج داخل الحدث بإحاطة الديكور له من كل جانب، في موقع الحدث الرئيس تقبع في اليمين شجرة جدباء تساقطت كل أوراقها للدلالة على عقر بطون نساء الهلايل من إنجاب الذكور، وعلى اليسار ديكور معبر عن السجن الذي يقبع فيه مرعي تشكل من خامة الحبال المتشابكة, مختلطة ببعض أقمشة الخيش، ومع استدارة المتفرج لمشاهد الاسترجاع يواجه المتلقي موتيفات لقصر سلطان الهلايل ومجلس عربي. وقد تشكلت جنبات القاعة كاملة من موتيفات معبرة عن البيئة العربية بما تحمل من إضاءة ومشاعل وفنون أرابيسك. وقد اعتمدت الإضاءة على التأثير الخاص في اللحظات الخاصة بإسقاطات لونية مناسبة ومختلفة للحدث الدرامي ومتوافقة مع الحالة الآنية لاستهداف التأثير على المتلقي.
اعتمدت الرؤية الإخراجية على توظيف الموسيقى الشعبية والآلات الموسيقية التراثية مثل الربابة والمزمار والكولة, وأداء المواويل الموروثة والبكائيات من خلال أشعار السيرة الهلالية, (الموسيقي تلحين وتدريب/ هاني عبد الناصر) وفي هذا تم توظيف العرافة (شلقامية) في أداء دور الراوي بالتنقل بين الحالتين, رغم أنها في نظر الهلالية نذير الشؤم والنحس نظرا لما تنبأت به من أحداث تشاؤمية. وذلك بالتوازي والتداخل مع التعبير الحركي وكذلك الدراما الحركية التي غلبت على العرض والتي صممها/ مناضل عنتر بحرفية عالية معبرة عن دلالات الجمل الحوارية وعن طبيعة الأحداث, ورغم تميزها بالحداثة إلا أن أنها كانت متوافقة مع الطبيعة الطقسية مؤكدة على تضافر الموروث مع العصري , حيث يفتح هذا باب محاولة الإسقاط الغير المباشر على أحداث العصر الحالي, لبيان الشتات العربي وما آلت إليه أمة العرب من فرقة وتباعد بسبب سياسات الغدر والتخوين بين بعضهم البعض. 
أما الملابس التي صممتها/ شروق سامي, فكانت شكلا مناسبة لطبيعة العصر الذي تدور فيه الأحداث لكل الشخصيات ولطبيعة الشخصيات, مع إضافة اللمسات الخاصة لملابس سعدة باللون الأخضر رمزا لأرض تونس الخضراء التي يبحث عنها أهل الهلايل, واللون الأسود لشخصية الأغبر الشيطانية نذير الشؤم والخراب, مع ارتداء سترات بيضاء طويلة (لون الأكفان) لأرواح الشخصيات الخارجة من القبور لكونها أرواحا من عالم آخر أو شخصيات ميتة فهي شخوص مسالمة ليس بيدها أي فعل. كما اكتست ملابس مؤديين الدراما الحركية باللونين الأبيض لرموز الخير والحق, واللون الأسود لرموز الشر والشؤم. 
كما يجب الإشادة بدور الماكياج لوفاء داود, الذي تقنعت به شخصيات مثل الأغبر وشلقانية وأعوانهما من مؤدي التعبير الحركي , حيث له دور وتأثير مهم في إبراز ملامح تلك الشخصيات السوداوية الخبيثة التي كان لها أهميتها في سير الأحداث للنهاية.
 على مستوى الأداء التمثيلي برع حازم القاضي في دور «دياب» بكل انفعالاته وطبيعته الشريرة, وتمكن من إبراز أبعاد الشخصية وكل حالاتها النفسية بقوة, وكانت لقاء الصيرفي متميزة في دور «سعدة», أما عبد الباري سعد فقد لفت الأنظار بشدة في دور «الأغبر», وبخبرة عالية أدى يوسف عبيد دور «الزناتي خليفة», وكذلك أحسن جميع الممثلين أداء أدوارهم لحسن اختيار كل ممثل في شخصيته وهم: أحمد يحيي في دور «رزق», وليد فوزي في دور «السلطان حسن», شاهندة علي في دور «خضرة الشريفة», محي الدين يحيي في دور «مرعي», نسمة عادل في دور «الجازية», محمد متولي في دور «السلطان سرحان», مايكل تاودروس في دور «غانم», أحمد حلمي القاضي في دور «بدير», نهاد نايل في دور «سعيدة», أحمد مهدي في دور «عسقل», كما أحسن الراقصين أداء التعبير الحركي وهم: شيماء, نور, جني, جولي, جودي. أما الأداء الموسيقى فكان حيا وممتازا من خلال فرقة الآلات الشعبية: محمد شاكر ربابة, حسانين محمد نقرزان, محمود كولة, عنتر حسين مزمار, عبد المحسن الظني ربابة. 
عرض «التغريبة بنت الزناتي» عرض جيد جدا وجرئ ويحمل رؤية جديدة شكلا وموضوعا أحسنت فيه المخرجة منار زين قيادة العمل فنيا وفكريا وساهمت مع المؤلف/ بكري عيد الحميد في طرح رؤى جديدة ومختلفة بشكل فني ممتع أسعد المتلقي ووضعه أمام احتفالية فنية من الموروث الاجتماعي والسياسي والفني الذي يثير فكره حسه وشجونه. ولم يكتف بمجرد العرض وإنما عمل على تفسير واقع الشتات العربي الآن وفي كل زمان من خلال أحداث السيرة الهلالية. هو عرض يستحق المشاهدة ويضعنا أمام الكثير من أفكار مساءلة التراث والجدل معه.
 


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏