العدد 546 صدر بتاريخ 12فبراير2018
الحياة هي اللحظتان المتلازمتان بشكل مثير للدهشة، الميلاد والموت في آنٍ. إن مأثرة الزمن تكمن في قدرته على أن يولد ويموت أنيا في ديمومة لا تنتهي، ومضات مؤقتة وعابرة لا تدرك ذاتها إلا عبر ذاتها، بينما ندركها نحن عبر مفهوم التجاور يمكننا نحن البشر إدراك الزمن فيما نسميه الماضي والمستقبل من خلال التفكير فيهما باعتبارهما مجموعة من المشاهد المتجاورة التي تحدث بنفس الكثافة والتأثير في رؤوسنا، ورغم أن التجاور يحيلنا فورا لجعرافيا المكان، فإنه يزداد تعقيدا عندما يصبح ذا مدلول زمني يعن بجعرافيا الزمن، بحيث ينتحل مفهوم التسلسل التاريخي معنى جغرافيا، بأن تكون السنوات والقرون مرسومة على شبكة لا على خط مستقيم، فنجد أسلافنا من القردة العليا ما زالوا يعيشون إلى جوارنا على مقربة عدد من السنوات الضوئية، ربما نحتاج لسيارة تسير بسرعة ضوئية ما لزيارتهم، هذا ما يجعلنا ندرك أن الماضي والمستقبل مدينتان بعيدتان نوعا ما ولكنهما مع ذلك على خريطة واحدة، وأن لحظة الصفر المتلاشية هي النافذة التي تفصلهما، كما تفصل عالم يحيى أستاذ الجامعة المتقاعد، عن الثورة التي تدب في الميدان, هذا الجوار القريب جدا البعيد جدا.
“الآن” هذه اللحظة التي لا يمكن إدراكها إلا فيما تستولده وما تنفيه من أحداث، هي الثورة، اللحظة الدرامية التي يثبت عليها عرض “اضحك لما تموت” عدسته، في مستويين، مستوى داخلي هو بيت يحيى المنعزل عن العالم وحركته، ومستوى خارجي هو الثورة يخيم بظلاله وثقله وتداعياته على المشهد الداخلي الكائن أمامنا، وكأننا أمام لحظتنين زمنيتين، واحدة تصارع لثبات في الماضي والأخرى تصارع من أجل التحرر نحو المستقبل، ومن تجاورهما الفاضح وغير الآمن نستطيع إدراك “الآن” الدرامية التي تمثل لحظة محورية مضيئة في تكوين مصرنا الحبيبة.
يقدم لنا المسرح القومي العرض المسرحي “اضحك لما تموت” تأليف لينين الرملي، إخراج عصام السيد، بطولة نبيل الحلفاوي في دور يحيى، محمود الجندي في دور طاهر. هذه الشراكة الإبداعية الفريدة بين نجوم ربطتنا بهم علاقة استثنائية كجزء من تكويننا الدرامي والجمالي على خشبة المسرح القومي يضفي دلالات شعورية وحسية على الدراما المقدمة؛ بحيث لا تستدعي ذاتها وحسب بل تستدعي علاقة تاريخية تربط المتلقي بالعرض كجزء من تكوينه الجمالي باعتباره متورطا بتاريخه المرتبط بهولاء، وما يشكله هذا التكوين الجمالي من سلطة جمالية تبدو كما لو أنها تحاسب ذاتها سلفا بشكل استعاري مسبتدلة تاريخها الخاص بمفهوم مطلق للتاريخ داخل فضاء العرض.
هذه الدراما التي ترصد بدورها لحظة الانقسام بين الماضي والمستقبل، ما سيمتد لباطن الأرض وما سيبزغ نحو السماء. اللحظة التي يتجاور فيها الماضي المتجسد في مشهد شقة يحيى المغلقة عن صيرورة الأحداث خارجها، والمتجمدة في لحظة ماوضوية يعيش فيها الأستاذ الجامعي المنهزم أمام وجوده المهني كأستاذ فشل في أن يمنح لواقعه الحقيقة الأمينة من وجهة نظره، كما فشل في وجوده الأسري عبر انهزامات متتالية سياسية لحقت بعائلته منذ شلل الأب، وكيف انعكس الواقع السياسي على الواقع الأسري، وصولا لصدام بينه وبين ابنه “أشرف” الذي خرج هاربا من حصار الماضي إلى الميدان حيث مستقبل ما يتشكل. تعيش بالشقة نفسها أيضا “شربات” هذه الفتاة الأمية المشردة المصابة بنوع من الرهاب الاجتماعي يجعلها تعاني من التبول اللاإرادي في بعض الأحيان، هذا الرهاب نتاج صدمة خروجها الأول الذي لم تكن مؤهلة له والذي جعلها تتعرض للكثير من الانتهاكات الجسدية.
وجود شخصية شربات – التي لعبت دورها إيمان إمام - الفتاة الأمية من الطبقة الفقيرة التي تعيش مع يحيى أستاذ الجامعة، استدعى الكثير من الأسئلة عن طبيعة العلاقة الغريبة عن مجتمعاتنا من ناحية، ومن ناحية أخرى تستدعي تساؤلا حتميا عما يمنحه كل منهما للآخر في هذه العلاقة التي تضع عمقا آخر لمسألة الدور الأبوي وشرعيته، فنجد «يحيى» المسلوب منه الدور الأبوي بالمعنى الوجودي والوظيفي سواء كأستاذ جامعة أو كأب فعلي يحتاج لاستعادة وجوده من خلال التعويض، الذي يتحقق في علاقته بشربات من خلال التبني الفكري والحماية التي يمارسها عليها لكي يبقى على قيد الحياة من خلال الأبوة كمركز، في مقابل «شربات» التي يعبر خروجها عن أسرتها بالأساس عن انهيار منظومة الحماية الأبوية وفشلها تماما كخروج أشرف ابن يحيى عن المنظومة، وبالتالي تحدث عملية الانتحال، فهذه اللحظة المؤقتة من الانتحال بأن تنتحل شربات دور «أشرف» في طوره الطفولي هذا الابن الذي خرج ولن يعود إلى هذه اللوحة الأسرية، وأن ينتحل يحيى مؤسسة العائلة بأكلمها لشربات وكأن ما يحدث في هذه الشقة من تلفيق وتباديل وتوافيق هو بمثابة بعث الحياة في هذا العالم الميت.
يعيش أيضا في هذه الشقة جثة تظهر وتختفي وهي بمثابة وجود استعاري ليحيى بشكل خاص وللماضي بشكل عام، فتعبر الجثة عن اللافعل كما يؤكد على هذه الاستعارة وجود الكرسي المتحرك في الصورة المسرحية بين لحظة وأخرى بحيث يستحضر حالة الشلل للمشهد، وعلى مستوى جمالي أضاف ظهورها المحسوب بدقة على مستوى الوقت والمكان حالة من المباغتة التي أضفت الحيوية واستثارة الانتباه.
تبدأ المسرحية بقدوم طاهر لبيت يحيى باحثا عن مأوى بعد أن طردته زوجته وأخذت أمواله، طاهر هو فنان تشكيلي وصديق قديم ليحيى، طاهر أيضا يعاني من الفشل المهني والاجتماعي والعاطفي والأسري، فابنة طاهر تجوب العالم متناسية والدها تماما الذي يفكر باستمرار في الانتحار لأجل هذه العلاقة الأبوية المنهارة، في الوقت الذي نرى فيه داخل الشقة صورا كثيرة للأبوية المنهارة والفشل في إدارة الحوار ومحاولات التماسك الوهمي والصور المكررة لعراك العجائز بين يحيى وطاهر واجترار الذكريات ونعي الحظ في الأبناء الذين خرجوا، أو الحديث عن الثورة باعتبارها هامشا يتم رفضه من يحيى أو تزكيته من طاهر أو وصمه بأنه هوجة من شربات ورغم أن الحديث عن الثورة هو خط لا يكاد ينقطع إلا أنه يشي بنوع من عدم الإدراك والإنكار لهذا العالم داخل الشقة لكل ما هو خارجه، إلى أن تخرج شربات بفعل الصدفة عندما يحاول طاهر التخلص منها حفاظا على يحيى، فيظهر الميدان بكل ديناميته سيلويت يحتل المشهد الساكن لأول مرة، وهي اللحظة التي تمهد للتحول على مستوى الحدث، فموت يحيى يبدأ فعليا من خروج شربات واجتراح مشهد الميدان لمشهد الشقة، فحتى بعد أن تعود شربات محملة بدم جديد هو الثورة بصحبة شاب من الميدان، يطلب منها يحيى أن تخرج لتلاقي مصيرها الحقيقي الناتج عن فعلها، ثم يموت يحيى كتحصيل حاصل لفعل مرجأ لا أكثر، وهنا يخرج الميدان ليحتل فضاء الشقة بشكل فعلي وينتهي العرض بجلوس طاهر على المقعد المتحرك بدلا من يحيى، ولوحة الثوار تتقدم العمق حتى مقدمة المسرح كلوحة نهائية قاب قوسين، بين ستارتي المسرح، وكأنها تعلن عن عصيانها لإغلاق العرض، فالعرض هو الصورة الدينامية التي تنتقل من الهامش إلى المتن.
في حركة مسرحية مرسومة بوعي وحنكة، شديدة الإنسانية والبساطة وأداءات تمثيلية هادئة ومنتظمة وتباغتنا بضحكات لا تنفك أن تنقطع من الصالة حتى تبدأ من جديد، نجد أنفسنا في تصالح مع حركة الزمن مع المخاض الدائم، مع عملية الإحلال والتجديد الواجبة، نجد أنفسنا أمام الحياة أحببنا يحيى وطاهر، وتعلقنا بالخروج نحو مستقبل أفضل مع أشرف وشربات وملايين ممن خرجوا آملين في الحياة وهاربين من الموت.