تجارب في تطوير فنون الأداء المسرحي (1-2)

تجارب في تطوير  فنون الأداء المسرحي (1-2)

العدد 856 صدر بتاريخ 22يناير2024

اعتمد المسرح ـ عبر تاريخه الطويل - على عنصرين فنيين في التجديد هما تنوع طرق الأداء التعبيري وعملية التلقي المتصاعد من قبل الجمهور مما نتج عنه سقوط الحواجز في علاقة تبادلية أنتجت أنساقا جديدة تعتمد على مسرحة فضاءات جامدة مهملة لم تكن مستخدمة من قبل في العرض المسرحي من أجل تثوير الوعي الغائب وإعطائه إمكانيات للحضور لم يأخذها في فترات سابقة.
منذ أرسطو والشخصية الدرامية هي المكون الجوهري الفارق والمميز للدراما عن غيرها من الفنون وخاصة السرد الذي يقوم على شخصية سردية، وفي هذا يقول أرسطو: « وتتم هذه المحاكاة في شكل درامي لا في شكل سردي» وهو يوضح المقصود بالشكل الدرامي حين يقول: إن المحاكاة يقوم بها أناس يفعلون «فالدراما التي هي فعل لا تقوم إلا بوجود الفاعلين/الشخصيات/الممثلين على خشبة المسرح، وهو ما يعبر عنه أرسطو أيضا إذ يقول: «إن الفعل يقضي بوجود بعض الأشخاص كي يؤدوه، وإن لهؤلاء الأشخاص بالضرورة – بعض الخصائص المميزة»
وهناك العديد من الأمثلة والنماذج على أهمية الشخصية في بناء الدراما، وعلى ضرورة معرفة المؤلف بشخصياته قبل أن يكتب، وربما يذهب رأي إلى أن هذا الأمر من البديهيات التي لا تحتاج إلى حشد الآراء لإثباتها ولا حتى للنماذج الثلاثة السابقة، لكن واقع الكتابة المسرحية يثبت أن هذه البديهية عند البعض طلاسم، فالاهتمام بمعرفة وبناء الشخصية ليس موضوعًا محسومًا ومسلمًا به ومنتهيًا، لكن الأهم من هذا هو اعتبار النص المطبوع نقطة انطلاق لكل صناع العرض، الذين من حقهم على المؤلف، بل ومن حق المؤلف نفسه على نفسه، ألا يدخر وسعا في ضبط جميع علامات نصه بحيث يكون واضحا في غير مباشرة، وممتلئا في غير تعقيد ولا إبهام، وجزءا أساسيا من مهمة المؤلف هذه، تتعلق بمعرفته وبنائه لشخصياته ليعرفها القارئ/المخرج/الممثل/السينوغراف/الموسيقي/الكريوجراف كما يعرفها المؤلف، وللجميع بقيادة المخرج فيما بعد أن يتفقوا مع المؤلف أو يختلفوا، أن يلتزموا أو لا يلتزموا بما كتبه عن شخصياته، وهنا يكون أمام النقد مجال أوسع للمقارنة والتحليل، ويكون أمام الجمهور كذلك مجال أوسع للاستمتاع بإبداع  المؤلف وإبداع  المخرج في حالات الاتفاق والاختلاف بدرجاتهم. مما يساهم في حل بعض مشكلات الواقع المسرحي الخاصة بالخلافات بين المخرج والمؤلف، والتي كتب عنها على سبيل المثال نجيب سرور تحت عنوان الصراع بين المؤلف والمخرج، في كتابه حوار في المسرح فالمؤلف بوعيه بأن هذا النص يكتب في الأساس لكي يعرض، يعي أن عليه أن يكتب به كل ما من شأنه أن يساعد كل فناني العرض بقيادة المخرج على فهم النص فهما عميقا، وبالتالي بناء منظوماتهم العلاماتية فوق منظومة واضحة ومبنية بإحكام، وليس مجرد تفريغ لشحنة انفعالية، أو ذهنية في قالب حواري يأخذ من النص المسرحي شكله الخارجي كقشرة لا تحوي بداخلها لا دراما ولا مسرح، وهو ما يحدث غالبا عند المؤلفين المبتدئين.
تعد ملامح الشخصية التعبيرية من أهم العناصر الدالة على الدراما التعبيرية بشكل عام، حيث تتكرر ملامح هذه الشخصية ضمن سمات التعبيرية في غالبية المراجع، لكن هذه الملامح لا تتميز بما تتميز به مثلا «خصائص الشخصية التراجيدية» في كتاب فن الشعر لأرسطو فالتعبيرية التي اتجه مبدعوها لتصوير «الحقيقة الداخلية للنفس البشرية») لم تهتم بتصوير العالم تصويرا موضوعيا، وكلما اتجه رسم الشخصية لداخل النفس البشرية للمؤلف أو للشخصية، كان هناك من الخصوصية في كل تجربة ما يصعب أحيانًا الوصول لقاسم مشترك كبير وواضح تقنيا، يمثل علامة دالة بغير لبس على ملامح الشخصية الدرامية التعبيرية.
وصانع المسرح الذكي هو القادر على تجسير الهوة مابين الخشبة والمشاهدين، وهذا لن يتم إلا بوجود دراسة معمقة حول هوية هذا الجمهور، تقول «هيلين فريشواتر»: «من المهم أن نتذكر أن كل جمهور مكون من الأفراد الذين يحضرون نقاطهم المرجعية الثقافية، ومعتقداتهم السياسية، وميولهم الجنسية، وتاريخهم الشخصي، وانشغالاتهم الفورية عند تفسيرهم للعرض».
والمسرح التجريبي هو المسرح الأكثر جذبا للجمهور، لأنه يقوم على عناصر مهمة منها الإدهاش، وكسر حاجز التوقع، والفعل الجماعي، من خلال التفاعلية المتنامية أثناء العرض، فكل عنصر من عناصر العمل المسرحي يحس بذاته وبأهميته وبأن له دورا فاعلا في العملية المسرحية.   
وأصبحت كثير من دراسات المسرح والأداء تؤكد على فكرة ضرورة المشاركة مع الجمهور، ولعل الصيحة التي أطلقها الفنان الفرنسي «جان جاك لابل» عام 1968م، والتي دعا فيها إلى التقارب بين المسرح والجمهور والتي يقول فيها: «لا لمسرح أو مشاهد باهظة الثمن من أجل جمهور سلبي من المستهلكين- ولكن مؤسسة جماعية حقا في البحوث السياسية والفنية، ويجري التجريب على نوع جديد من العلاقة بين منفذيها والمتفرجين.
 الصيحة كانت ضمن صيحات متعددة، كانت بداية لفكرة التجريب المسرحي في الغرب، والذي كان «ثورة وخروجا على المؤسسات ونزوعا دائما إلى ربط الفن بالحياة.
إن التيار الرئيسي في المسرح الطليعي لا يمكن تحديده بمجرد وجود سمات أسلوبية مشتركة، وإن كانت هذه السمات شديدة الوضوح، إنما يعد المسرح الطليعي في أساسه توجها فلسفيا؛ فأعضاء هذا المسرح يربطهم توجه معين إزاء المجتمع، كما يربطهم توجه جمالي خاص، ورغبة في إعادة صياغة طبيعة العرض المسرح».
من هذا المنطلق جاءت تجربة «مسرح الشمس» التي تأسست عام 1964 على يد «أريان منوشكين»، وأصبح مسرحهم «من أشهر المسارح في أوروبا، وقد سعى باستمرار وتصميم إلى أن يدخل تعديلات ممتازة في شكل الأداء المسرحي ونظرية المسرح باعتبار أن المسرح لون من ألوان الممارسة الاجتماعية».
ولقد رأينا فن «المسرح» في تلك العلاقة الحميمية «التلامسية» المباشرة فيما بين الممثل وبين الجمهور حيث تكمن فيها عناصر السحر والعمل معا.. وذلك من خلال القدرة التوليدية للمسرح ـ كظاهرة اجتماعية ـ على إبداع شرارة التواصل الإنساني الفعال «بالحركة والصوت والكلمة وبالإشارة والإيقاع..» أيضا من خلال قدرة المسرح ـ كحالة جماعية متميزة ـ على إتاحة المجال لتبادل الأدوار والذوبان الجمعي في مناطق شعورية مستحيلة، وأزمنة لا شعورية حالمة، بعيدة الغور في أعماق كل من قطبي العملية المسرحية «ممثل/ جمهور».
 وقد ظهرت مجموعة من الأشكال لتطوير العلاقة بين الممثل والنص المسرحي من خلال تطوير التقنيات المسرحية، ومنها فكرة «المختبر المسرحي»، يطلق «المختبر المسرحي» على «التجمع في إطار مغلق وخاص يأخذ فيه طابع التجريب دون أن يؤدي بالضرورة إلى عرض مسرحي».
وتعود البداية في ظهور «المختبر المسرحي» للفرنسي «إدوارد أوتان» (1871- 1964)، وزوجته «لويزا لارا» (1874- 1952) حين أسسا معا «مختبر الفن والفعل» في العاصمة الفرنسية باريس، ثم طور الفكرة «جرتوفسكي» من خلال معمله المسرحي في بولندا، والذي أطلق عليه اسم «المسرح الفقير»، وقامت أسس مسرحه على عدة مفاهيم، منها التخلي عن خشبة المسرح التقليدية، والتمييز بين مكان الممثلين ومكان الجمهور، وإعطاء الممثلين حرية الحركة بين الجمهور، يقول بيتر بروك: «كان جرتوفسكي بمثابة الفنار الذي يهدي الفنان إلى إمكانية الوصول إلى مستوى أرقى وأعمق وأشد تأثيرا، ولكن على شرط أن يصل الممثل إلى درجة من الإخلاص والجدية، بل والتفاني، فضلا عن التمكن التام من جميع أدوات الممثل».
وفي الوطن العربي بدأ منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي ظهور مجموعة من المختبرات المسرحية كان من أهمها «محترف بيروت للمسرح» 1968م،  للمخرج اللبناني روجيه عساف في بيروت، يقول بيار أبي صعب عن تجربة مسرح المختبر: «المسرح هنا مدرسة المواطنة، ومختبر لمستقبل نهضوي، وبلد على مقاس أهله، المسرح العسافي مكان لقاء الممثلين والممثلات، القادمين من كل الجهات والشرائح، ليتبادلوا الأحلام والأوجاع والمشاغل ليحفروا معا في اللاوعي أو في الحاضر وأسئلته».
ومما لاشك فيه فقد استفاد «عساف» من جرتوفسكي ومعمله المسرحي، فنظرة سريعة على عروضه التي قدمها سنجد أن من خصائص لعبته المسرحية نقلها للقرى والمناطق الشعبية، في محاولة منه لتقديم مسرح بسيط فقير في إمكانياته غني في تقديم دلالاته، ظهر ذلك في عروضه «بوابة فاطمة»، و»أيام الخيام» وغيرها.
أما المخرج عبد الرحمن عرنوس فقد أسس «مختبر جامعة اليرموك المسرحي» في الفترة ما بين (1983- 1987)، وكان من أهدافه هو «إيجاد الفرق بين المختبر المسرحي، الذي يجعل العضو يهتم بمعرفة مفردات الصورة المسرحية، ويتعامل معها إبداعا، ويستخدم خامات من البيئة أو يعيد صياغة الخامات القديمة ويخرج باحثا عن خشبات مسرح غير تقليدية كالساحات والبحيرات والسيارات والمراكب والمباني القديمة، ومختبر تدريب الممثل الذي يبحث عن منهج لتدريب الممثل له خصوصية عربية مستفيدا من مناهج المنظرين العالميين ومرتكزا على نظرية الإدراك الحسي عند الإنسان لابن سينا، ويطبقه على تفجير إحساس الممثل».
وتأتي معظم هذه التجارب من منطلق تطوير الأداء التمثيلي لأن «هيئة الممثل أصبحت جزءا مهما من تكوين الصورة».


عيد عبد الحليم