ابن دانيال.. أرستوفانيس العرب (1 - 2)

ابن دانيال.. أرستوفانيس العرب (1 - 2)

العدد 594 صدر بتاريخ 14يناير2019

يسر جريدة “مسرحنا” أن تقدم لقرائها مقالا لأحد أهم النقاد والمؤرخين المسرحيين المعاصرين وهو البروفسور مارفن كارلسون؛ حيث يتناول المقال مرحلة هامة وفاصلة في تطور الظاهرة المسرحية العربية وهي مرحلة بابات ابن دنيال في العصر المملوكي التي وأن لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم التعريف والتقديم لها إلا أن لها أهمية خاصة نتيجة صدورها من أحد أهم النقاد المعاصرين عالميا، وكذلك ترجمتها من خلال الأستاذ سباعي السيد الذي يمتلك رصيدا كبيرا ومهما في الترجمة المتخصصة لمجال المسرح.  وتعتذر إدارة الجريدة عن اضطرارها إلى إصدار المقال مجزءا على عددين لضخامته، آملين أن يسهم في فتح مجال للنقاش.
مسرحنا تقديم قصير لا بد منه
هذا البحث الذي أقدم ترجمته هنا، نشره البروفسور الأمريكي مارفن كارلسون في مجلة الدراما المقارنة Comparative Drama قبل بضع سنوات وتحديدا في العام 2013. ونال جائزة أوسكار بروكيت للمقال النقدي من الجمعية الأمريكية للبحث المسرحي عام 2014. هذا البحث يعكس جانبا من اهتمام كارلسون واشتغاله على المسرح العربي، من بين اهتماماته المتعددة المتشعبة التي تراوحت بين نظرية الدراما وتاريخ المسرح وغيرها من علوم المسرح، حيث قام بتحرير وتقديم عدد من الكتب التي تتضمن نصوصا عربية استلهمت أعمالا درامية غربية مثل هاملت وأوديب وغيرهما.
كما قدم كارلسون وحرر كتابا صدر حديثا بعنوان “مسرح من قاهرة العصور الوسطى - ثلاثية ابن دانيال” يضم لأول مرة ترجمة إنجليزية كاملة لبابات ابن دانيال الشاعر القاهري النشأة الموصلي الولادة الذي عاش في القرن الثالث عشر. والذي يعتبر في حدود علمنا أول كاتب في تاريخ الدراما العربية وإن كان قد وضع باباته الثلاث لمسرح خيال الظل. وفي هذا البحث يحاول كارلسون أن يثبت تأثر ابن دانيال بأرستوفانيس وتشابه البنية الدرامية في عمليهما رغم القرون الفاصلة بينهما. وينقب في الأدلة التاريخية لإثبات فرضيته.
لن أقدم لهذا البحث الشيق وإن كنت أود أن أشير إلى أنني اعتمدت في ضبط الترجمة العربية نسخة محققة من كتاب ابن دانيال، هي نسخة أقرب إلى الاكتمال، حققها سيد كسروي حسن ضمن كتاب “رسائل طيف الخيال في الجد والهزل” (دار الكتب العلمية – بيروت 2009)، وهي تختلف عن نسخة أستاذنا الراحل د. إبراهيم حمادة الذي حذف في دراسته المعروفة والرائدة “خيال الظل وبابات ابن دانيال” (1961) أغلب نص بابة (المُتيَّم والضائع اليتيَّم)، معتذرا عما حوته من ألفاظ المجون والشذوذ. وهذه البابة أو المسرحية الأخيرة في ثلاثية ابن دانيال هي التي ارتكز عليها كارلسون في المقارنة بين كوميديا أرستوفانيس وابن دانيال، مما يثير أسئلة شديدة الأهمية عن قراءة وإعادة قراءة تراثنا، وموقفنا «الأخلاقي» منه.
الأمر الثاني أن كارلسون ليس صاحب تسمية ابن دانيال بأرستوفانيس العرب فقد سبقه وليم هسلي إلى ذلك - كما أقر هو في بحثه - كما سبقه إلى درس خيال الظل في العصر المملوكي والاهتمام بالفنون المملوكية عموما ثلة من الباحثين الألمان أبرزهم جيورج ياكوب Jacob.
إن اهتمام كارلسون بالبحث في الدراما العربية جدير بالنظر والاعتبار نظرا لأن كتاباته تطرح رؤية للثقافة العربية من وجهة نظر مختلفة تعتمد المقارنة بين تلك الثقافة وغيرها من الثقافات في إطار من التقدير والموضوعية العلمية.
أيضا تشير أبحاث كارلسون إلى بُعد آخر يقتضي من الباحث العربي المزيد من التعمق في الأصول العربية والمصرية لدراما خيال الظل المصرية من مقامات وأشعار وغيرها. فإذا كان كارلسون قد بحث في الصلة بين ابن دانيال وأرستوفانيس، فهناك الكثير مما يستحق الدرس في تاريخ دراما خيال الظل فيما قبل ابن دانيال وما بعده، ومصادره الأدبية والفولكلورية العربية. ولكن هذا حديث آخر، آمل أن أعود إليه لاحقا.
أرستوفانيس العرب
بدأ الكاتب المسرحي المصري ابن دانيال الذي ينتمي إلى القرن إلى الثالث عشر يسترعي الاهتمام الغربي كواحد من أهم كتاب الدراما في العصور الوسطى. لقد كانت كتابته لمسرحيات خيال الظل، وهو شكل من الأشكال التي اعتبرها الباحثون العرب والغربيون على حد سواء أقل شأنا من الناحية الفنية، وأيضا كتابته باللغة العربية، وهي لغة يظن معظم الباحثين الغربيين خطأ - أنها لم تنتج دراما قبل المرحلة الكولونيالية – كانت سببا بلا شك في خسوفها الطويل. فقد اعتبر الشعر في العالم العربي دائما أرقى الأشكال الأدبية، ولأن ابن دانيال كان يعتبر من الشعراء البارزين في عصره، فقد ظل في الذاكرة كشاعر في ذلك العالم، بينما لم تلق مسرحياته الثلاث التي كتبها في نهاية مشواره الابداعي إلا صدى أقل نسبيا.
ولكن من الواضح أن هذا الوضع يتغير حاليا، حيث أعيد بناء المسرحيات من مخطوطات متناثرة في العالم العربي في العصور الوسطى، من إسطنبول إلى الاسكوريال في إسبانيا، وطبعت كاملة لأول مرة عام 1992(1)، ويرجع الفضل الكبير في ذلك إلى جهود بضعة باحثين ألمان معاصرين، قادهم جيورج ياكوب Jacob، ومن هنا حتى الباحثين ممن لديهم معرفة معقولة باللغة العربية لم يتسن لهم أن يطلعوا على هذه الابداعات المتميزة، إلا قبل عقدين من الزمن. وتدريجيا ذاع الأمر وظهرت أول دراسة مطولة عن ابن دانيال في كتاب نشر بالإنجليزية عام 2012، مع ترجمة لإحدى مسرحياته الثلاث (2) وبدأ الباحثون الغربيون يدركون أن هذا الكاتب الدرامي المعروف بالكاد قد أنتج بضعة من أكثر الأعمال الدرامية المنتمية إلى العصور الوسطى جودة وتعقيدا، منافسا ومتجاوزا لأي عمل درامي معروف تقريبا، سواء في العالم العربي أو الغربي لعدة قرون سابقة ولاحقة عليه.
ولد ابن دانيال في الموصل بالعراق، وفي نحو عام 1260 فر إلى القاهرة، وهو في العشرينات من عمره هاربا من الغزو المغولي لمدينته. وفي القاهرة عمل لفترة كطبيب للعيون، ولكنه سرعان ما اشتهر بين الصعاليك كشاعر موهوب وظريف، وكشخص يبحث عن نمط حياة متحرر. ومع ذلك فقد صادفت موهبته الشعرية اعترافا وقبولا متزايداَ. وعلى طريقة الشعراء الشبان المعدمين عبر العصور، سعى ابن دانيال إلى قدر من الأمان المالي فألف أشعارا هي في الغالب مدائح لعلية القوم. في قمة الهرم الاجتماعي كان السلطان، وفي الوقت الذي وصل فيه ابن دانيال إلى مصر كانت السلطنة تمر بتحول خطير. حيث المحارب القوي بيبرس الذي هزم وأسر لويس التاسع ملك فرنسا، منهيا الحرب الصليبية الرابعة، والأخطر أنه هزم في العام التالي قائد المغول هولاكو وأوقف تقدم المغول إلى الشرق الأوسط، وتزوج من ملكة مصر الأرملة وأسس سلالة حاكمة جديدة غير عربية وهم المماليك الذين حكموا مصر لعدة قرون تالية.
خلال زحفهم إلى القاهرة اجتاح المغول ونهبوا بغداد ودمشق، تاركين المدينة المصرية بوصفها قلب العالم العربي الفكري والتجاري بلا جدال، وهو دور احتفظت به منذ ذلك الحين. وقام السلطان الجديد بيبرس باستكمال دعائم مجده، وأثبت نجاحه كحاكم كما نجح كقائد عسكري. وكان لديه اهتمام ضئيل بالفنون، وحملاته لتطوير المدينة وضعت قيودا على أشياء كالشراب والدعارة، مما أكسبه احتراما أقل في أوساط الصعاليك، الذين عاش في وسطهم ابن دانيال الشاب.
أما بركة ابن بيبرس الذي اعتلى العرش خلفا لوالده في عام 1277، فلم يكترث مثله مثل أبيه بالشعر أو بالفنون. هذا الحاكم الضعيف أقصاه والد زوجته قلاوون، حيث تحول اهتمام السلطان مرة أخرى إلى الفنون وجلب كبار المطربين والشعراء للترفيه عن البلاط، بعد عدد من السنين العجاف.
وبحلول ذلك الوقت ارتفع نجم ابن دانيال بين الطبقات العليا بحيث أصبح بالفعل شاعر البلاط، وكتب الكثير من القصائد الاحتفالية للمناسبات مثل رحلات الصيد والمهرجانات. واحتفظ ابن دانيال بهذه المكانة حتى 1294، حين وصل إلى ذروة نفوذه الشعري في ظل خليفة قلاوون، أخيه الأشرف خليل. وجاء اغتيال خليل عام 1294 ليشعل فترة طويلة من الصراعات على السلطنة، مما أشعر شخصا مثل ابن دانيال بالخطر. فعاد إلى الاعتماد على نفسه من خلال كتابة قصائد المدح للاحتفال برعاة أقل شأنا - مثل السياسيين الأقل أهمية والتجار، والأصدقاء، ورجال الدين.
ولحسن الطالع، كان من بين هؤلاء الرعاة الجدد، أحد منتجي مسرح خيال الظل، ممن أصابه اليأس على ما يبدو من الريبرتوار التقليدي والذي لا يلاقي احتراما كبيرا، هذا المنتج طلب من الشاعر، كما يشرح ابن دانيال في مقدمته لأولى مسرحياته، أن ينشئ ثلاث مسرحيات جديدة ذات قيمة أدبية وفنية حقيقية. وقد وضعت هذه المسرحيات لا لإرضاء الحشود التقليدية في الشوارع بالدرجة الأولى، وإنما من أجل أصدقاء الراعي الذين ينتمون إلى طبقة اجتماعية أعلى، ويتحلون بذائقة أرفع.
كان مسرح الدمى في زمن ابن دانيال شكلا فنيا من الترفيه سواء لعامة الشعب أو للبلاط، على الرغم من ضعف التقدير الأدبي. وكانت الدمى المشاركة دمى ظلية مثل تلك التي لا تزال تستخدم في مسرح وايانج Wayang في إندونيسيا أو الأراجوز في تركيا، بأشكال ثنائية الأبعاد يتم معالجتها أو تحريكها من وراء شاشة شفافة بواسطة فنان الدمى بحيث تظهر ظلالها للجمهور على الجانب الآخر من الشاشة. وتعود أقدم إشارة إلى هذا الشكل في مصر إلى القرن الحادي عشر، عندما وصف عالم البصريات ابن الهيثم عرض دمى يتكون من «أشكال يقوم [المقدم] بتحريكها من وراء الستار بحيث تظهر ظلالها على الحائط، وعلى الستارة نفسها. وبعد قرن من الزمان روي عن صلاح الدين، أول سلاطين مصر، أنه قام بدعوة لاعبي خيال الظل إلى بلاطه في القاهرة. لذلك عندما أدلى ابن دانيال بدلوه في هذا الشكل فقد كان يعرض في مصر منذ قرنين من الزمان أو يزيد. ومع ذلك يبدو خيال الظل أساسا كشكل شعبي. لا يدعي المكانة الأدبية، وصاحب عرضه خرافات كبيرة من قبل شخصيات دينية محافظة.
ولم تصلنا مسرحية واحدة من مسرحيات خيال الظل في القرنين السابقين على ابن دانيال، لذلك ليست لدينا مخطوطات تدعم ادعاء الشاعر بأنه ارتقى بهذا الشكل الفني إلى مرتبة جديدة وأدبية.. وحقيقة أنه تم الحفاظ على مسرحياته الثلاث كلها، في حين لم تصلنا أية أعمال سابقة عليه تدعم تلك المزاعم بقوة. وتبين وثائق موجودة ومتوافرة نسبيا أن مسرحياته استمرت شعبيتها بعد فترة طويلة من وفاته، كما سار كتاب آخرون على نهجه لفترة استمرت مائة عام أخرى أو يزيد، منتجين أعمالا تم وصفها بأنها فاجرة وفاحشة على نحو متزايد. ومع ذلك، يجب أن يظل هذا مجرد تخمين.
ولأن مسرحيات ابن دانيال هي وحدها التي تبقت من هذا التراث بأكمله. فإن هذا الغياب في ذاته يشير إلى أن تلك الأعمال كانت تعتبر أقل قيمة من أن تصان وتحفظ. باختصار، كما يخلص لي جو Li Guo: “ربما لا نكون بعيدين جدا من الدليل على أن هذا الاتجاه المتمثل في عمل ابن دانيال، يمثل ذروة مسرح خيال الظل العربي في العصور الوسطى .4”.
وأشار الكثير من المؤرخين لتراث دمي الظل العثمانية، الأراجوز، إلى أن هذا النموذج انحدر مباشرة من المسرحيات المملوكية، ويسمي درور زئيفي هذه المسرحيات «المصدر الأكثر احتمالا»، بالنظر إلى تشابهها الشديد مع أعمال عثمانية (5). والمصدر الرئيسي لهذه الآراء هو المؤرخ المملوكي، ابن إياس، الذي أفاد بأن السلطان العثماني سليم الفاتح لمصر عام 1517، شهد أول مسرحية ظلية في حياته في القاهرة. وكان موضوعها اعتقال وإعدام طومان باي آخر سلاطين الدولة المملوكية على يد القوات العثمانية، وأعجب سليم بالعرض، لدرجة أنه أخذ معه إلى إسطنبول الدمى والمؤدي، والتي عن طريقها تطور الشكل التركي (6). وعلى الرغم من مرور قرنين من الزمان على ابن دانيال، يبدو من المرجح أن عروض الدمى التي شاهدها سليم في القاهرة، بخلاف أي شيء شوهد في تركيا، كانت في طور تقديم جزء من التراث التي ساهم فيه ابن دانيال ولكن أيا من الأعمال في ذلك الوقت، ولا مسرحيات الأراجوز، إن كانت قد استمرت بالفعل على هذه التقاليد، أفرزت ابن دانيال آخر. لقد انتهى التقليد في مصر، وإن كان القره جوز في الواقع امتداد له، فقد أصبح الشكل الشعبي المهم ولكن لم يحقق أبدا مكانة أدبية ذات شأن.
ونتيجة لذلك، تضاءل اهتمام العلماء سواء الشرقيين أو الغربيين ممن عرفوا مسرح خيال الظل فقط كشكل من الأشكال الشعبية للمسرح، بمسرحيات ابن دانيال، على الرغم من الحفاظ عليها في بضع مخطوطات، ونسوا هذا الكاتب الاستثنائي الذي ارتقى بالشكل إلى آفاق أدبية بلا جدال.
وظل شعر ابن دانيال وسمعته الفضائحية إلى حد ما في قرون لاحقة، على الرغم من أن عمله الدرامي كان يُذكر من حين إلى آخر، كان سمعته بشكل تقليدي أقرب إلى شاعر جريء فطن، وخفيف الظل، وكانت تُتداول مقاطع من مسرحياته ويستشهد بها كما لو كانت قصائد فردية. لم تعرف أهمية هذه المسرحيات، بل وجودها ذاته، إلا في العصر الحديث حتى بالنسبة إلى المتخصصين في العالم الأكاديمي في الشرق أو الغرب. لم يتسن لهذا أن يحدث الا في القرن العشرين حيث بدأت مجموعة من العلماء، الألمان على وجه الخصوص، في جمع المخطوطات المتناثرة والاهتمام بهذه المسرحيات اهتماما بحثيا جديا.
هذا العمل، بدأه المستشرق الألماني جيورج ياكوب في مطلع القرن العشرين، وأدى في نهاية المطاف إلى أول طبعة بحثية من المسرحيات باللغة العربية نشرت في عام 1992(7) وهكذا العلماء من الشرق والغرب لا يزالون يعكفون على استكشاف الآثار المترتبة على هذا الكاتب الدرامي الذي أمكن الوصول إليه حديثا في محاولة لمساعدة القراء الغربيين على وضع هذه الشخصية الجديدة في الخريطة الذهنية للدراما العالمية، ومما لا شك فيه للإشارة أيضا إلى أهميته، فقد أشير إليه من وقت إلى آخر من قبل النقاد الغربيين القلائل الذين كتبوا عنه باعتباره “أرستوفانيس العربي”(8).
وقد يستحسن تذكير الباحثين المسرحيين بمحاولات الدارسين الأوائل للكاتب المسرحي الياباني تشيكا ماتسو Chikamatsu وسعيهم لكسب الاحترام له في الغرب، واصفين بأنه “شكسبير اليابانية” (9) مثله مثل ابن دانيال، لم يكن تشيكا ماتسو «شرقيا» فحسب، ولكن ما هو مدعاة للتساؤل مع ذلك، كان كاتبا لمسرح الدمى، هو في حالة تشيكاماتسو مسرح البونراكو (*) الياباني. ومنذ توفر الجيل الأول للمنح الدراسية الغربية عن تشيكاماتسو، عانى باحثوه وبذلوا جهدا كبيرا لدحض العنوان، لافتين إلى أنه بغض النظر عن شهرتهما، لم يكن ثمة اية قواسم مشتركة بين الكاتبين من النواحي الثقافية أو الفنية (10). ومع ذلك أود القول إن هذه الحالة ليست بوضوح حالة ابن دانيال وأرستوفانيس، ولأسباب أكثر تعقيدا واستفزازية بكثير من بعض أوجه التشابه السطحي التي أثمرت عن هذه المقارنة في المقام الأول.
عندما وُصف ابن دانيال بأنه أرستوفانيس العربي كان التبرير الحتمي لهذا الوصف هو ذلك الكم الكبير من الفحش والبذاءة لدى الكاتبين. الأمر الذي شكل تحديا خطيرا للرقباء في كلتا الحالتين وهناك ميزة هامة ووثيقة الصلة، نادرا ما تذكر، وهي أنه عند كل من الكاتبين تختلط هذه المادة الدنيوية بشعر غنائي رائع مشكلة مزيجا صادما من الأسلوب والموضوع معا. وكما ذكرت، كان ابن دانيال واحدا من الشعراء البارزين في عصره، ومن بين الأبيات التي لا تزال تذكر له اليوم هي بعض من الأبيات التي وردت في مسرحياته.
ولم يلاحظ أحد من الكتاب الذين استخدموا هذه المقارنة أي نقاط أخرى مشتركة، على الرغم من أن هناك في الواقع بعض أوجه التشابه الصادمة التي تذهب إلى ما هو أبعد من هذا الولع بالخلط بين الأسلوب الشعري الرفيع والاشارات الجنسية والجسدية الأخرى الأكثر وضاعة.
مما لا شك فيه أن السبب في ذلك هو أن أوجه الشبه هي حتى الآن أكثر ما يلفت الانتباه في المسرحية الثالثة من ثلاثية ابن دانيال والتي لم تكن قد ترجمت بالكامل من العربية إلى أي لغة أخرى، وبالتالي لا تزال بعيدة عن متناول كثير من الباحثين الذين يمكن أن يلاحظوا أوجه الشبه تلك (11). وأوجه الشبه تلك لا تكاد تذكر. بل انها في الواقع تغيب تماما عن المسرحية الوحيدة التي ترجمت حتى الآن إلى اللغة الإنجليزية، وهي أول مسرحية، طيف الخيال. بنية هذه المسرحية، مثل موضوعها، يتصل بموضوع المفاوضات الفاشلة مع الخاطبة عديمة الضمير، يوحي بمسرحية من نوع المهزلة Farce تنتمي إلى التقليد الأوروبي ??. المسرحية الثانية عجيب وغريب تتسم ببنية أبسط وأكثر مباشرة بين المسرحيات الثلاث. وتتكون، بعد قسم تمهيدي، من اثنين وعشرين مشهدا قصيرا نسبيا، كل منها مكرس لعرض من أحد مؤديي الشوارع في القاهرة - الطبيب الدجال، أحد المعالجين بالأعشاب، قارئ الطالع، بهلوان، وهلم جرا. أما بنية المسرحية الثالثة، وهي المتيم والضائع اليتيم، فتختلف تمام الاختلاف عن المسرحيتين الأخريين، وعلى الرغم من أنه يمكن إيجاد تشابه في البنية البسيطة إلى حد كبير في كل من المسرحيات المذكورة أعلاه مع أعمال عدد من الكتاب الآخرين في تراث الكوميديا الغربية، فإنه لا يوجد سوى مؤلف معروف واحد في الأدب العالمي يشبه نمطه المعقد في تنسيق المسرحية أسلوب ابن دانيال، وهو في الواقع ليس إلا أرستوفانيس.
وعلى الرغم من بنية وطبيعة الشخصيات عند ميناندر كما هو الحال عند بلوتوس وتيرينس، الكتاب الرئيسيين اليونانيين والرومانيين لما يطلق عليه الكوميديا «الوسطى» و«الجديدة»، تمت محاكاتها منذ عصر النهضة فصاعدا فإن البنية شديدة التعقيد الخاصة بـ«الكوميديا ??القديمة» الخاصة بأرستوفانيس، على الرغم من أنها كانت شديدة الاتساق خلال أعماله الباقية لم يتقبلها أي كاتب آخر في مجمل الدراما الغربية القائمة.
إن البنية النمطية لأي مسرحية من أعمال أرستوفانيس تتكون من سلسلة من العناصر التي لا تكون حاضرة بشكل عام ولكنها شائعة بما يكفي بحيث يمكن للمرء الحديث بحق عن نمط بناء درامي «أريستوفاني». يكون مفتتح المسرحية البرولوج عبارة عن مونولوج أو حوار يمهد للموضوع أما العنصر التالي فهو أغنية دخول الجوقة البارودوس، وفيه تقوم الجوقة بدعم أو معارضة شواغل أو مشروع البطل. ثم تأتي مجموعة من الفصول المتوازنة أو المتناظرة، غالبا في شكل صراع AGON بين شخصيات المسرحية أو بارابسيس Parabasis، أو كليهما. المسابقة، أو تضع شخصيتين ضد بعضهما البعض في صراع يمهد لانتهاء الحدث.
أما في البارابسيس، الذي يأتي عادة في منتصف المسرحية، يغادر الممثلون الرئيسيون المسرح، والجوقة تخطو خارج المسرحية لتخاطب الجمهور مباشرة. يلي ذلك سلسلة من المشاهد القصيرة التي تضم واحدا فقط أو اثنتين من الشخصيات الثانوية في كل منهما، تظهر عادة الآثار المترتبة على نتائج الصراع AGON. وأخيرا تأتي أغنية الخروج الخاصة بالجوقة، الاكسودس xodus (المنظر الختامي)، مع مزاج احتفالي غالبا ما يرتبط بالاحتفالات الصاخبة أو الزيجات السعيدة، أو كليهما. وقد تختلف هذه العناصر إلى حد ما (على سبيل المثال، ليس هناك صراع رسمي، في أهل أخارناي The Acharnians، في حين يوجد هناك نوعان في «السحب”)، ولكن على العموم هذا النمط المعقد متسق تماما.
ملاحظات
1 Paul Kahle، ed.، Three Shadow Plays by Muhammad Ibn D.niy.l (Cambridge: Gibb Memorial
Trust، 1992). Ibn D.niy.l’s third play، The Love - Stricken One and the Lost One Who Inspires Passion، the focus of this article، is not yet available in English translation. Such a translation، prepared by the author of this article and Safi Mahfouz، is forthcoming from the Martin E. Segal Press.
2 Li Guo، The Performing Arts in Medieval Islam: Shadow Play and Popular Poetry in Ibn
D.niy.l’s Mamluk Cairo (Leiden: Brill، 2012).
3 Shmuel Moreh، «The Shadow Play (“Khayal al - Zill”) in the Light of Arabic Literature,» Journal
of Arabic Literature 18 (1987): 46–61.
4 Guo، 108.
5 Dror Ze’evi، Producing Desire: Changing Sexual Discourse in the Ottoman Middle East,
1500–1900 (Berkeley: University of California Press، 2006)، 128.
6 Nikolai N. Martinovich، The Turkish Theatre (New York: Theatre Arts، 1933)، 31–32.
7 Kahle، 14. See also Albert Hourani، A History of the Arab People (New York: Grand Central,
1992)، 198 8 See، for example، William Haley، «Ibn Daniyal، the Arab Aristophanes,» posted 24 Nov. 2009 on the internet collaborative publishing community Suite 101 (HYPERLINK “http://suite101.com”http: / / suite101.com).
9 Thus the first English collection of this dramatist’s work، translated by Asataro Miyamori and edited by Robert Nichols، was called Masterpieces of Chikamatsu: The Japanese Shakespeare(London: Kegan Paul، 1926).
10 For the most detailed refutation of this comparison، see Takashi Sasayama، «Tragedy and Emotion: Shakespeare and Chikamatsu,» in Shakespeare and the Japanese Stage، ed. Takashi Sasayama et al. (Cambridge: Cambridge University Press، 1999).
11 The first play of the three، The Phantom، has been translated into English by Li Guo in
Performing Arts، and into French as Le Mariage de l’Emir Conjonctif، trans. René R. Khawam (Paris: L’Esprit des Péninsules، 1997). Selections from the plays in Italian may be found in Francesca M. Corrao، Il Riso، il Comico e la Festa al Cairo nel XIII Secolo (Rome: Oriente، 1996).يسر جريدة “مسرحنا” أن تقدم لقرائها مقالا لأحد أهم النقاد والمؤرخين المسرحيين المعاصرين وهو البروفسور مارفن كارلسون؛ حيث يتناول المقال مرحلة هامة وفاصلة في تطور الظاهرة المسرحية العربية وهي مرحلة بابات ابن دنيال في العصر المملوكي التي وأن لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم التعريف والتقديم لها إلا أن لها أهمية خاصة نتيجة صدورها من أحد أهم النقاد المعاصرين عالميا، وكذلك ترجمتها من خلال الأستاذ سباعي السيد الذي يمتلك رصيدا كبيرا ومهما في الترجمة المتخصصة لمجال المسرح.  وتعتذر إدارة الجريدة عن اضطرارها إلى إصدار المقال مجزءا على عددين لضخامته، آملين أن يسهم في فتح مجال للنقاش.
مسرحنا تقديم قصير لا بد منه
هذا البحث الذي أقدم ترجمته هنا، نشره البروفسور الأمريكي مارفن كارلسون في مجلة الدراما المقارنة Comparative Drama قبل بضع سنوات وتحديدا في العام 2013. ونال جائزة أوسكار بروكيت للمقال النقدي من الجمعية الأمريكية للبحث المسرحي عام 2014. هذا البحث يعكس جانبا من اهتمام كارلسون واشتغاله على المسرح العربي، من بين اهتماماته المتعددة المتشعبة التي تراوحت بين نظرية الدراما وتاريخ المسرح وغيرها من علوم المسرح، حيث قام بتحرير وتقديم عدد من الكتب التي تتضمن نصوصا عربية استلهمت أعمالا درامية غربية مثل هاملت وأوديب وغيرهما.
كما قدم كارلسون وحرر كتابا صدر حديثا بعنوان “مسرح من قاهرة العصور الوسطى - ثلاثية ابن دانيال” يضم لأول مرة ترجمة إنجليزية كاملة لبابات ابن دانيال الشاعر القاهري النشأة الموصلي الولادة الذي عاش في القرن الثالث عشر. والذي يعتبر في حدود علمنا أول كاتب في تاريخ الدراما العربية وإن كان قد وضع باباته الثلاث لمسرح خيال الظل. وفي هذا البحث يحاول كارلسون أن يثبت تأثر ابن دانيال بأرستوفانيس وتشابه البنية الدرامية في عمليهما رغم القرون الفاصلة بينهما. وينقب في الأدلة التاريخية لإثبات فرضيته.
لن أقدم لهذا البحث الشيق وإن كنت أود أن أشير إلى أنني اعتمدت في ضبط الترجمة العربية نسخة محققة من كتاب ابن دانيال، هي نسخة أقرب إلى الاكتمال، حققها سيد كسروي حسن ضمن كتاب “رسائل طيف الخيال في الجد والهزل” (دار الكتب العلمية – بيروت 2009)، وهي تختلف عن نسخة أستاذنا الراحل د. إبراهيم حمادة الذي حذف في دراسته المعروفة والرائدة “خيال الظل وبابات ابن دانيال” (1961) أغلب نص بابة (المُتيَّم والضائع اليتيَّم)، معتذرا عما حوته من ألفاظ المجون والشذوذ. وهذه البابة أو المسرحية الأخيرة في ثلاثية ابن دانيال هي التي ارتكز عليها كارلسون في المقارنة بين كوميديا أرستوفانيس وابن دانيال، مما يثير أسئلة شديدة الأهمية عن قراءة وإعادة قراءة تراثنا، وموقفنا «الأخلاقي» منه.
الأمر الثاني أن كارلسون ليس صاحب تسمية ابن دانيال بأرستوفانيس العرب فقد سبقه وليم هسلي إلى ذلك - كما أقر هو في بحثه - كما سبقه إلى درس خيال الظل في العصر المملوكي والاهتمام بالفنون المملوكية عموما ثلة من الباحثين الألمان أبرزهم جيورج ياكوب Jacob.
إن اهتمام كارلسون بالبحث في الدراما العربية جدير بالنظر والاعتبار نظرا لأن كتاباته تطرح رؤية للثقافة العربية من وجهة نظر مختلفة تعتمد المقارنة بين تلك الثقافة وغيرها من الثقافات في إطار من التقدير والموضوعية العلمية.
أيضا تشير أبحاث كارلسون إلى بُعد آخر يقتضي من الباحث العربي المزيد من التعمق في الأصول العربية والمصرية لدراما خيال الظل المصرية من مقامات وأشعار وغيرها. فإذا كان كارلسون قد بحث في الصلة بين ابن دانيال وأرستوفانيس، فهناك الكثير مما يستحق الدرس في تاريخ دراما خيال الظل فيما قبل ابن دانيال وما بعده، ومصادره الأدبية والفولكلورية العربية. ولكن هذا حديث آخر، آمل أن أعود إليه لاحقا.
أرستوفانيس العرب
بدأ الكاتب المسرحي المصري ابن دانيال الذي ينتمي إلى القرن إلى الثالث عشر يسترعي الاهتمام الغربي كواحد من أهم كتاب الدراما في العصور الوسطى. لقد كانت كتابته لمسرحيات خيال الظل، وهو شكل من الأشكال التي اعتبرها الباحثون العرب والغربيون على حد سواء أقل شأنا من الناحية الفنية، وأيضا كتابته باللغة العربية، وهي لغة يظن معظم الباحثين الغربيين خطأ - أنها لم تنتج دراما قبل المرحلة الكولونيالية – كانت سببا بلا شك في خسوفها الطويل. فقد اعتبر الشعر في العالم العربي دائما أرقى الأشكال الأدبية، ولأن ابن دانيال كان يعتبر من الشعراء البارزين في عصره، فقد ظل في الذاكرة كشاعر في ذلك العالم، بينما لم تلق مسرحياته الثلاث التي كتبها في نهاية مشواره الابداعي إلا صدى أقل نسبيا.
ولكن من الواضح أن هذا الوضع يتغير حاليا، حيث أعيد بناء المسرحيات من مخطوطات متناثرة في العالم العربي في العصور الوسطى، من إسطنبول إلى الاسكوريال في إسبانيا، وطبعت كاملة لأول مرة عام 1992(1)، ويرجع الفضل الكبير في ذلك إلى جهود بضعة باحثين ألمان معاصرين، قادهم جيورج ياكوب Jacob، ومن هنا حتى الباحثين ممن لديهم معرفة معقولة باللغة العربية لم يتسن لهم أن يطلعوا على هذه الابداعات المتميزة، إلا قبل عقدين من الزمن. وتدريجيا ذاع الأمر وظهرت أول دراسة مطولة عن ابن دانيال في كتاب نشر بالإنجليزية عام 2012، مع ترجمة لإحدى مسرحياته الثلاث (2) وبدأ الباحثون الغربيون يدركون أن هذا الكاتب الدرامي المعروف بالكاد قد أنتج بضعة من أكثر الأعمال الدرامية المنتمية إلى العصور الوسطى جودة وتعقيدا، منافسا ومتجاوزا لأي عمل درامي معروف تقريبا، سواء في العالم العربي أو الغربي لعدة قرون سابقة ولاحقة عليه.
ولد ابن دانيال في الموصل بالعراق، وفي نحو عام 1260 فر إلى القاهرة، وهو في العشرينات من عمره هاربا من الغزو المغولي لمدينته. وفي القاهرة عمل لفترة كطبيب للعيون، ولكنه سرعان ما اشتهر بين الصعاليك كشاعر موهوب وظريف، وكشخص يبحث عن نمط حياة متحرر. ومع ذلك فقد صادفت موهبته الشعرية اعترافا وقبولا متزايداَ. وعلى طريقة الشعراء الشبان المعدمين عبر العصور، سعى ابن دانيال إلى قدر من الأمان المالي فألف أشعارا هي في الغالب مدائح لعلية القوم. في قمة الهرم الاجتماعي كان السلطان، وفي الوقت الذي وصل فيه ابن دانيال إلى مصر كانت السلطنة تمر بتحول خطير. حيث المحارب القوي بيبرس الذي هزم وأسر لويس التاسع ملك فرنسا، منهيا الحرب الصليبية الرابعة، والأخطر أنه هزم في العام التالي قائد المغول هولاكو وأوقف تقدم المغول إلى الشرق الأوسط، وتزوج من ملكة مصر الأرملة وأسس سلالة حاكمة جديدة غير عربية وهم المماليك الذين حكموا مصر لعدة قرون تالية.
خلال زحفهم إلى القاهرة اجتاح المغول ونهبوا بغداد ودمشق، تاركين المدينة المصرية بوصفها قلب العالم العربي الفكري والتجاري بلا جدال، وهو دور احتفظت به منذ ذلك الحين. وقام السلطان الجديد بيبرس باستكمال دعائم مجده، وأثبت نجاحه كحاكم كما نجح كقائد عسكري. وكان لديه اهتمام ضئيل بالفنون، وحملاته لتطوير المدينة وضعت قيودا على أشياء كالشراب والدعارة، مما أكسبه احتراما أقل في أوساط الصعاليك، الذين عاش في وسطهم ابن دانيال الشاب.
أما بركة ابن بيبرس الذي اعتلى العرش خلفا لوالده في عام 1277، فلم يكترث مثله مثل أبيه بالشعر أو بالفنون. هذا الحاكم الضعيف أقصاه والد زوجته قلاوون، حيث تحول اهتمام السلطان مرة أخرى إلى الفنون وجلب كبار المطربين والشعراء للترفيه عن البلاط، بعد عدد من السنين العجاف.
وبحلول ذلك الوقت ارتفع نجم ابن دانيال بين الطبقات العليا بحيث أصبح بالفعل شاعر البلاط، وكتب الكثير من القصائد الاحتفالية للمناسبات مثل رحلات الصيد والمهرجانات. واحتفظ ابن دانيال بهذه المكانة حتى 1294، حين وصل إلى ذروة نفوذه الشعري في ظل خليفة قلاوون، أخيه الأشرف خليل. وجاء اغتيال خليل عام 1294 ليشعل فترة طويلة من الصراعات على السلطنة، مما أشعر شخصا مثل ابن دانيال بالخطر. فعاد إلى الاعتماد على نفسه من خلال كتابة قصائد المدح للاحتفال برعاة أقل شأنا - مثل السياسيين الأقل أهمية والتجار، والأصدقاء، ورجال الدين.
ولحسن الطالع، كان من بين هؤلاء الرعاة الجدد، أحد منتجي مسرح خيال الظل، ممن أصابه اليأس على ما يبدو من الريبرتوار التقليدي والذي لا يلاقي احتراما كبيرا، هذا المنتج طلب من الشاعر، كما يشرح ابن دانيال في مقدمته لأولى مسرحياته، أن ينشئ ثلاث مسرحيات جديدة ذات قيمة أدبية وفنية حقيقية. وقد وضعت هذه المسرحيات لا لإرضاء الحشود التقليدية في الشوارع بالدرجة الأولى، وإنما من أجل أصدقاء الراعي الذين ينتمون إلى طبقة اجتماعية أعلى، ويتحلون بذائقة أرفع.
كان مسرح الدمى في زمن ابن دانيال شكلا فنيا من الترفيه سواء لعامة الشعب أو للبلاط، على الرغم من ضعف التقدير الأدبي. وكانت الدمى المشاركة دمى ظلية مثل تلك التي لا تزال تستخدم في مسرح وايانج Wayang في إندونيسيا أو الأراجوز في تركيا، بأشكال ثنائية الأبعاد يتم معالجتها أو تحريكها من وراء شاشة شفافة بواسطة فنان الدمى بحيث تظهر ظلالها للجمهور على الجانب الآخر من الشاشة. وتعود أقدم إشارة إلى هذا الشكل في مصر إلى القرن الحادي عشر، عندما وصف عالم البصريات ابن الهيثم عرض دمى يتكون من «أشكال يقوم [المقدم] بتحريكها من وراء الستار بحيث تظهر ظلالها على الحائط، وعلى الستارة نفسها. وبعد قرن من الزمان روي عن صلاح الدين، أول سلاطين مصر، أنه قام بدعوة لاعبي خيال الظل إلى بلاطه في القاهرة. لذلك عندما أدلى ابن دانيال بدلوه في هذا الشكل فقد كان يعرض في مصر منذ قرنين من الزمان أو يزيد. ومع ذلك يبدو خيال الظل أساسا كشكل شعبي. لا يدعي المكانة الأدبية، وصاحب عرضه خرافات كبيرة من قبل شخصيات دينية محافظة.
ولم تصلنا مسرحية واحدة من مسرحيات خيال الظل في القرنين السابقين على ابن دانيال، لذلك ليست لدينا مخطوطات تدعم ادعاء الشاعر بأنه ارتقى بهذا الشكل الفني إلى مرتبة جديدة وأدبية.. وحقيقة أنه تم الحفاظ على مسرحياته الثلاث كلها، في حين لم تصلنا أية أعمال سابقة عليه تدعم تلك المزاعم بقوة. وتبين وثائق موجودة ومتوافرة نسبيا أن مسرحياته استمرت شعبيتها بعد فترة طويلة من وفاته، كما سار كتاب آخرون على نهجه لفترة استمرت مائة عام أخرى أو يزيد، منتجين أعمالا تم وصفها بأنها فاجرة وفاحشة على نحو متزايد. ومع ذلك، يجب أن يظل هذا مجرد تخمين.
ولأن مسرحيات ابن دانيال هي وحدها التي تبقت من هذا التراث بأكمله. فإن هذا الغياب في ذاته يشير إلى أن تلك الأعمال كانت تعتبر أقل قيمة من أن تصان وتحفظ. باختصار، كما يخلص لي جو Li Guo: “ربما لا نكون بعيدين جدا من الدليل على أن هذا الاتجاه المتمثل في عمل ابن دانيال، يمثل ذروة مسرح خيال الظل العربي في العصور الوسطى .4”.
وأشار الكثير من المؤرخين لتراث دمي الظل العثمانية، الأراجوز، إلى أن هذا النموذج انحدر مباشرة من المسرحيات المملوكية، ويسمي درور زئيفي هذه المسرحيات «المصدر الأكثر احتمالا»، بالنظر إلى تشابهها الشديد مع أعمال عثمانية (5). والمصدر الرئيسي لهذه الآراء هو المؤرخ المملوكي، ابن إياس، الذي أفاد بأن السلطان العثماني سليم الفاتح لمصر عام 1517، شهد أول مسرحية ظلية في حياته في القاهرة. وكان موضوعها اعتقال وإعدام طومان باي آخر سلاطين الدولة المملوكية على يد القوات العثمانية، وأعجب سليم بالعرض، لدرجة أنه أخذ معه إلى إسطنبول الدمى والمؤدي، والتي عن طريقها تطور الشكل التركي (6). وعلى الرغم من مرور قرنين من الزمان على ابن دانيال، يبدو من المرجح أن عروض الدمى التي شاهدها سليم في القاهرة، بخلاف أي شيء شوهد في تركيا، كانت في طور تقديم جزء من التراث التي ساهم فيه ابن دانيال ولكن أيا من الأعمال في ذلك الوقت، ولا مسرحيات الأراجوز، إن كانت قد استمرت بالفعل على هذه التقاليد، أفرزت ابن دانيال آخر. لقد انتهى التقليد في مصر، وإن كان القره جوز في الواقع امتداد له، فقد أصبح الشكل الشعبي المهم ولكن لم يحقق أبدا مكانة أدبية ذات شأن.
ونتيجة لذلك، تضاءل اهتمام العلماء سواء الشرقيين أو الغربيين ممن عرفوا مسرح خيال الظل فقط كشكل من الأشكال الشعبية للمسرح، بمسرحيات ابن دانيال، على الرغم من الحفاظ عليها في بضع مخطوطات، ونسوا هذا الكاتب الاستثنائي الذي ارتقى بالشكل إلى آفاق أدبية بلا جدال.
وظل شعر ابن دانيال وسمعته الفضائحية إلى حد ما في قرون لاحقة، على الرغم من أن عمله الدرامي كان يُذكر من حين إلى آخر، كان سمعته بشكل تقليدي أقرب إلى شاعر جريء فطن، وخفيف الظل، وكانت تُتداول مقاطع من مسرحياته ويستشهد بها كما لو كانت قصائد فردية. لم تعرف أهمية هذه المسرحيات، بل وجودها ذاته، إلا في العصر الحديث حتى بالنسبة إلى المتخصصين في العالم الأكاديمي في الشرق أو الغرب. لم يتسن لهذا أن يحدث الا في القرن العشرين حيث بدأت مجموعة من العلماء، الألمان على وجه الخصوص، في جمع المخطوطات المتناثرة والاهتمام بهذه المسرحيات اهتماما بحثيا جديا.
هذا العمل، بدأه المستشرق الألماني جيورج ياكوب في مطلع القرن العشرين، وأدى في نهاية المطاف إلى أول طبعة بحثية من المسرحيات باللغة العربية نشرت في عام 1992(7) وهكذا العلماء من الشرق والغرب لا يزالون يعكفون على استكشاف الآثار المترتبة على هذا الكاتب الدرامي الذي أمكن الوصول إليه حديثا في محاولة لمساعدة القراء الغربيين على وضع هذه الشخصية الجديدة في الخريطة الذهنية للدراما العالمية، ومما لا شك فيه للإشارة أيضا إلى أهميته، فقد أشير إليه من وقت إلى آخر من قبل النقاد الغربيين القلائل الذين كتبوا عنه باعتباره “أرستوفانيس العربي”(8).
وقد يستحسن تذكير الباحثين المسرحيين بمحاولات الدارسين الأوائل للكاتب المسرحي الياباني تشيكا ماتسو Chikamatsu وسعيهم لكسب الاحترام له في الغرب، واصفين بأنه “شكسبير اليابانية” (9) مثله مثل ابن دانيال، لم يكن تشيكا ماتسو «شرقيا» فحسب، ولكن ما هو مدعاة للتساؤل مع ذلك، كان كاتبا لمسرح الدمى، هو في حالة تشيكاماتسو مسرح البونراكو (*) الياباني. ومنذ توفر الجيل الأول للمنح الدراسية الغربية عن تشيكاماتسو، عانى باحثوه وبذلوا جهدا كبيرا لدحض العنوان، لافتين إلى أنه بغض النظر عن شهرتهما، لم يكن ثمة اية قواسم مشتركة بين الكاتبين من النواحي الثقافية أو الفنية (10). ومع ذلك أود القول إن هذه الحالة ليست بوضوح حالة ابن دانيال وأرستوفانيس، ولأسباب أكثر تعقيدا واستفزازية بكثير من بعض أوجه التشابه السطحي التي أثمرت عن هذه المقارنة في المقام الأول.
عندما وُصف ابن دانيال بأنه أرستوفانيس العربي كان التبرير الحتمي لهذا الوصف هو ذلك الكم الكبير من الفحش والبذاءة لدى الكاتبين. الأمر الذي شكل تحديا خطيرا للرقباء في كلتا الحالتين وهناك ميزة هامة ووثيقة الصلة، نادرا ما تذكر، وهي أنه عند كل من الكاتبين تختلط هذه المادة الدنيوية بشعر غنائي رائع مشكلة مزيجا صادما من الأسلوب والموضوع معا. وكما ذكرت، كان ابن دانيال واحدا من الشعراء البارزين في عصره، ومن بين الأبيات التي لا تزال تذكر له اليوم هي بعض من الأبيات التي وردت في مسرحياته.
ولم يلاحظ أحد من الكتاب الذين استخدموا هذه المقارنة أي نقاط أخرى مشتركة، على الرغم من أن هناك في الواقع بعض أوجه التشابه الصادمة التي تذهب إلى ما هو أبعد من هذا الولع بالخلط بين الأسلوب الشعري الرفيع والاشارات الجنسية والجسدية الأخرى الأكثر وضاعة.
مما لا شك فيه أن السبب في ذلك هو أن أوجه الشبه هي حتى الآن أكثر ما يلفت الانتباه في المسرحية الثالثة من ثلاثية ابن دانيال والتي لم تكن قد ترجمت بالكامل من العربية إلى أي لغة أخرى، وبالتالي لا تزال بعيدة عن متناول كثير من الباحثين الذين يمكن أن يلاحظوا أوجه الشبه تلك (11). وأوجه الشبه تلك لا تكاد تذكر. بل انها في الواقع تغيب تماما عن المسرحية الوحيدة التي ترجمت حتى الآن إلى اللغة الإنجليزية، وهي أول مسرحية، طيف الخيال. بنية هذه المسرحية، مثل موضوعها، يتصل بموضوع المفاوضات الفاشلة مع الخاطبة عديمة الضمير، يوحي بمسرحية من نوع المهزلة Farce تنتمي إلى التقليد الأوروبي ??. المسرحية الثانية عجيب وغريب تتسم ببنية أبسط وأكثر مباشرة بين المسرحيات الثلاث. وتتكون، بعد قسم تمهيدي، من اثنين وعشرين مشهدا قصيرا نسبيا، كل منها مكرس لعرض من أحد مؤديي الشوارع في القاهرة - الطبيب الدجال، أحد المعالجين بالأعشاب، قارئ الطالع، بهلوان، وهلم جرا. أما بنية المسرحية الثالثة، وهي المتيم والضائع اليتيم، فتختلف تمام الاختلاف عن المسرحيتين الأخريين، وعلى الرغم من أنه يمكن إيجاد تشابه في البنية البسيطة إلى حد كبير في كل من المسرحيات المذكورة أعلاه مع أعمال عدد من الكتاب الآخرين في تراث الكوميديا الغربية، فإنه لا يوجد سوى مؤلف معروف واحد في الأدب العالمي يشبه نمطه المعقد في تنسيق المسرحية أسلوب ابن دانيال، وهو في الواقع ليس إلا أرستوفانيس.
وعلى الرغم من بنية وطبيعة الشخصيات عند ميناندر كما هو الحال عند بلوتوس وتيرينس، الكتاب الرئيسيين اليونانيين والرومانيين لما يطلق عليه الكوميديا «الوسطى» و«الجديدة»، تمت محاكاتها منذ عصر النهضة فصاعدا فإن البنية شديدة التعقيد الخاصة بـ«الكوميديا ??القديمة» الخاصة بأرستوفانيس، على الرغم من أنها كانت شديدة الاتساق خلال أعماله الباقية لم يتقبلها أي كاتب آخر في مجمل الدراما الغربية القائمة.
إن البنية النمطية لأي مسرحية من أعمال أرستوفانيس تتكون من سلسلة من العناصر التي لا تكون حاضرة بشكل عام ولكنها شائعة بما يكفي بحيث يمكن للمرء الحديث بحق عن نمط بناء درامي «أريستوفاني». يكون مفتتح المسرحية البرولوج عبارة عن مونولوج أو حوار يمهد للموضوع أما العنصر التالي فهو أغنية دخول الجوقة البارودوس، وفيه تقوم الجوقة بدعم أو معارضة شواغل أو مشروع البطل. ثم تأتي مجموعة من الفصول المتوازنة أو المتناظرة، غالبا في شكل صراع AGON بين شخصيات المسرحية أو بارابسيس Parabasis، أو كليهما. المسابقة، أو تضع شخصيتين ضد بعضهما البعض في صراع يمهد لانتهاء الحدث.
أما في البارابسيس، الذي يأتي عادة في منتصف المسرحية، يغادر الممثلون الرئيسيون المسرح، والجوقة تخطو خارج المسرحية لتخاطب الجمهور مباشرة. يلي ذلك سلسلة من المشاهد القصيرة التي تضم واحدا فقط أو اثنتين من الشخصيات الثانوية في كل منهما، تظهر عادة الآثار المترتبة على نتائج الصراع AGON. وأخيرا تأتي أغنية الخروج الخاصة بالجوقة، الاكسودس xodus (المنظر الختامي)، مع مزاج احتفالي غالبا ما يرتبط بالاحتفالات الصاخبة أو الزيجات السعيدة، أو كليهما. وقد تختلف هذه العناصر إلى حد ما (على سبيل المثال، ليس هناك صراع رسمي، في أهل أخارناي The Acharnians، في حين يوجد هناك نوعان في «السحب”)، ولكن على العموم هذا النمط المعقد متسق تماما.
ملاحظات
1 Paul Kahle، ed.، Three Shadow Plays by Muhammad Ibn D.niy.l (Cambridge: Gibb Memorial
Trust، 1992). Ibn D.niy.l’s third play، The Love - Stricken One and the Lost One Who Inspires Passion، the focus of this article، is not yet available in English translation. Such a translation، prepared by the author of this article and Safi Mahfouz، is forthcoming from the Martin E. Segal Press.
2 Li Guo، The Performing Arts in Medieval Islam: Shadow Play and Popular Poetry in Ibn
D.niy.l’s Mamluk Cairo (Leiden: Brill، 2012).
3 Shmuel Moreh، «The Shadow Play (“Khayal al - Zill”) in the Light of Arabic Literature,» Journal
of Arabic Literature 18 (1987): 46–61.
4 Guo، 108.
5 Dror Ze’evi، Producing Desire: Changing Sexual Discourse in the Ottoman Middle East,
1500–1900 (Berkeley: University of California Press، 2006)، 128.
6 Nikolai N. Martinovich، The Turkish Theatre (New York: Theatre Arts، 1933)، 31–32.
7 Kahle، 14. See also Albert Hourani، A History of the Arab People (New York: Grand Central,
1992)، 198 8 See، for example، William Haley، «Ibn Daniyal، the Arab Aristophanes,» posted 24 Nov. 2009 on the internet collaborative publishing community Suite 101 (HYPERLINK “http://suite101.com”http: / / suite101.com).
9 Thus the first English collection of this dramatist’s work، translated by Asataro Miyamori and edited by Robert Nichols، was called Masterpieces of Chikamatsu: The Japanese Shakespeare(London: Kegan Paul، 1926).
10 For the most detailed refutation of this comparison، see Takashi Sasayama، «Tragedy and Emotion: Shakespeare and Chikamatsu,» in Shakespeare and the Japanese Stage، ed. Takashi Sasayama et al. (Cambridge: Cambridge University Press، 1999).
11 The first play of the three، The Phantom، has been translated into English by Li Guo in
Performing Arts، and into French as Le Mariage de l’Emir Conjonctif، trans. René R. Khawam (Paris: L’Esprit des Péninsules، 1997). Selections from the plays in Italian may be found in Francesca M. Corrao، Il Riso، il Comico e la Festa al Cairo nel XIII Secolo (Rome: Oriente، 1996).


سباعي السيد