سعاد تفتح صندوق الحكايات رأيت عبد الناصر في سينما ريفولي

سعاد تفتح صندوق الحكايات رأيت عبد الناصر في سينما ريفولي

العدد 528 صدر بتاريخ 9أكتوبر2017

كانت رحلتها اليومية التي تقطعها من مدينة الطالبات بميدان الجيزة إلى مصر الجديدة رحلة غنية بالمشاهدات والأفكار والأماكن، مرت من خلالها على دور سينما ريفولي وقصر النيل، ومن بعدها على سور الأزبكية وكتب العقاد، نجيب محفوظ، الحكيم، يوسف السباعي، ثم الباص رقم 51 الذي يقلها لمصر الجديدة، وقتها كان لبائعي الصحف الذين يمرون بين السيارات على أرضية الشارع المغسولة بالماء والصابون يترنمون بأغنيات أم كلثوم وينادون على صحف الأهرام والأخبار والجمهورية بنغمات مميزة كانت أقرب للغناء منها للمناداة الجافة.

عبد الناصر في سينما ريفولي
تتذكر سعاد الرفاعي وهي في عامها الأول بكلية الآداب أنها ذهبت لسينما ريفولي مع صديقاتها في عام 57 وعندما أطفأت الأنوار شعرت بمجموعة من الرجال يأتون بهدوء ويجلسون في الصف التالي لهم، شعرت من أحاديثهم الخاطفة أنهم رجال على قدر عالٍ من الأهمية وقبيل انتهاء الفيلم بلحظات خرج هؤلاء الرجال كما دخلوا بهدوء شديد لتكتشف بعد انتهاء الفيلم بأن هؤلاء هم رجال الثورة المصرية وعلى رأسهم الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر، كان ذلك مدهشا لها تماما كحضورها حفلات أم كلثوم في الخميس الأول من كل شهر، وكذهابها للتسوق بين محال الأزياء الراقية وبكثرة البدائل التي كانت تراها للشيء الواحد لذا نجدها تصف القاهرة بأنها «مدينة القاهرة.. قاهرة فعلا.. بعلمها.. وروح شعبها المتغلب على صعوباته.. متعلما ومثقفا أو حتى أميّا.. ممتلكا قدرة عجيبة للتغلب على مواجهة العقبات بالمرح والنكته العفوية ولهم إيمان عميق بالخالق.
كما تقرر أيضا في كتابها “من ذاكرة سعاد” وكتابها السابق عليه “مذكراتي” في وصفها للمصريين “أن المصري عندما يكرمك ويرحب بك يظل لديه شعور بأنه مقصر مهما أعطى وقدم.. فكرم الإخوة المصريين له بداية ولكن من الصعب أن تجد له نهاية”؛ لذا فهي لم تشعر ولو للحظة واحدة أنها تعيش في بلاد غريبة عليها، فهذه أقرب البلاد لقلبها على الرغم من أنها زارت الكثير من بلاد العالم.
مائة مدرس وافد لكل مدرس كويتي
وفي إحصائية مهمة وكاشفة عن مدى تأثر التعليم الكويتي بنظيره المصري تذكر الكاتبة أنه بعد عودتها إلى الكويت وكان ذلك في بداية الستينات وعملها كمدرسة لعلم النفس والاجتماع داخل إحدى المدارس الثانوية هناك أن عدد المدرسين المصريين في المدارس الكويتية كان يشغل النسبة الأعلى من عدد المدرسين الوافدين، فمن بين 2128 مدرسا أكثرهم من المصريين يوجد فقط 36 مدرسا كويتيا، هذا بالنسبة للذكور أما بالنسبة للإناث، فقد كانت هناك 279 مدرسة كويتية وأكثر من 2200 مدرسة وافدة كان أكثرهم من المدرسات المصريات، كما أن معظم الكتب التعليمية كانت مستوردة من مصر؛ لذا كان المدرس أو المدرسة من المصريين من أحب الجنسيات إلى قلبها وأكثرهم انضباطا.
وفي كتابها «من ذاكرة سعاد» الذي يمثل شهادة وافية لشكل وتطور حركة التعليم في الكويت، وهو ما يحمل معه جزءا مهما وأساسيا من تاريخ الكويت الثقافي والاجتماعي لم نكن لنعلم بعضا من أسراره لولا هذا الكتاب لهذه السيدة التي تقلدت الكثير من المناصب المؤثرة في وزارة التربية والتعليم الكويتية حتى وصولها لمساعدة وزير التربية لتصبح المتحكمة في الكثير من الأمور التعليمية داخل الكويت، فمثلا تسرد الكاتبة سعاد الرفاعي الكثير من الذكريات والمواقف الطريفة والغريبة في آن، التي كانت شاهدة عيان عليها طوال ما يزيد عن ثلاثين عاما منها مثلا حكاية تلك الطالبة التي جاء والدها إليها ولم يجدها في المدرسة وعندما تم إبلاغ الشرطة وجدوا أنها كانت تحمل ملابس خروج داخل حقيبتها دخلت إلى المدرسة وارتدتها وخرجت بها مع أصدقاء لها وقضت معهم النهار بالكامل في أحد الكافيهات على الخليج في نزهة بريئة، وكذا حكاية تلك المدرسة التي تنتمي لإحدى الدول العربية، والتي أرسل خطيبها خطابا يشكوها فيه بسوء الخلق ثم أرسل بعدها صورا مسيئة لها مما تسبب في فصلها.
حكايات درامية مليئة بالغرابة والطرافة
حكاية أخرى عن واحد من المدرسين سرق علبة سجائر فتسببت في فصله من العمل لثبوت الواقعة عليه، أو تلك الكذبة التي ساقتها والدة أحد التلاميذ عندما رسب ابنها في الامتحان فادعت أن المدرس هو من فعل ذلك لأنه أراد أن يتحرش بالتلميذ وقد رفض التلميذ ذلك، أو حكاية تلك المدرسة العربية الذي طلقها زوجها وهو من نفس جنسيتها وطاردها لكي يحصل على الشقة التي تقيم بها هي وابناها منه.
كل هذه المواقف الطريفة تظل داخل حدود تصديق العقل على الرغم من وقوعها داخل مجتمع ضيق ومغلق تحكمه العادات والتقاليد كالمجتمع الكويتي آنذاك، لكن ما ليس عاديا ولا مألوفا هاتان الحادثتان التي سردتهما الرفاعي داخل كتابها، التي تخص أولهما حادثة موت غريبة الشكل، ففي صباح أحد الأيام بينما كانت الرفاعي تستعد لعمل اجتماع مع موظفيها فإذا بالوزير شخصيا يتصل بها بنفسه وليس عبر مكتبه كما اعتادت طالبا منها التوجه سريعا لإحدى المدارس، وعندما وصلت إلى هناك وجدت رجال الشرطة يملأون المكان تتقدمهم عربة إسعاف، ولما دخلت مسرعة كان الجميع يوجهونها إلى قاعة الرسم بالمدرسة من دون أن يقول أي منهم ماذا حدث، وداخل قاعة الرسم وجدت الرفاعي إحدى مدرسات المدرسة غارقة في دمائها بينما لوحات الرسم المعلقة على الحوائط ممزقة كلها ومبعثرة داخل الحجرة، الدم متجلط والجثة باردة مما يعني أنها انتحرت في اليوم السابق على اكتشاف جثتها وبعد انتهاء اليوم الدراسي؟! أما لماذا اختارت تلك المدرسة قاعة المرسم البعيدة عن الفصول التي لم تستخدم منذ فترة؟ ولماذا أيضا مزقت اللوحات قبل انتحارها؟ أو لماذا انتحرت من أساسه تاركة عائلتها الصغيرة من ورائها من دون وداع، فهذا هو سرها ولغزها الذي لم تستطع التحريات أن تكشف عنه.
الحادثة الأخرى غريبة أيضا لكنها أقل دموية من سابقتها وهي تخص مدرس كويتي شاب دأب على رفع الشكاوى ضد رؤسائه مطالبا إياهم بإصلاح حال التعليم أو ترك مناصبهم، وكانت رؤيته في إصلاح التعليم لا تقترح شكلا للتطوير ولا ترسي قواعد بعينها، فقط كان الهجوم منصبا على القيادات ومنهم مؤلفة الكتاب مطالبا باستقالتهم جميعا، ولما لم تلقَ شكاواه أي تقدير لعدم جديتها، فأقدم على أغرب فعل من الممكن أن يقدم عليه شخص، فقد طالب بإغلاق وزارة التربية والتعليم بكاملها لأنها تحرض على الفجور، وهدد إن لم تستجب الحكومة لطلبه فسيتنازل عن جنسيته الكويتيه، وبالفعل استقال هذا المدرس وهاجر لإحدى بلاد أوروبا الشرقية بعدما ذهبت شكاواه أدراج الرياح.
اتهامات من إمام مسجد
حوادث أخرى كثيرة تسردها المؤلفة تكشف عن الكثير من التناقضات داخل المجتمع التعليمي وتكشف أيضا وفي الوقت نفسه عن جهود المؤلفة في إرساء قواعد سليمة وراسخة للكثير من المفاهيم، فهي مثلا ترفض تسييس التعليم وتؤكد أن للسياسة ألاعيبها القذرة تلك التي لا يجب أن يقاس عليها داخل حقل التعليم بأخلاقياته وأدبياته الثابتة، كما ترى أن كل النظريات التربوية ليست جامدة ولا ثابتة بمرور الزمن بل يجب أن تتغير دوما نحو الأفضل بما يساعد على غرس القيم والعادات الحميدة لدى الطلاب.
وبسبب اجتهاداتها وجرأتها في تطوير العملية التعليمية والتربوية، فتحت عليها كثيرا من أبواب الانتقادات، فقد اشترت ذات يوم كتابا عن الثقافة الجنسية من إحدى مكتبات أمريكا عندما كانت في إحدى الزيارات هناك، وطلبت من المدرسين ترجمة بعض فقراته لكي يستطيعوا توفير معلومات صحيحة وغير مغلوطة لطلابهم، خاصة أن كل هؤلاء الطلاب في مرحلة المراهقة، وعقدت ندوة عن ذلك وشاركت فيها بتوضيح الكثير من عناصر الثقافة المسكوت عنها، كل تلك الممارسات وغيرها جعل أحد أئمة المساجد يذكرها بالسوء من فوق المنبر ويتهمها بنشر الأفكار الغريبة.
نجمة مسرحية صغيرة
المتأمل لهذة المذكرات يستطيع أن يلمح كثيرا من مكونات البنية الاجتماعية للمجتمع الكويتي وكيفية تعامل واحدة من رائدات التعليم معه، فدراستها في القاهرة واطلاعها على كتب فطاحل الأدب والفكر آنذاك في القاهرة، وميلها الشديد للمعرفة والتجديد تلك التي ظهرت أولى بوادرها معها منذ كانت في سن الثالثة عشرة عندما أسند إليها أحد مخرجي المسرح المدرسي دورا تمثيليا في مسرحية للأطفال عن ألاعيب جحا وكان دورها في المسرحية ابنة جحا ونجحت فيه نجاحا كبيرا جعلها تقوم ببطولة عرض مسرحي آخر في العام التالي هو عرض «قصر الهودج».
ذلك نوع من التأسيس الحقيقي المستند إلى محبة الفنون والآداب، فإذا ما أضفنا إلى ذلك تأثرها الواضح بالأدب والفن المصري وشكل التعليم في مصر وبأفكار المد الثوري في حقبة الستينات، يمكننا أن نتعرف على المكونات الفكرية لتلك الكاتبة ومدى توقها للتجديد والتفكير خارج الصناديق المغلقة، وهو الأمر الذي ظهر واضحا في الحوادث والأفكار التي ذكرتها داخل كتابيها «مذكراتي، من ذاكرة سعاد» اللذان يعدان، رغم عفويتهما وميلهما للشكل الصحفي المشوق في الكتابة، وثيقتين مهمتين تؤرخان لشكل الحياة الاجتماعية وعاداتها وتقاليدها وأثر التعليم عليها وأهم مشكلاته والسبل التي أدت لتطوره خلال الأربعين عاما الأخيرة.


إبراهيم الحسينى