المسرح الكنسي (3)

المسرح الكنسي (3)

العدد 554 صدر بتاريخ 9أبريل2018

• الهجوم على الكنيسة:
على الرغم من أن الكنيسة تفرض رقابتها الذاتية على ما يقدم داخلها من عروض مسرحية، فإن عرض «حفلة للمجانين»(30) الذي قدم ضمن إطار المهرجان الرابع لفرق الدراما المتحدة للمسرح، والذي عقد في مارس 2009 على خشبة مسرح قاعة النيل للآباء الفرنسيسكان، يتجاوز كل الخطوط الحمراء في نقده اللاذع لأحوال الكنيسة المصرية بدءا من أصغر رتبة كهنوتية «الخدام» وتصل في انتقاداتها إلى أكبر رتبة كهنوتية «البطرك» نفسه، والعرض مأخوذ عن نص مسرحي للكاتب خالد الصاوي، وهو كاتب مسلم والنص لا ينتمي للمسرح الكنسي، وتدور فكرته داخل مستشفى للمجانين؛ حيث نتعرف على الكثير من ممارسات التعذيب التي تحدث للمرضى بدءا بجلسات الكهرباء ووصولا لبيع أعضائهم البشرية وجثثهم لطلبة كلية الطب ومن يستطيع أن يدفع أموالا أكثر، والمسرحية على هذا النحو ليس لها أية علاقة حقيقية بالمسرح الكنسي، لكن فريق «الخشبة المقدسة» للمسرح الكنسي التجريبي، حوّل النص المسرحي من دلالاته العامة إلى دلالات خاصة بعالم الكنيسة وشعبها، وأورد الكثير من الجمل الحوارية الصريحة والأغاني الدالة على ذلك وذات المرجعية والخصوصية الكنسية، فمثلا يرمز العرض للمسيحية الأم بمركب يتهادى وسط أمواج البحر، ثم لا يلبث هذا المركب أن تخرج منه مراكب كثيرة تحمل نفس رايته لكنها مختلفة عنه، والعرض يقصد هنا أن هناك الكثير من الأفرع/ المذاهب المسيحية التي خرجت من المسيحية الأم، من مثل: بلاميس، ادفنتست، إخوة، بروتستانت، كاثوليك، أرثوذكس.. فنحن نسمع أحد المرضى داخل المستشفى «مدحت» في أحد مونولوجاته يقول:
•    الصوت إللي في المركب ابتدى يكبر، ومن جوّاه اتسرسبت مراكب تانية كتير من المركب الأولانية وكلوا اتفق سوا يطلعوني برا، المراكب كترت.. ملت العالم، بقى في كل حتة مركب، وكل مركب بتخبط في التانية، أنا يا أساتذة ماليش مركب.. أنا المركب بتاعتي إللي انكسرت وطلع منها كل المراكب دي، أنا يا أساتذة بتحاصرني المية من كل اتجاه.. أنا بغرق.. بغرق..؟
إذا نحن بصدد نص مسرحي جديد قام الفريق بإعداده وتحميله أفكارا ورموزا جديدة مع احتفاظهم بهيكل البناء الدرامي الخارجي وتفريغ المضمون الأصلي ليحل محله مضمونا جديدا، ووفق هذه المعالجة الجديدة تصير للأماكن وللأشخاص وللكلمات معانٍ جديدة، فمثلا تصبح المستشفى داخل النص الجديد تعني الكنيسة، والمركب تعني المسيحية، ومدير المستشفى يعني أحد الرتب الكنسية، قد يكون خادما أو كاها أو قمص، وقد تتجاوز رمزيته ما هو أكبر من ذلك لتعبر عن أسقف أو مطران.. ويصير التمرجي «بخيت» اليد الباطشة له/ الحاشية الكهنوتية التي تساعده، وتصير مجموعة المرضى داخل المستشفى هم شعب الكنيسة، وعبر هذه التركيبة الدلالية الجديدة ووفق مداراتها يمكننا تفسير بقية عناصر العرض المسرحي المرئية والمسموعة.
ولا يكتفي العرض بالتعرض لما يسميها حالة التوهة الناتجة عن تعدد المذاهب، بل يتعرض للكثير من القضايا الأخرى، ومنها مثلا قضية «خروج الخراف من حظيرة الإيمان»؛ أي تحوّل بعض المسيحيين إلى الإسلام مثلا وإهمال مسئولي الكنيسة لذلك، فاختفاء أحد المرضى من عنابر المستشفى مثلما اختفى «عبد الله» يماثل داخل العرض الجديد خروج أحد المسيحيين إلى ديانة أخرى، وبحثهم المستمر عنه وقيامهم بثورة على المجتمع داخل المستشفى/ الكنيسة يعني حرصهم الشديد على عودة هذا الغائب، ويعني أيضا التنديد بمن أهملوه وأوصلوه إلى حالة الفقد.
وفكرة «الثورة» داخل العرض دائمة الحضور، فهم يتحدثون طوال الوقت وبمفردات وبتصرفات متنوعة عنها، فمفردات: ثورة - انقلاب - ضد الطاعة - تحرير المرضى - الغضب.. تشكل هي الأخرى حالة غضب لدى الجميع تدعوهم وبقوّة إلى العمل على إحداث «تغيير»، وهذه المفردة الأخيرة تتكرر كثيرا أيضا مما يؤكد رغبة المرضى القيام بثورة تغيير ضد طبيعة التقاليد الصارمة المفروضة عليهم، إنهم يصفون الأوامر المفروضة عليهم بالقيود الحديدية، وهذه الأوامر من مثل:
بلاش الوقفة دي، بلاش الضحكة، دي بلاش البصة دي
ثم ينهمر الجميع في مونولوجات ذاتية تنتقد فكرة التسلسل الوظيفي داخل المستشفى/ الكنيسة، الذي أصبح مجرد «رتب رتب»، وبأنهم يريدون صراحة التغيير «عايزين تغيير» وذلك لأن:
 - المسيح قام من بين الأموات ووهب الحياة للذين في القبور..
إنهم يريدون أن توهب لهم الحياة من جديد ولا يصيروا كالأموات، ثم نجد إحدى الفتيات المنغلقة على ذاتها التي لا تتحدث طوال المسرحية إلا مع دُمية عصفور صغير تحملها طوال العرض بين يديها تقرر:
فيه مؤامرة ضدنا.. فيه مؤامرة ضد كل العصافير.. العالم ده مش بتاع عصافير»
كل ذلك وهناك الكثير من التشكيلات الجمالية التي تصنعها حركة الجموع وهم يرددون معا:
 - ابن الطاعة تحل عليه البركة..
وذلك في محاولة منهم لعدم الاستمرار في تلك الطاعة التي أوصلتهم إلى مثل هذه القيود، ثم نجدهم يرفعون لافتات مكتوبا على كل واحدة منها حرفا واحدا؛ هي: «ا ل خ د م ه» والكلمة تعني أن سبب التوهة الرئيسي هم «الخدام» داخل الكنائس، وأن معظم اجتماعاتهم هي مجرد اجتماعات خاوية بلا معنى أو ناتج حقيقي؛ لذا فهم يكررون كلمات في هذا الموقف من مثل «نصاب - مدعي - آفاق - جاسوس..»، ويفسرون كلمة جاسوس الأخيرة بأنها تعني «كل حاجة تسمعها تقولها للي أعلى منك»؛ أي أن تلك الرُتب قد تتجسس على بعضها في مقابل «المناصب»، كما يقرر العرض، ثم تنتهي هذه الحالة الاسترسالية المتدفقة بمونولوج لصوت ضمير مدير المستشفى الجديد «د. شريف»، الذي بدأ يراجع مبادئه وقناعاته بإعادة التفكير فيها:
شريف: لما تاخد على جو المستشفى والمرضى وتلاقي خدمتك مش وسيلة ناجحة للشفا وتحرير المرضى تكتشف أنك في غير محلك، وإن الحال هوّه هوّه، والقيود هيه هيه.. يمكن تكون مختلفة في المعادن.. قيد حديد.. قيد دهب.. كلها قيود وخلاص، والخوف قيد زيهم.. تكتشف أنك في غير محلك.
وشخصية الدكتور شريف هنا تتخذ في رمزيتها رُتبة مسيحية عالية، فالمرضى يقررون أن «كل المديرين إللي بييجوا المستشفى اسمهم شريف»، وهو ما يتوافق مع توحيد أسماء الرُتب الكهنوتية العالية داخل الكنيسة كبديل عن الأسماء الحقيقية داخل مجال الترقي الديني في الرُتب المسيحية.
وبعد انتهاء مونولوج صوت الضمير يتجمد الدكتور شريف وقوفا ومن أسفله وضعت لوحة كشاهد قبر مكتوب عليها «رقد على رجاء التغيير»، ثم وضعوا واحدا تلو الآخر ورودا بجوار اللوحة في حركة أدائية تشبه حركة وضع الورود على القبور.
وفي نهاية العرض وعبر التكوينات المختلفة التي يصنعها الممثلون بأجسادهم نجدهم يكثفون كلمة العرض النهائية في أغنية قصيرة تبحث عن من المسئول عن هذه الأحوال الظالمة كما يعتقدونها داخل الكنيسة، تقول الأغنية في مفتتحها:
 - «مين المسئول ع إللي بيحصل/ إللي يهمه المنصب يفضل/ نستنى ليه لازم نتغير».
ثم يرفعون أثناء الأغنية لافتات مكتوب على كل واحدة منها كلمة، وتشكل الكلمات في مجموعها جملة «الريس إللي كان في المركب»، ثم يكملون غناءهم:
 - والغلطة فين وإيه إللي بيجرى/ ودي غلطة خادم وللا أمين خدمة...».
ثم يقررون في نهاية الأمر أن أهم مطالب ثورتهم أنهم يريدون التغيير، قائلين «لازم نتغير، هاتولنا الخبير، هاتولنا القبطان..»، ثم يشير الجميع معا وفي مونولوج واحد صامت، فقط نعرفه عبر حركاتهم وإيماءاتهم الصامتة وكأنهم يطرحون علينا مرّة أخرى مطالبهم في التغيير والحرية بلغة الإشارة، ليؤكدوا على توصيل رسائلهم لمن لا يسمعهم، أو يحاول متعمدا غض الطرف عن سماعهم ويعيدون ذلك بلغات بصرية أخرى عبر الصور والكتابة، فصور النماذج البشرية الموجودة بالمستشفى تظهر واحدة بعد أخرى عبر شاشات عرض «فيديو بروجكتور» وتحتها تواريخ خروجهم من أجل البحث عن حريتهم، فيكتبون أسفل «فتاة العصفور» مثلا: «كان نفسها تطير»، وتحت صورة «عبد الله» الذي تم بيع جثته لطلبة الطب: «كان نفسه يفضل»، وهكذا تتوالى الكثير من الجمل القصيرة تحت الصور: كان نفسه يعيش/ يوصل/ يخف/ تبني/ تقول/ يكون/ يغير/ يفهم/ .. ثم تنتهي الصور برسالة مكتوبة على الشاشة تقول صراحة:
عفوا خدامنا الأفاضل.. أمناء الخدمة.. عفوا كهنتنا هل نحن نخدم الله بجدية أم يحتاج الأمر إلى وقفة..؟
ثم ترفع شاشة الفيديو بروجيكتور ليعاود الممثلون الظهور داخل بؤر ضوئية وبجمل قصيرة دالة لعل من أهمها:
 - لقد قطعت خيوط الحرير من فوق عنقي، إني أنهض، أتكلم، انتبهوا جميعا..
 - إني مستعدة، إني انتظر..
 - فيه مليون خروف محتاج للرعاية بس فين الراعي الأمين..
وعلى الرغم من صراحة وجرأة العرض ودلالاته على ما قلنا فقط فمن الممكن للمتأمل أن يتعرف داخل العرض على شفرات جديدة يمكن عبرها فهم المستشفى على أنها مصر والمرضى على أنهم الشعب، وبالتالي يمكن إعادة قراءة العرض وفق منظومة دلالية ورمزية أوسع وأشمل.
والعرض لم يستعن بالملابس، فقط استخدم بعض الإكسسوارات البسيطة مع الملابس العصرية للممثلين (بنطلونات جينز، بذلات، تي شيرتات..) كما أن الديكورات عبارة عن موتيفات بسيطة لم تستخدم دلاليا فيما عدا اللافتات التي كان لها دور هام داخل العرض.
• المسيح يقود عربة المسرح:

تنتشر ثيمة «الخلاص» كثيرا وبتنويعات مختلفة داخل أفكار المسرح الكنسي؛ فالمسيح هو من قام بفداء البشر، وهو من علق على الصليب وتعذب وضحى بروحه في سبيل البشر، لذا فهؤلاء البشر يحيون بفضل المسيح الذي وهبهم الحياة بموته، ولا يعيشون من أجلهم فقط بل يعيشون أيضا من أجله.. هذه الأفكار والثيمات وبتنويعات درامية مختلفة إما تصريحا كما هو الحال في المسرح الكنسي البروتوستانتي الذي يهتم بهذه الأفكار أكثر من غيرها، وإما تلميحا كما نجد في المسرح الكنسي الأرثوذوكسي، قد تكون هذه إحدى أهم النقاط القليلة جدا والفارقة بين هذين المسارين المتجاورين من المسرح الكنسي، اللذين يشتركان في الكثير من النقاط الأخرى الإنتاجية والرقابية والفكرية، ولكنهما يتمايزان في هذه النقطة، وتناول فكرة «المخلص» تأتي في غالب الأمر صراحة لدى البروتستانت كما يمكننا أن نرى في معظم مسرحيات أشرف سامي التي قدم بعضها داخل كنيسة «الأخوة» التي تتبع البروتستانت في منطقة شبرا مصر؛ ومنها مثلا مسرحية «أبيض وأسود»(31)، التي كتبها وأخرجها أشرف سامي وقدمها داخل إحدى قاعات كنيسة «الأخوة» في عام 2005م، وفي المسرحية يتعرض لفكرة المخلص بطريقة مباشرة، فهو يصرّح في بدايتها بأن:
 - «المؤمن في صراعه مع الخطية الساكنة فيه عاجز عن الانتصار ويحتاج إلى منقذ»(32).
وفيها يصوّر معاناة «مؤمن» بين الخير والشر، فهو يظهر داخل النص، ومن ثم داخل العرض بشخصيتين إحداهما خيرة تخص مؤمن الجديد والثانية شريرة تخص مؤمن القديم، الخيرة ترتدي زيا أبيض بينما الشريرة ترتدي الأسود، ويظل الصراع قائما، صراع على مستوييه: الجسدي القتالي بين الشخصيتين، والنفسي بكل انفعالاته المشحونة بالتوتر، إلى أن يرشد والد «مؤمن» بأن الخلاص يكمن في الالتجاء إلى المخلص، المنقذ، إلى المسيح، وهنا يتخذ الصراع القتالي الجسدي رمزية جديدة؛ حيث يصبح الكتاب المقدس عاملا خلاصيا لدى مؤمن يوصله للنصر وإلى التغلب على آلامه المتجسدة أمامه على هيئة «مؤمن الآخر» الممثل لجزئية الشر القديمة الكامنة في نفسية «مؤمن الجديد» الذي أوصله المخلص إلى حياة جديدة خالية من الآلام والمعاناة.
مؤمن الجديد: هاروح أقعد جانبه - يقصد المسيح - ومش هابعد عنه أبدا(33).
كما تظهر فكرة المخلص أكثر وضوحا في مسرحية أخرى لأشرف سامي هي «ميت تحت الطلب»، التي يقول أيضا في مقدمة نصها المسرحي المنشور:
 - «لقد متنا - بموت المسيح لأجلنا - لكي نعيش لأجله»(34)، وفيها يصوّر موت «يوسف بن عوضين» أحد الفلاحين البسطاء داخل «الجهادية»(35)، الذي التحق بها كبديل عن ابن أحد الباشاوات الذي رفض أبوه الباشا دخول ابنه الجيش خوفا عليه من الموت؛ لذا يحاول الأب دوما تذكير ابنه المتهرّب من الجيش بأن هناك من ضحى بنفسه من أجل أن ينجو هو بحياته ويعيش هانئا، وإذا كانت «أبيض وأسود» تتحدث عن المخلص الذي ساعد في إنقاذ روح «مؤمن» المعذبة من آلامها، فإنه لا توجد أية تجسيدات رمزية لشخصية المسيح، بينما نجد في «ميت تحت الطلب» هذا التجسيد الرمزي لشخصية المسيح في هذا الفلاح الفقير «يوسف بن عوضين» الذي استطاع عبر محبته لابن الباشا أن ينقذه من الموت مضحيا بحياته في سبيل هذا الهدف.
أما مسرحية «قوللي إيه» لأشرف سامي، فنجد بها هي الأخرى تجسيدا رمزيا لشخصية المسيح من خلال «نعيم» الذي يعمل طبيبا للعيون، والذي يعالج «نور» من العمى، فيكون جزاء الإحسان نكران الجميل، حيث يسرق «نور» بعد شفائه جهازا طبيا باهظ الثمن ويهرب به من العيادة، لكن الشرطة تصل إليه ولا يجد من يخلصه منها غير الطبيب «نعيم» الذي يسامحه للمرّة الثانية حتى تهتدي روح «نور» إلى الخلاص بمساعدة «نعيم» وتعود نادمة على ما فعلت لحضن المسيح، والمغزى واضح وهو كما يحدده المؤلف كعادته في مفتتح النص المنشور؛ حيث يقول:
 - محبة المسيح وإحسانه تقابل أحيانا بالخيانة ونكران الجميل(36).
فالمسيح داخل النص يتجلى في شخصية الدكتور «نعيم» لاحظ دلالة الاسم التي تعني النعمة والخير الوفير، والشخصية التي تم فداؤها وتخليصها من العمى هي «نور» ودلالة الاسم تشير إلى انتقال الشخصية من حالة عدم القدرة على الرؤية إلى امتلاك تلك القدرة.
وتجلي المسيح في الأعمال الكنسية قد يأتي مباشرا من خلال وجود صور له أو تماثيل أو صور فيديو، أو من خلال تشكيلات حركية كهذا التكوين الذي صنعه الأب والابن في نهاية العرض المسرحي المصوّر على C.D «ميّت تحت الطلب»، حيث يقف الأب على مكان مرتفع وهو فارد ذراعيه ممثلا صورة صلب المسيح، بينما يركع الابن أمامه وهو يستمع لكلمات أبيه التي تجلجل في المكان:
 - الباشا: الحاجة الوحيدة إللي ممكن تعملها إنك تعيش باقي عمرك تنادي وسط الناس وتشهد وتقول.. يا ناس يوسف ضحى بنفسه عشاني.. عشان ماتنساش لحظة واحدة في حياتك إن في واحد مات بدالك.. (37).
ومسرحية «أصعب قضية» لنفس المؤلف تنشغل بنفس المسار؛ فهي تصوّر صراعا بين الإنسان والله يصل في نهاية الأمر إلى الإيمان بأن المسيح هو المخلص والمنقذ، لكن هذه المسرحية ليست كالمسرحيات السابقة؛ فهي لا تهتم بالبناء الدرامي التقليدي ولا ببنية الشخصيات الدرامية، فهي عبارة عن مناقشة حوارية طويلة ومحتدمة داخل قاعة محكمة أبطالها القاضي، وكيل النيابة، الدفاع، الشهود.. حوارية تطرح الأسئلة وتجيب عنها دون حاجة درامية ملحة إلى أن تنتهي بظهور شخصية «الفادي» والرامزة لشخصية المسيح، الذي يصفه المؤلف بين الأقواس بأنه «شخص جميل يرتدي ثيابا بيضاء وناصعة»، والذي يتقدم من منصة القاضي معلنا دفع حياته كثمن لتخليص روح الإنسان الخاطئ مفديا إياه من عقوبة الموت، وهو ما يجعل القاضي متأثرا يسوق حكمه التالي:
 - القاضي: حكمت المحكمة حضوريا بأن الإنسان متهم ومجرم ويستحق العقاب والموت الأبدي، ولكن بمجيء المخلص الفادي وموته على الصليب نيابة عن الإنسان، فإن كل من يرفضه كمخلص شخصي له يهلك إلى أبد الآبدين، أما كل من يؤمن به ويقبله فاديا له وبديلا عنه يكون بريئا بل مبررا من كل التهم المنسوبة إليه (38).

ومن المسرحيات الأخرى التي تظهر فيها فكرة «المخلّص» من خارج المسار البروتوستانتي مسرحية «سيلا الحزينة» من تأليف وإخراج أشرف عبده (39)، التي تصوّر رحلة بحرية تقوم بها إحدى السفن الموجود بها مجموعة من العلماء بهدف اكتشاف سر مثلث برمودا، ورغم أهوال البحر وما يصادفونه من احتمالات متعددة للموت، فإن ذلك يزيد من إيمانهم بضرورة الوصول إلى الحقيقة وتخليص البشر المحتمل موتهم داخل مياه هذا المثلث المرعب من الموت، وتتمثل التضحية الكبرى في شخصية «القبطان»، الذي يضحي بنفسه من أجل أن ينقذ الآخرين، وبالفعل ينجح في إنقاذهم كنتيجة لهذه التضحية.
وعموما ففكرة دخول المخلص على دراما النص المسرحي بعيدا عن أهمية تفسيرها الديني، تكون مبررة ومقبولة إذا جاءت داخل سياق صيرورة الدراما وحتميتها من مثل مسرحيات (سيلا الحزينة، قوللي إيه، ميت تحت الطلب)، أما إذا جاءت مقحمة على الأحداث من مثل مسرحيات (أبيض وأسود، أصعب قضية)، فإن دخول شخصية المخلص هنا تشبه فكرة الحل الميكانيكي الموجود في الدراما الإغريقية القديمة والمعروف بـ»الآلة الإلهية»، وتظهر المسرحيات كأنها منشورات دينية ومناقشات فارغة توصل إلى نتائج معدّة سلفا من قبل الكاتب، وهو ما يساعد على إظهار المسرح في نهاية الأمر وكأنه مستخدم من قبل الدين، وأنه لا يتجاوز كونه أداة لتوصيل المعلومات والأفكار والخطب الوعظية شأنه شأن خطباء المساجد ووعاظ الكنائس.
• صورة المسلم في المسرح الكنسي:
في معظم المسرحيات الكنسية نجد أن المجتمع داخل النص الدرامي غالبا ما يكون مجتمعا مسيحيا؛ فشخصيات الدراما مسيحية اسما ومضمونا، والمجتمع الذي تتحرك داخله مسيحي هو الآخر، فمثلا في مسرحية «المحتال» لأشرف عبده (40) توجد شخصية «عزيز» المحتال الذي يتحرك من قرية لأخرى؛ أي أنه من المحتمل جدا أن يتقابل عبر تنقلاته مع شخصية مسلمة من تلك النماذج الكثيرة التي قابلها في القريتين، إلا أن المؤلف يختار أن يكون تحركه داخل فضاء مسيحي، الأمر نفسه يتكرر في مسرحيات أخرى من مثل (ميت تحت الطلب، قوللي إيه، همه راحوا فين..)، ويمكن أن نجد نفس الأمر في بعض المسرحيات غير الكنسية التي تم تحويلها إلى كنسية بعد إعدادها كما هو الحال في مسرحية «حفلة للمجانين» التي كتبها خالد الصاوي كمسرحية عادية مجتمعها عام يجمع داخله المسلم والمسيحي، لكن حوّلها الإعداد لمسرحية ذات مجتمع مسيحي لا يهتم بما هو خارج عن ذلك.
أيضا مسرحية «خمسة في الميزان»، التي قدمها فريق العذراء ومار مرقس في عام 2010 (41)؛ فإن فكرتها الرئيسية تدور حول معاناة رجل الأعمال «رؤوف» من مرض خطير، لذا فهو يقرر تقديم المعونة لبعض الفقراء، وتقوده الظروف للتعرف وبطرق مختلفة على خمسة نماذج بشرية قابلهم بالصدفة، النموذج الأول لـ»أم الشحات»، امرأة عمياء تجبرها ظروفها على الشحاذة، والثاني لـ»شريف»، وهو لص حاول مهاجمة وسرقة فيلا «رؤوف» نفسه، والثالث «مؤمن»، شاب يحمل مؤهلا عاليا ولا يجد عملا محترما لذا فهو يعمل بائعا متجولا، أما النموذج الرابع فهو لشخصية «أمل» التي حاولت الانتحار أمام الفيلا بهدف التخلص من مشكلاتها وخصوصا إصرار أبيها على تزويجها من رجل عجوز، والنموذج الأخير لمدرس تاريخ «عقل» لديه 6 أولاد يحتاجون لمصاريف كثيرة.
كل هذه النماذج جاءت من خارج مجتمع الفيلا بالصدفة، ورغم ذلك كلهم ينتمون للمسيحية، في حين أن ذلك لا يمكن أن يتحقق بسهولة داخل الواقع المجتمعي الحقيقي، ومرجع ذلك يمكن تفسيره بسبب أن معظم هذه المسرحيات يتم تنفيذها في المقام الأول، وربما الأخير، داخل فضاء الكنيسة وجمهورها هو جمهور الكنيسة، وقل ما تخرج بعض هذه العروض لفضاءات المجتمع غير الكنسية، فخروجاتها محدودة بهدف المشاركة في بعض مهرجانات المسرح المستقلة للهواة، أو المهرجانات القومية المحترفة، وهذا نادر الحدوث بالقياس لحرية التنقل المتاحة للعروض الأخرى غير الكنسية.
أما صورة الشخصية المسلمة داخل النصوص الكنسية، فهي إما صورة معتدلة تنتصر للمسلم كما تنتصر للمسيحي على اعتبار أن الاثنتين بينهما مشتركات تاريخية وجغرافية وثقافية ولغوية و... و... كما في مسرحيتي: «العودة» (42)، «العملة» (43)، أو صورة متطرفة في نظرتها للمسلمين كما في مسرحيتي: «كنت أعمى والآن أبصر»، «للشباب فقط» (44).
ففي مسرحية «العودة» لناجي عبد الله، يقدم الكاتب نموذجا إيجابيا للعلاقة بين المسلم والمسيحي؛ حيث تتجسد صورة المسلم في شخصية «إبراهيم» راقص التنورة الذي يرتبط بعلاقة صداقة مع الشاب المسيحي «أسامة» بعدما يطلب منه أسامة تعلم رقصة التنورة رغم محاولات الرفض المستميتة من عائلة أسامة، وهو ما يؤدي في نهاية الأمر لفقد «أسامة» لحياته على يد أحد المتطرفين، لم يذكر النص ديانة هذا المتطرف، لكنه يحافظ طوال الوقت على العلاقة الوطيدة بين المسلم والمسيحي ويغلفها بجو صوفي ناتج عن أجواء رقصة التنورة الصوفية، وأيضا من خلال مقطع شعر لابن عربي ظل «إبراهيم» يردده طوال العرض، ثم ردده أسامة هو الآخر حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة؛ وفيه يقول بن عربي:
 - قد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن دينه إلى ديني داني
وقد صار قلبي قابلا كل صوره
فمرعى لغزلان.. وبيت لأوثان.. ودير لرهبان
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه
فالحب ديني وإيماني.
وقد قدمت هذه المسرحية داخل كنيسة سان جوزيف، وقد كانت رمزا مبهجا على مستوى التعاون بين المسلم والمسيحي داخل النص المسرحي، ففي الأصل تعود فكرة النص الدرامي «العودة» إلى مايكل تادرس، بينما كتبها مؤلف مسلم هو ناجي عبد الله، وأخرجها مايكل جورج، وقام بتمثيلها فريق أجناد الرب الكنسي، الذي يشمل ضمن ممثليه ممثلا مسلما هو علاء عزت، وقد ركزت المسرحية على إظهار شكل العلاقة الإيجابية بين المسلم والمسيحي على أفضل ما يكون، وهو ما تحقق لها بالفعل داخل العرض وخارجه على المستوى الإعلامي.
أما مسرحية «العملة» لأشرف عبده، فتصوّر اكتشاف عائلتين اضطرتهما الظروف للسكن معا داخل شقة واحدة، إحدى العائلتين مسلمة والأخرى مسيحية، وعلى الرغم من هذا الاكتشاف ومحاولات بعض الأشخاص من حولهما التفريق بينهما «نمرود (1)، نمرود (2)» فإنهما يصران على العيش معا والتمسك بوحدتهما ضد أي منتفع من حالة الفرقة بينهما، وهي صورة إيجابية للعلاقة لا تتجاهل وجود المسلم كشريك داخل المجتمع الدرامي ولا الواقعي، صورة تناولتها كثيرا الدراما التلفزيونية والأفلام السينمائية، بالإضافة إلى المسرحيات غير الكنسية سواء التي يكتبها كتاب مسرح من المسلمين أو كتاب مسرح من المسيحيين.
أما الصورة الأخرى المتطرفة في نظرتها للمسلم داخل المسرح الكنسي، فنجدها في مسرحية «كنت أعمى والآن أبصر»، فهي تصوّر بعض الملتحين بصورة بها الكثير من الهجوم الشخصي على هؤلاء الأشخاص والعام على فكرة الدين التي يمثلونها، فهم يظهرون عبر هذه الصورة وهم شرهون للأكل وللجنس ولكل شيء، والأمر أقل حدّة في مسرحية «للشباب فقط»؛ حيث توجد شخصية «الشيخ مبروك» الدجال الذي يمارس الشعوذة وأعمال السحر في محاولة منه لإيهام الناس بقدرات غيبية كبيرة حتى يستطيع ابتزازهم عاطفيا وماديا، وهو ما يفعله مع (مارك، جون، باسم) عندما يذهبون إليه، والنص لم يصرح بأن الشيخ مبروك مسلم، لكن توجد بعض الإشارات التي تحيلنا إلى ذلك الفهم من مثل ما جاء في الإرشادات المسرحية: «يرتدي جلبابا ملونا وسبحة كبيرة حول رقبته وأخرى صغيرة في يده وطويل اللحية»(45)، ووصف حالة البخور حول الشيخ وطريقة عمله وطلباته التي يطلبها من مريديه تحيل الشخصية إلى نظائرها داخل المجتمع من المسلمين الذين يعملون بمثل هذه الخرافات.
30 - اعتمدت على نسخة العرض المحفوظة لدى قاعة مسرح النيل للآباء الفرنسيسكان بكنيسة سان جوزيف، التي أخرجها تلفزيونيا أيمن فايز.
31 – «أبيض وأسود»/ اسكتشات ومسرحيات/ أشرف سامي/ مطبعة الدار المصرية للطباعة/ 2004/ والكتاب يوزع بالمكتبات المسرحية الكبرى، ومعه 2 C.D يحتويان على ثلاثة عروض مسرحية؛ هي «أبيض وأسود، ميت تحت الطلب، قوللي إيه»، وهذه هي تجربة النشر الوحيدة لنصوص مسرحية كنسية تطبع داخل كتاب، وقد طبعها المؤلف على نفقته.

الهوامش:
32 - السابق ص 137 .
33 - السابق ص 165.
34 - السابق ص 95، وقد قدمت المسرحية بأحد المعسكرات الصيفية الكنسية في عام 2004.
35 – «الجهادية» كلمة قديمة في القاموس المصري كانت شائعة الاستخدام في زمن الحكم الملكي لمصر، وتعني الالتحاق بالجيش لتأدية الخدمة العسكرية الإلزامية.
36 – «أبيض وأسود»/ سابق/ ص 53، وهذه الجمل مأخوذة من الكتاب المقدس؛ فمثلا هذه الآية من مزمور 109: 4، 5.
37 - السابق/ ص 113.
38 - السابق/ ص 94 .
39 - عرضت المسرحية ضمن عروض المهرجان الرابع لفرق الدراما المسرحية المتحدة «حبة الحنطة»/ 2009، الذي قدم داخل كنيسة سان جوزيف على قاعة النيل للآباء الفرنسيسكان.
40 - نسخة مخطوطة من نص المسرحية أعطاها لي المؤلف أشرف عبده.
41 - رابط فيديو المسرحية على الإنترنت www.megaupload.com / ?d=ogloqonl
42 - مسرحية «العودة» لناجي عبد الله/ نسخة مخطوطة من المؤلف.
43 - مسرحية «العملة» لأشرف عبده/ نسخة مخطوطة من المؤلف.
44 – «أبيض وأسود»، مسرحية «للشباب فقط»/ أشرف سامي/ سابق/ ص 43.
45 - السابق ص 48.
 

 


إبراهيم الحسينى