تاريخ مسرح نجيب الريحاني وتفاصيله المجهولة(22) عصام الدين ضد المتمردة!!

تاريخ مسرح نجيب الريحاني وتفاصيله المجهولة(22) عصام الدين ضد المتمردة!!

العدد 849 صدر بتاريخ 4ديسمبر2023

ما زلنا مع المقالات النقدية المنشورة حول مسرحية «المتمردة» وقت تمثيلها عام 1926، بوصفها عرض افتتاح موسم الريحاني. وقد تحدثنا من قبل عن مقالتين نقديتين، واليوم نستكمل بقية المقالات ولكن من خلال الجديد الذي جاء فيها فقط – ولم يُنشر فيما سبق - ومنها مقالة مجلة «الفنون» التي اهتمت بالمناظر والديكور والإكسسوار والملابس والعادات والتقاليد المراكشية – أي المغربية – كما اهتمت بأحداث جانبية حدثت، اكتشفنا أنها مهمة كونها مشاجرة بالكلام حدثت أثناء التمثيل بين الجمهور في الصالة، وتحديداً بين شاب اتضح أنه «عصام الدين حفني ناصف» وهو ابن العالم العلامة «حفني ناصف» وشقيق الأديب «مجد الدين حفني ناصف» وأيضاً شقيق «باحثة البادية .. ملك حفني ناصف» .. أما الطرف الآخر في المشاجرة الكلامية فكان «فكري أباظة»!!
قالت المجلة: رفع الستار في الفصل الثاني عن قاعة شرقية مرصوصة بالنمارق [الوسائد] والحشايا والمقاعد الوثيرة، جلست عليها نساء مغربيات يتفاوتن في السن والجمال والهيئة والزينة. وقد تكون القاعة ومن فيها مثالاً للقاعات المغربية وقد لا تكون، فلم يسبق لي قراءة شيء مفصل عن عيشة الحرم في بلاد المغرب، كما أنني أعتقد أن غيري لم يصل لمعرفة ذلك لأننا لا نجد هذا إلا في كتب المستشرقين ونحن لا نصدقهم لأنهم حشوا كتبهم عنا بالزور والبهتان! وظهر في القاعة فاضل ومعه أحد عظماء البلاط في فاس وطلب من فاضل باسم الملك أن يركب على رأس جنده ويقاتل العصاة فأبى فاضل. ودخل بعد ذلك حارس معه أحد الجنود هرب من الجيش فأراد بعبارات انتقد بها المستعمرين وتداخلهم المعيب في شوؤنهم .. ودخل فاضل وصرف الجميع، فدخلت امرأتان أجنبيتان كانت إحداهن زوجته «روز اليوسف» في القاعة ودخل هو المسجد ليصلي، فأخذت تجول في أنحاء القاعة وتناديه بحيرة ولهفة، ثم مرت بين المقاعد وشبت على النمارق كأنها طير جميل في قفص حتى عثرت على باب المسجد فأطلت من فوق الباب فرأت زوجها ساجداً فاستكبرت ذلك عليه، ولما خرج أفهمها عادات المراكشيين في صلاتهم ومعيشتهم، فهمّت بتركه فمنعها وصرح لها بحبه وأخذها بين أحضانه وأقفلت الستار.
هنا ظهر بين المتفرجين شخص أهوج أخذ ينتقد الآذان في الممرات بصوت مزعج فتصدى له شخص عجيب الشكل لا بالطويل ولا بالقصير ولا بالوسيط.. إلخ [وقد أسهبت المجلة في تشويه ووصف الشخص بصورة غير لائقة لا أستطيع نقل ألفاظها] نظرت لهذا المخلوق المدافع عن الرواية فرأيته يجيب المجنون بعقل والجاهل بعلم والأحمق بقضايا منطقية، فتركت الأحمق وسألت عن هذا العالم في غير مكان العلم فقال لي أحدهم هذا «فكري أباظة» فقلت في عقلي لو كان هذا حقاً فكري أباظة لانطبق عليه المثل «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه»!
أما مجلة «الممثل» فنشرت كلمة سريعة عن هذا الموضوع، قائلة تحت عنوان «المتمرد»: والمتمرد هو الأديب «عصام الدين ناصف» فقد وقف خطيباً في الجمهور في ختام الفصل الثاني من رواية المتمردة. أخذ يحتج على إظهار رواية كهذه إذ هو يرى أنها (تهزي) بالإسلام و المسلمين إلخ .. وتصدى له من الجمهور من لا يوافق على رأيه، وكانت ثمة جلبة وضوضاء. ونحن نأسف جداً لأن شاباً متعلما – ومن أوروبا أيضاً!- كعصام لا يعرف أن صالات التياترو ليست محلاً لإبداء الآراء ولاسيما وأنه من حملة الأقلام وأمامه الجرائد يكتب فيها ما يشاء (بطّل المَرَازِيّة بقا يا عصام!).
أما مجلة «روز اليوسف» فشرحت الموقف قائلة: في الليلة الأولى لتمثيل رواية المتمردة على مسرح الريحاني وقف الأديب عصام الدين أفندي حفني ناصف بين جمهور المتفرجين المحتشدين في الصالة ونادى بأعلى صوته أن الرواية كيت وكيت... إلخ! وعصام الدين أفندي الذي تربى في برلين مفروض فيه أنه مؤدب وأنه يعرف واجبات اللياقة والآداب في المجتمعات، وأنه وإن كان لكل أحد حرية الرأي إلا أن حرية الرأي هذه لا يعبر عنها بالتشويش على المتفرجين وإقناعهم بالصخب والضجيج. وكفى حضرته ما سمعه من تأنيب وتوبيخ وكفاه ذلك السخط الذي لاقاه من كافة المتفرجين. وقد جاءنا من أديب كبير – أظنه فكري أباظة - الكلمة الآتية وقد أمضاها «متفرج» عنوانها «ما وراءك يا عصام!»: عصام الدين أفندي ناصف قد يكون ماهراً في فنه وبالتأكيد من دم عريق في الأدب ولكن هل يكفي ذلك لأن يكون ذا ذوق سليم وإدراك يحس الجمال ويسمو إلى مرتبة الكمال، هذا محل نظر! عصام الدين أفندي يريد أن يلتصق به ألق، يريد أن يتحدث عنه الناس! طرق أبواب الشهرة من نواحي فنه الذي درسه فلم يفلح.. إذن فليحاولها من ناحية أخرى. ولديه سواء! اجتذب قلوب الناس من ناحية المنطق أو اجتذاب أنظارهم من ناحية التهريج ما دامت النتيجة استلفات الأنظار، لذلك عمد إلى مخالفة آداب اللياقة إلى تخطي كل حدود المجاملة، إلى الاعتداء على العرف بدون أن تكون له منفعة خاصة يصيبها من وراء تحطيم ما اصطلح جميع الناس على وجوب الأخذ به. بالأمس يوم أن ترفع الستار في مسرح الريحاني قام خطيباً في زاوية من زوايا مدخل الصالة يؤذي آذان الجمهور بنقده رواية الأسبوع. لم أجد من يحمده على صنيعه هذا بل كان الأمر بالعكس. فقال أحدهم إنه مدفوع إلى ذلك وكم قاسيت في إقناع هذا القائل بخطئه. سيدي عصام أفندي: أمامك الجرائد ـ أمامك المجلات كلها واسعة الصدر فاكتب إليها بنقدك، ولكن ترفّع عن مهاجمة شخص في داره، لئن لم ترق لديك بضاعته فتول عنه وانصرف.
شارك ناقد مجلة «المسرح» في الكتابة عن مسرحية «المتمردة»، والجديد أنه تحدثت عما حدث أثناء العرض، وأبان عن أصابع خفية أرادت مهاجمة الريحاني وإفشال عرض افتتاحه، قائلاً: تأبطت ذراع زميلي ودخلنا صالة الريحاني في أول يوم الافتتاح، وأخذنا أماكننا وجلسنا، وعندما أطفئت الأنوار وبدأت الأوركسترا تعزف.. فجأة قامت ضجة في نهاية الصالة، وأصوات تصرخ: «افتحوا الأبواب.. الدنيا حر.. عاوزين مراوح» وصخب دائم وضجيج متصل!! وهكذا يرسل الشعب أول انتقاد له على مسرح الريحاني. وكثر الهمس بجانبنا في هذه اللحظة، قال أحدهم: «هؤلاء قوم مأجورون جيء بهم خصيصاً لتبويظ الحفلة»، وقال آخر: «لا بد أن يكون يوسف وهبي هو الذي أرسلهم»، وقال ثالث: «لا يا شيخ.. دا صديق هو اللي بعتهم من صبيانه»!
كانت الفوضى مستحكمة تماماً في هذه الليلة. في الشباك يبيعون التذكرة الواحدة مرتين، وعلى الباب لا يعرفون الداخل من الخارج، وفي داخل الصالة لا يعرف العامل ترتيب الأرقام الموضوعة في الكراسي؛ فيضطر أن يبحث مدة دقيقتين أو أكثر ليجلس كل متفرج. وبعد الفصل الثاني ترك باب الدخول مفتوحاً فاندس إلى الصالة عدد غير قليل من المزدحمين في الخارج. وأكثر ما يؤلم أنني لا أعرف لمن الرئاسة في الداخل والخارج! وشيكوريل هو الذي صنع أثاث المسرح ومفروشاته وكل شيء فيه، رأى عماله أن المتفرجين تضايقوا من الحر الشديد - وكان بعض الناس يخرجون بالمرة من الصالة - سارع العمال إلى إحضار المئات من مراوح اليد المصنوعة من الورق، وزجاجات الروائح المتغيرة، وجعلوا يوزعونها على المتفرجين. كانت هذه العملية بمثابة التخدير للأعصاب؛ فهدأت ثائرة الجمهور وانتظمت الصالة وسار كل شيء في مجراه الطبيعي، ولكن وا أسفاه ..!! مقعدي الذي كنت أجلس عليه!! خرجت بين الفصول ولما عدت عند رفع ستارة الفصل الثالث، وجدت شخصاً ما يجلس عليه.. استأذنته في رفق، فنظر إليّ بحنق وهو يقول: «إيه.. في حاجة؟!» لم أجد بداً من الصمت خوفاً أن أثير ضجة أنا الآخر، والأدهى من ذلك أنني طلبت من العامل أن يعطيني مروحة؛ فنظر إلي بازدراء ولم يجب ولم يعطني المروحة، طلبت من الثاني زجاجة رائحة ففعل فعل زميله! 
أما عصام الدين حفني ناصف أفندي.. ما كاد يرى الفصل الأول حتى خرج صاخباً، ووقف يخطب خطابة رشيقة، أغاظت الأستاذ فكري أباظة؛ فجاء والتصق به عساه يلتقط منه كلمتين! ولكن الشاب الخطيب كان عقيماً إلى حد السخف لأنه قال: «هذه الرواية موضوعة للتشهير بالمسلمين، والريحاني قصد إخراجها لإغاظة المسلمين في مصر!». بهذا كان ينادي، ولا أعلم من أين نشأت هذه الفكرة؟! وأين التشهير بالدين الإسلامي؟! لا شيء من كل هذه الأوهام، كان الجمهور عاقلاً وحكيماً، فوقف يهزأ من الشاب المسكين.. وتعرض له بعض الناس بكلمات جارحة، فهدأ صوته، وسكتت ثائرته، وقال: «أنا كنت في أوروبا وأنتم لا تفهمون شيئًا». الله! يا سيدي على كده، طيب وأنا كنت في السودان، وزميلي حماد [يقصد الناقد محمد علي حماد الناقد في جريدتي البلاغ وكوكب الشرق] كان في الشام، وإيه يعني يا بيه؟! كلنا أيضاً مسلمون، كان في الصالة تسعون في المائة مسلمون، فهل كلهم لا يفهمون دينهم وأنت وحدك الذي تفهمه وأنت في الواقع لا تفهم في الدين أكثر من نطق الشهادتين؟! وتكررت الكلمة مرة أخرى، هذه دسيسة، هذا مأجور لازم (ظرفوه) بجنيه، وكان لطيفاً صديقنا (مناع) فهمس في أذن صديق له: «دا لازم واخد ريال من يوسف وهبي». يادي يوسف وهبي الغلبان! وهكذا ترى يا سيد عصام إنك كنت مخطئاً ووضعت نفسك موضع التهم والشكوك. لا يفعلون هذا في ألمانيا التي زرتها ويجب أن تشكر حلم الجمهور المصري فلو أنك كنت في مسرح أوروبي وفعلت مثل هذا لقذفوا بك خارج الباب، أنت شاب متعلم لا تكن متهوراً لا تتبع مذهب خالف تُعرف، فهذه نظرية مضرة إذا لم تقم على أساس، لقد لفت إليك الأنظار ولكن!
وقابلت أمير الشعراء شوقي بك عند باب الصالة، قال: ما رأيك يا عبد المجيد؟ قلت: الحالة حسنة يا باشا. قال: أنا مسرور جدًا.. مسرور أن يكون في البلد مسرح كهذا. ثم صمت قليلاً وهو يرسل دخان سيجارته وقال: هذا مسرح شاذ بطبيعته ونظامه وتنسيقه ولو كان مثل هذا المسرح في فرنسا لسافر الناس من كل البلاد ليتفرجوا عليه. قلت: وما وجه الغرابة فيه؟! قال: هذه الصالة المستطيلة التي لا يوجد مثلها، إنهم يتعلمون الآن في باريس أن يضعوا المسارح بشكل غير عادي لتلفت الأنظار، وتجلب اهتمام الجمهور. سألته عن رأيه في الرواية، قال: إنها قطعة بديعة جداً، قلت: والممثلون يا باشا؟! قال: هذا فوق ما كنت أنتظر، هذا كثير.. ومع ذلك فهذه نتيجة المنافسة.. ولو لم تكن هناك منافسة لما رأينا شيئاً من هذا.. صحيح أن هذه المنافسة غير ظاهرة ولكنها خفية موجودة... وإليك نتائجها!! وفي منتصف الفصل الرابع دخل يوسف وهبي إلى الصالة يتبعه الخواجة أستيفان روستي! وقف برهة في الصالة ثم تحول عنها ودخل المسرح. وهناك جعل يتنقل من غرفة إلى غرفة.. هنأ نجيب.. وهنأ كل الممثلين والممثلات، الأطفال منهم والطفلات.. ما عدا روز اليوسف وماري منصور!! ولا شك أن هذه بادرة طيبة من يوسف وهبي يحمد عليها، ولكن! 
وبعد انتهاء الرواية، دعا نجيب الريحاني ممثليه وممثلاته إلى حفلة يشربون فيها الشمبانيا ابتهاجاً بما صادف من نجاح. كان المنظور أن تكون الحفلة قاصرة على مسرح الريحاني، ولكن نجيب دعا يوسف وهبي وحسين رياض وأستيفان روستي فحضروا البوفيه ويقال إن الدعوة كانت موجهة إلى جميع ممثلي رمسيس، ولكن يوسف قصرها عليه وعلى زميليه فقط. ترتب على ذلك أن روز اليوسف وماري منصور وأحمد علام ومواقفهم من يوسف وهبي معروفة لم يحضروا البوفيه، فكانت حفلة عرجاء ولا شك أن هذه ذلة من نجيب..!! وقد حدثت بعض حوادث صغيرة آخر الليل منعتنا من حضور هذا البوفيه اللذيذ، والآن وقد ثبّت الريحاني قدمه على المسرح، واندفع بفرقته في هذا الميدان، لا يسعني إلا أن أغض الطرف هذه المرة وأن أقدم له التهنئة الخالصة، وموعدنا الرواية التالية بشروط: أن يكون النظام مستتباً في كل مكان، وأن ترفع الستار في المواعيد المحددة بالضبط، وأن يبذل الممثلون عناية أكثر من ذلك، وألا تكون الرواية فيها طعن على الدين الإسلامي أو تشهير بالمسلمين.. اسمع يا صديقي نجيب وقاك الله شر عصام الدين وأمثاله.
لم يبق لنا سوى مقالة المندوب الفني لجريدة «كوكب الشرق» - أو بمعنى أوضح ناقدها الفني – رغم عدم وجود اسمه على المقالة والاكتفاء فقط بالمندوب الفني!! ولكن من خلال متابعتي لتاريخ هذه الفترة، أقول إنه الناقد «محمد علي حماد»، الذي أشرنا إليه من قبل وقرأنا نقده لمسرحية «مراتي في الجهادية» المنشور في جريدة (البلاغ)! أما مقالته عن مسرحية «المتمردة» فمختلفة بنسبة كبيرة، ومتطورة في أسلوبها النقدي حيث إنها إلى التحليل النفسي أقرب منها إلى التحليل الفني، ناهيك عن أسلوبها الأكاديمي الذي كان أقرب إلى الدراسة الأدبية، رغم أنها مقالة صحافية منشورة على عدة أجزاء في عدة أعداد من الجريدة، وهذا هو موضوعنا القادم.


سيد علي إسماعيل