العدد 821 صدر بتاريخ 22مايو2023
إذا نحينا جانباً كل المحذوفات السابقة، التي قام بها بديع خيري من مذكرات 1937، ولم يُدرجها في مذكرات الهلال عام 1959، سنجد أنفسنا أمام كم هائل من المذكرات لم يُدرجها بديع إلا ملخصة في سطور قليلة في مذكرات الهلال، أو أنه – مع آخرين - أعاد صياغتها – بالتلخيص والحذف والإضافة – ونشرها في مذكرات دار الجيب عام 1949. الخلاصة: أن الجزء الخاص برحلة نجيب الريحاني وفرقته إلى بلاد المغرب العربي – تونس الجزائر والمغرب – المنشور في مذكرات 1937 لن تجده عزيزي القارئ في أي مذكرات للريحاني!! ولعلك تجد سطوراً أو صفحات عن فحواها أو ملخصها أو بعض تفاصيلها، ولكنك مهما بحثت ووجدت .. لن تجدها بالصورة المنشورة في مذكرات 1937، وها هي:
قال الريحاني: «وعدنا إلى تونس لإحياء الليالي الباقية .. وكان علينا في اليوم الأول أن نقيم حفلتي الماتنيه تبرعاً لإحدى الجمعيات الخيرية والسواريه لحسابنا الخاص .. يعني لحساب الدائنيين .. هو إحنا كان لنا حساب يا حسره بلا نيلة!! وتقدمت في خضوع واستسلام إلى إدارة الجمعية الخيرية التي سنحيي لحسابها الحفلة قائلاً ما معناه .. إننا سنقوم بالتمثيل على عينّا وراسنا ولن نتناول على ذلك أجراً .. ولكن ونحن على تلك الحال التي لا تسر عدواً ولا صديقاً .. ألا يصح يا سادة يا كرام أن تدفعوا قليلاً ... قليلاً جداً من المصاريف .. من باب العطف والإحسان على الغلابة الممثلين؟!! كانت هذه الكلمة بمثابة الثقاب الذي يشعل فتيل الديناميت!! فيفرتك كل ما في طريقه .. وليتني ما نطقت ولا طلبت. همّ أحد أعضاء الجمعية إلى المسرح .. وكانت المقاعد قد امتلأت بالمتفرجين، وبدأ يخطبهم قائلاً بملء فيه أن الريحاني الذى أكرمنا وفادته وأحسنا استقباله وغمرناه بفضلنا وأغرقناه بأموالنا - وعلى فكرة كان مجموع الأموال الموجودة في جيبي في تلك اللحظة يعادل تلات قروش صاغ ميري .. يعني لو كنت بأغرق في شبر ميّه ما كنتش أغرق فيهم. واستمر الخطيب يلعن أبا خاشي وجد خاشي وعم خاشي .. وكلما حاولت التقدم إلى الجمهور لشرح حالتي والدفاع عن نفسي دفعني زملاء الخطيب إلى الداخل وأخذوني خلف الستار بالقوة الجبرية!! وألهب الخطيب حماس الجمهور فتعالى هتافهم ضدي وتصاعدت أصواتهم تطلب الانتقام مني. ومن هذه اللحظة أصبح نجيب الريحاني عدو الشعب نمرة 1 وقامت المظاهرات في البلد جميعه وانتشرت الدعوة بسرعة البرق فلم تكن تفتح جريدة .. أو تقع في يدك رقعة إعلان أو تمر في شارع أو تأوي إلى محل عام حتي تقرأ وترى وتسمع عن الريحاني ما قال مالك في الجوني ووكر والـ v.o مارتل .. ولذلك لم يعد لي عيش في مدينة تونس الزاهرة التي أحببتها من صميم القلب وحشاشة الفؤاد .. ولكن نعمل إيه في العزال يا قلبي .. وفى علي يوسف كمان. ولما كانت الرحلة من أولها إلى آخرها سلسلة متصلة الحلقات من المصائب التي يأخذ بعضها برقاب البعض الآخر .. فإليك تشكيلة بسيطة .. أو عينة لا بأس بها مما رأيت وشاهدت:
كان بين الممثلات ست راقصات من فرقة بديعة .. وهؤلاء وجدن المرتع خصيباً في تونس فرفضن السفر معنا وعولن على البقاء حيث هن، ما دام الجو قد راق لهن .. أما الفرقة .. وأما العمل .. وأما اتفاقهن معنا .. فسيبك وأضرب الدنيا طبنجة. وكان بين أفراد الفرقة الفريد حداد وكمال المصري «شرفنطح» والمرحوم جبران نعوم وعبد الغني محمد وعزت الجاهلي والقلعاوي وقد أذاقوني ويلاً كثيراً وعذاباً مستطيراً!! فألفريد حداد تَسلم تلغرافاً من مصر يحمل إليه نبأ مرض والدته .. ولذلك حتم النزول إلى مصر لمشاهدتها، أما السيد شرفنطح فقد كان المرض نصيبه هو فلم ينتظر تلغرافاً ولا غيره بل قبع في تونس مطالباً بالنزول هو الآخر إلى مصر: طيب ياسيدي تعالى ويانا، نداويك ونداديك ونتحمل بلاويك - (وأنا مالي هه)!! أما القلعاوي وفهمي أمان فقد شقا عصا الطاعة ورفعا راية العصيان. وأما بديعة فأنا حائر في وصف حالها وإنما أعطيك أيها القارئ العزيز فكرة عن برنامجها اليومي .. وهي فكرة صادقة لم تكن لتحيد عنها في يوم من الأيام:
ففي أول النهار وحين تستقبل المتعهد، يبني لها قصوراً من العلالي ويشيد «سرايات» من الآمال فوق الرمال، ولذلك كانت تفتح نفسها وتقبل على العمل راضية مرضية وكأنها نشاط في نشاط 24 قيراط .. حتى إذا جاءت الساعة الحادية عشرة واجتمعت بأفراد فرقتها القديمة ممن كانوا معنا إذ ذاك .. قلبوا مخها وكلوا عقلها فثارت ثورتها وقصدت إلى مكتب التلغراف وحررت برقية إلى ابن أختها أنطوان أفندي عيسى - بالقاهرة - تبلغه فيها أنها عائدة سريعاً وتصدر إليه أوامرها بإعداد الإعلانات و«توضيب» الصالة والاستعداد للعمل. وفي ساعة الغداء ينتحى بها المرحوم جبران نعوم ناحية «فيركز» لها عقلها وينصح لها بالتروي والصبر .. ويحيل لها البحر طحينة .. فتقصد من فورها إلى مكتب التلغراف .. وترسل إلى الغلبان إليه تعالى «أنطوان»، تلغرافاً ثانياً تلغي فيه تلغرافها الأول وتأمره بعدم اتخاذ إجراءات سريعة .. وبعد الغداء تنام في الفندق ساعة أو اثنتين فيتراءى لها أو ترى في المنام حلماً تقوم على أثره إلى التلغراف فتلغي برقيتها الملغاة وتعزز برقيتها الأولى إلى أنطوان .. وهكذا، وأنا واثق أن أنطوان المسكين كان يُحار في ترتيب برقياتها ولا يدري أي البرقيات كان السابق وأيها اللاحق .. وهل كان القرار النهائي مستقراً على الإلغاء .. أو الإبقاء، وإلى العدد القادم حيث نستأنف سلسلة المصائب».
وهكذا أنهى الريحاني هذه الحلقة من مذكراته المنشورة في مجلة «الاثنين والدنيا» عام 1937، وفي الأسبوع التالي استكمل كلامه، ولكن محرر المجلة كان يكتب مقدمة لبعض الحلقات عندما يكون الموضوع متصلاً وله تكملة، وهذه المقدمة عبارة عن ملخص لأحداث الحلقة السابقة، وهذا نموذج لهذه المقدمات، وفيها قال المحرر: «روى الأستاذ الريحاني في العدد الماضي بعض المتاعب التي لقيها في تونس من الدائنين الذين اقترض منهم الأمبرزاريو «علي يوسف» أموالاً قبل وصول الفرقة، كما روى شيئاً من الدعاية السيئة التي تنشرها ضده بعض أعضاء الجمعيات الخيرية لا لسبب إلا لأنه مع تبرعه بإحياء أربع حفلات مجانية لهذه الجمعيات التمس من أعضائها أن ينزلوا له عن جزء يسير من الإيراد .. وروى الأستاذ الريحاني كذلك بعض ما قاساه من زملائه الممثلين وتمردهم عليه في بلاد الغربة .. وها هو يواصل الآن ما انقطع». وبالفعل استكمل الريحاني كلامه قائلاً:
«قلت في العدد الماضي إن الراقصات اللواتي كن معي في الفرقة وهن أعضاء كازينو بديعة سابقاً وجدن المرتع خصباً في تونس فرفضن اصطحابي إلى الجزائر وفضلن البقاء حيث هن، ولذلك استوليت على جوازات سفرهن «الباسبورتات» كوسيلة تضطرهن إلى القيام مع الفرقة فلم يكن منهن - يا مغيث على نون النسوة وسآلتها - أقول لم يكن منهن إلا أن شكونني للبوليس في الليلة نفسها التي قررنا أن نغادر تونس في صباحها. وبعد التحقيق والتدقيق وإظهار ما خفى وما بطن تعهدت الراقصات أن يرافقن الفرقة في سفرها على شريطة أن أسلم كلاً منهن جوازها .. وقد كان .. وسلمت الجوازات .. إلا أن الفار .. الله لا يكسبه، لعب في عبي .. وإذا لعب هذا الفار الملعون في العِب .. فقل على عقلك السلام!! وإرضاء الفأر العزيز وتطميناً له أخذت حقائب الراقصات التي تحوي ملابسهن .. كرهينة عندي أضمن بها قيامهن بما تعهدن به .. فلما أصبح الصباح .. اجتمع الممثلون وذهبنا لإيقاظ حضرات السيدات الراقصات .. ولكن اتضح .. أول وهلة أن نومهن كان ثقيلاً .. وأنه ليس في طوق طوبجية الجنرال فرانكو أن تزحزح إحداهن من مقرها الأمين، ولو تحول الفؤاد من الشمال إلى اليمين، وانتقلت الأهرام من مكانها المسكين!! وكانت «لوصة»، أترك لعزتكم أو لسعادتكم .. يا حضرات القراء تقديرها!! سلمت أمري لله في الراقصات .. وتحولت نحو الرجال مستعيناً بمروءتهم وملتجئاً إلى شهامتهم هاتفاً فيهم كما هتف المرحوم المارشال جوفر في جنوده يوم معركة المارن المشهورة: «هيا إلى الأمام أيها الأبطال». ونظرت لأرى نتيجة هذه الصرخة التي تحرك الجماد وتبعث الكل إلى الاستعداد، أقول نظرت فإذا الشهم الأول الأستاذ شرفنطح باقٍ في سريره يناجي المرض في قرف .. وراسه وألف .. مش عارف إيه أنه لازم يرجع مصر إذ اتضح له أن في الأسفار خمس مضار .. لا خمس فوائد كما قال القدماء .. آدي واحد طلع فياسكو .. أما الثاني والثالث فهما الفريد حداد وعيد مرعي: طيب وأنتما ما علتكما .. الله لا يكسبكما .. واعذروني لأن القافية حکمت .. قال الأول: إن علته هي الرغبة في أن يشاهد والدته المريضة، وقال الثاني: إن علته .. أنه ليس له علة .. وأنه يرى .. بثاقب فكره .. أن السفر إلى مصر خير له وأبقى!! آه يا أولاد الـ .. لو كان فيه هنا قنصل مصري يغيتني كنت عرفت أوريكم شغلكم .. لكن دلوقت أعمل إيه العين بصيرة واليد قصيرة .. وبهذه المناسبة أتقدم بكل احترام، إلى الوزير الهمام - آهو دا سجع مقصود أقول لك الحق - وزير الخارجية راجياً منه إنشاء قنصلية مصرية في المغرب الأقصى لأني شفت الويل من الممثلين والممثلات هناك .. وكان من المتعذر أن اتصل سريعاً بسعادة القنصل المصري في مرسيليا وهو اللي قيل لي إن اختصاصه يمتد إلى هذه البلاد .. ولذا كان معالي الوزير يريد استعلاماً عن أي شيء فأنا على استعداد لمده بالمعلومات اللازمة عن هذه البلاد .. بدون مقابل والأجر والثواب على الله!! المقصد تركت تونس ... وتركت الراقصات وتركت شرفنطح إخوان ليمتد وحملت معي حقائب الراقصات كما تقدم القول ... وليتني ما حملت فقد كانت «اللبخة» دُوبل والحيرة بهذه الحقائب على قفا من يشيل. وقمت بمن تبقى معي من أعضاء الفرقة إلى الجزائر، وما هو إلا أن وصلنا الحدود وبدأنا نغادر قطار تونس لنأخذ قطار الجزائر، وإذا بشرذمة من رجال البوليس يقودهم صف ضابط ينادي بأعلى صوته: مين اسمه نجيب الريحاني، وتقدمت غير هياب ولا وجل - دا في الظاهر بس أما في الباطن فعدوك لأني أحسست أن قلبي المسكين قفز إلى أسفل حتى وصل إلى كعب القدم - وعنها وكراكون سلاح حول العبد الفقير وقادني الجند في شبه مظاهرة وأمامي ثلاثة شايلين السلاح وخلفي اثنان وعلى يميني ويساري اثنان إلى أن وصلنا مركز البوليس وجالك عزرائيل يا تارك الصلاة!!
بادرني الرئيس قائلاً: أنت لص وحرامي .. فين الشيكارات اللي سرقتها»؟ .. «الشيكارات! الشيكارات» لم أفهم بالطبع معنى الكلمة .. وأرجعت بصري مرتين مفكراً ماذا عليّ أن أكون قد سرقت؟ ولكني لم أذكر أني سرقت شيئاً لا في الغرب ولا في الشرق .. وأخيراً بعد مناقشات ومحاورات اتضح أن الشيكارات .. هي «الحقائب» .. وأن اسم النبي حارسهم .. أو حارسهن .. الراقصات أبلغن البوليس أنني سرقت .. أي والله أنني سرقت .. واخـــد بالك!! سرقت حقائبهن!! وقلت: إن الشيكارات معي صحيح .. ولكن السرقة مش صحيح .. وحاولت إقناع حضرات القابضين عليّ أنني مش وش ذلك!! وأنني مدير فرقة .. صحيح كانت قد الدنيا .. ولو أنها على وش تغرق ... لكن اسمها فرقة والسلام .. ثم إن عليّ التزامات وفي عنقي اشتراطات يجب تنفيذها وإلا فإنني أحملكم كل مسؤولية تنجم عن ذلك!! وذهبت هذه الأقوال كلها مع الهواء وقادني من لا يرحم إلى غيابة السجن .. وبئس المصير.
وجاء إنقاذي على يد ذلك «الهاوي» الذي حدثتكم عنه في العدد الماضي وأفهمتكم - ولا مؤاخذة - أنه كان عيناً علينا من قبل السلطة الفرنسية .. وأنه انضم إلى الفرقة كهاوٍ للفن فسهل لنا أمورنا في تونس أحسن تسهيل .. اتضح أن هذا الهاوي كان كبيراً بين رجال البوليس في تونس، فلما وصل إلى علمه ما حاق بي على الحدود، أسرع بالاتصال بمركز البوليس وأصدر أمراً بالإفراج عنى سريعاً وتقديم الاعتذار الكافي إليّ! اعتذار إيه يا عم وبتاع إيه!! أنا فاضي لسماع شيء من هذا!! أنا يا دوب شميت نسيم الحرية .. وعينك ما تشوف إلا النور ... وفككان جري .. أعمل إيه؟ يمكن يحمرأوا تاني ويرجعوني السجن .. وكل اعتذار وأنت طيب!! واجتزنا الحدود إلى الجزائر!!