العدد 793 صدر بتاريخ 7نوفمبر2022
دون الاعتماد على الحكايات أو الروايات أو المذكرات، والاعتماد فقط على الحقائق والوثائق والإعلانات المنشورة في وقتها، أستطيع أن أقول: إن أول مسرح موثق في جميع مسارح روض الفرج هو المسرح الموجود في «كازينو مونت كارلو»! وأول إعلان – وجدته فيما بين يدي من وثائق – كان في صيف 1922 ونشرته جريدة «الأخبار» قائلة: «فرقة التمثيل العصري لصاحبها سماحة وعز الدين بكازينو مونت كارلو بروض الفرج بين الأشجار والرياحين في الهواء الطلق. تمثل روايات عصرية كل يوم من الساعة 7، يمثل أهم الأدوار الممثل القدير «يوسف عز الدين»، وتشنف مسامع الحاضرين خلال الفصول بصوتها الرخيم الآنسة «زينب بدران»».
وتوضيحاً لهذا الإعلان أقول: إن فرقة التمثيل العصري لها صاحب واحد هو «أحمد سماحة»، الذي اعتاد التنقل بفرقته في الأقاليم وكان مقرها الرئيسي «المنصورة»، وقد اعتاد أصحاب الفرق - في هذه الفترة – مشاركة النجم الأول «البطل» في إدارة الفرقة ووضع اسمه – كونه شريكاً – في الإعلانات! أما النجم والبطل «يوسف عز الدين» والمطربة «زينب بدران» فهما من أعضاء فرقة «محمد كمال المصري» الشهير بـ«شرفنطح» التي كانت تعرض أعمالها الكوميدية في تياترو البيكاديلي بشارع عماد الدين منذ عام 1919. وعروض يوسف عز الدين في روض الفرج عام 1922 كانت في فترة الصيف فقط، وغالباً تكون العروض حسب الحاجة! بمعنى أن الفرقة عملها الأساسي في الأقاليم أو في المسارح طوال موسم الشتاء، وهو الموسم الأهم. لذلك من الممكن ألا نجد أية أخبار عن يوسف عز الدين في مسارح روض الفرج لعدة سنوات، لأنه يعمل في مسارح أخرى أو في مسرحه بشارع عماد الدين!!
وبناء على ذلك لم أجد – فيما بين يدي من وثائق ومقالات – أية أخبار عن يوسف عز الدين في روض الفرج إلا في عام 1925، الذي أعدّه عام البداية الحقيقية له في روض الفرج! وقد نشرت مجلة «النيل» صورة له في إبريل 1925، كتبت أسفلها الآتي: «هو الممثل الكوميدي الفكه المعروف رئيس فرقة التمثيل العصري التي تمثل في كازينو سان أستفانو بروض الفرج. أعاد الأستاذ يوسف عز الدين عصر التمثيل الكوميدي فأخذ بيده وأقاله من عثرته. وليس أمامنا في مسارحنا الهزلية غير فرقته في روض الفرج التي بدأ افتتاح أعماله بها في الأسبوع الماضي. وأملنا أن تخرج هذه ما يسهل على مصطافي روض الفرج حرارة فصل الصيف ملطفه بنسيم النيل العليل».
وهذا الكلام يعني أن يوسف عز الدين أصبح صاحب فرقة مستقلة باسمه – بدون شريك – وكانت تضم مجموعة من الفنانين، وأول مسرحية عرضتها هي «الشاطر حسن» كما أخبرنا ناقد مجلة التياترو - الذي زار المسرح وشاهد العرض في سبتمبر 1925 – قائلاً تحت عنوان «التمثيل في روض الفرج»: إن الحياة الفنية لا تتطلب الثروة فقط لبناء مسرح أو تشييد دار أو شراء مناظر أو ملابس، بل تتطلب النشاط والهمة قبل كل شيء. ومتى وجدت هذه الميزة فإنها الثروة ويعقبها النجاح. ولقد وجدت في روض الفرج ذلك المصيف الصغير وذلك المظهر الضئيل، مسارح للتمثيل حوت عدداً كبيراً من المحترفين بالفن، تفقدتها كلها وقابلت مديريهم، فوجدتهم يفيضون ذكاء وقوة ويعملون في هذا العالم للمعيشة! دخلت أول دار تصادف المارة فوجدتها تفوح رائحة طيبه تنعش النفوس ويلذ فيها الجلوس. رُفعت الستارة عن جوقة الملحنين، فشنفوا مسامع هذا الجمع الحافل بألحان بعيدة عن النشاز. ورأيت بينهم شاباً صغيراً استعذبت صوته وسألت عن اسمه فاذا هو «محمد أفندي الصغير»، ثم وجدت تنسيق المسرح جميلاً على صغره فقيل إن ذلك بفضل مديره «أحمد أفندي فريد». ثم ابتدأ الفصل الأول من رواية «الشاطر حسن»، فوجدتها بعينها لا تنقص عن مثيلتها بمسرح الريحاني شيئاً! فوجدت مدير الفرقة يوسف أفندي عز الدين والست فاطمة قدري والست فايقة عز الدين وعباس أفندي الدالي وجميع ممثلي الفرقة يعملون متكاتفين على حفظ كيانهم وحُسن مستقبلهم.
هذا النجاح جعل الفرقة تتألق في عامها التالي 1926، وظهر هذا التألق في الإعلانات المنشورة، ومنها إعلان افتتاح الموسم وجاء فيه: «الافتتاح العظيم «كازينو سان أستفانو بروض الفرج» كل ليلة «فرقة يوسف عز الدين» هذا المساء رواية جديدة من أهم الروايات. تطرب المشرفين بصوتها الملائكي المطربة المعروفة الآنسة «فاطمة قدري»، الممثلة والمطربة القديرة «شمس قدري» الممثلة الرشيقة الآنسة «منيرة حسني»، ومدير الإدارة عباس محمود، أوركستر كامل رئاسة محمد الدبس. يملأ المرسح بهجة وسرور بالتمثيل البديع من السيدة فايقة عز الدين، والمطرب المحبوب محمد حسني، والممثلة الفريدة الآنسة سنية محمود، مدير المرسح توفيق صادق، الألحان رئاسة حسن الدويني، تسحر الألباب بصوتها الشجي، وتسلب العقول بتمثيلها المبدع الآنسة «فاطمة قدري»».
نجاح فرقة يوسف عز الدين – وسط تنافس كبير من بقية الفرق – وإشادة الصحف بها ووصفها بأنها «المحل الوحيد الجدير بتشريف العائلات» - كما قالت جريدة «ألف صنف وصنف» - جعل الحسد يدب في نفوس أصحاب الفرق الأخرى، فبدأ الهجوم على الفرقة صحافياً من خلال «مندوب الشباب بشبرا» الذي كتب مقالة في جريدة الشباب في مايو 1926، قال فيها:
سنتكلم عن التمثيل والممثلين في روض الفرج، ويوجد هناك أربعة فرق للتمثيل أولها فرقة عز الدين وتشتغل في كازينو سان أستفانو كما يسموه، والثانية فرقة أمين صدقي وتشتغل في كازينو مونت كارلو كما يلقبوه، والثالثة فرقة الشيخ الشامي وتشتغل في كازينو ليلاس شرحه، والفرقة الرابعة تشبه تياترو السيرك والله أعلم وتشتغل في تياترو بارك ميرامار. نتكلم اليوم عن فرقة يوسف عز الدين وتكاد تكون الأولى في تنسيقها ونظامها وحسن اختيارها، إلا أن هناك عيوباً نفضحها على صفحات الشباب ولو يزعل سيدنا الأستاذ، ولكن حرصنا على جماعة المتفرجين وواجبنا الصحفي يدفعنا إلى تحذيرهم من «الطاعون» المنتشر في «الخلوات»، وتحت «التكعيبة»، وأيضاً ما وراء الستار! لقد انتقى عز الدين لفرقته القديرين في فنهم من الممثلين أمثال عباس الدالي وأحمد فريد والدويني وممدوح وغيرهم ما لم يحصل لي الشرف برؤية أو سماع شيء عنهم، وهم وإخوانهم «تحت التمرين». ومن الممثلات فاطمة وشمس إخوان ومنيرة وحكمت وأمينة وعزيزة وسنيه وأخريات. إلا أن من بين هؤلاء من لا تساوي «بصلة» في نظري ونظر جمهور النظار. ولم أحضر من الرواية إلا الألحان التي اعتادوا الافتتاح بها .. فالأغاني المبتذلة والطقاطيق العتيقة يجب لمن يسع للتقدم أن يمحوها بأجدد منها حتى لا تمل الناس. وهذه الألحان بعضها سمعه من خمس سنين والبعض من عام وعامين. ومحمد الصغير في إنشاد القطع الوطنية أطرب منه في أناشيد الحب والغرام السخيفة. فهل لك في القريب أن تسمعنا شيئاً جديداً لم ينشده غيرك حتى نحكم لك أو عليك؟
واضح أن فرقة يوسف عز الدين نجحت نجاحاً كبيراً رغم هجوم مندوب جريدة الشباب، فزاد من حدة هجومه في مقالته التالية التي نشرها في منتصف مايو 1926، حيث مسّ فيها أهم ظاهرة مرّت على تاريخ مسارح روض الفرج، وهي إعادة تمثيل مسرحيات شارع عماد الدين في كازينوهات روض الفرج، وبالأخص مسرحيات نجيب الريحاني، وتحديداً المسرحيات التي بها شخصية «كشكش بك»، وهو الأمر الذي حدث في مسرحية «الشاطر حسن» بالنسبة لفرقة يوسف عز الدين، وتكررت في مسرحية «اللي فيهم»، التي تناولها الصحفي – صاحب الأسلوب المبتذل - قائلاً:
سان أستفانو أو يوسف عز الدين أو الفرقة اللي بتشتغل فيها فاطمة قدري ستمثل في مساء الليلة رواية «اللي فيهم»! طب وايه يعني؟ دار هذا الحديث بيني وبين صديق لي ونحن في عربة الترام في طريقنا إلى روض الفرج يوم الجمعة الماضية. قال لي الصديق: يعني فرقة عز الدين رايحة تمثل الرواية زي ما مثلها نجيب الريحاني من كام سنه؟! وألح علي كثيراً هذا الصديق في الذهاب إلى مشاهدة رواية «اللي فيهم». وبعد ما أخجل تواضعي تنازلت ورافقته إلى كازينو سان أستفانو، وأجلت مونت كارو إلى الأسبوع التالي .. والرواية شاهدها الجميع عندما مثلتها فرقة نجيب الريحاني، وأظنهم ليسوا في حاجة إلى سرد حوادثها أو تفهم مغزاها! وما نبحث فيه: هل قام ممثلو روض الفرج بتمثيل الأدوار على حقيقتها أم لا؟ «عباس الدالي» مثل دور الدكتور رأفت، فأجاد في الفصل الأول إجادة يُحمد عليها، ولا بأس به في الفصلين الآخرين، إلا أنه لم يُحسن وضع السماعة على آلة التليفون وارتبك حتى كادت تفلت من يده! وأني أنصحه أن يُمرن نفسه على الآلة الرئيسية في السنترال كل يوم ولو ساعتين أو يبقى يدخل في بيتهم تليفون ويبقى يكلم نفسه طول النهار، حتى يأخذ على رفع السماعة ووضعها. «محمد فريد» مثل دور الجحش صبي كشكش، وكم كان خفيفاً المضروب، فإن تجعدات وجهه وعبوسه وضحكاته وحركاته دلت على أنه من سكان العُطوف وسيدي زينهم وتحت الرَبع. أما في الدور الأمريكاني فإن بنطلونه المرقع وحذاءه البالي كان أعجوبة، وبرهن على أنه من الأمريكانيين المتنعمين في اللطوخية! كثيراً ما ضحك المتفرجون منه إلا أنه في آخر الفصل الثاني لم يجيد طريقة الهروب من البمباشي فهرول مسرعاً في خطاه فوق الحد المألوف زي اللي كان طالع السبق. «أحمد شاهين» مثل دور البمباشي وكان متقناً هندامه وأجاد نوعاً ما إلا أنه كرر في بعض الجمل التي لا أظنها في صلب الرواية، وذلك في حالة ما ظهرت عليه إمارات الجنون. وقد نادى خطيبة الدكتور رأفت بكلمة مدام وأظنها مودموازيل. «أحمد مختار» ممثل دور الخواجة والد العروسة، لهجته كانت طيبة وقام بدوره كخواجة ولم أجد في موقفه ما آخذه به. «الدويني» مثل دور العمدة العيّان، ولم يظهر مقدرة فنية يشكر عليها بل كان يقلد وكان بطيئاً في حركة الإسراع، سريعاً في حركة الإبطاء! ويجدر بالمريض الذي يحتاج إلى علاج الطبيب أن يبدل من صورة وجهه على الأقل حتى يفرق بينه وبين السليم. ونصيحتي إليه أن يكتفي بالتلحين، فهو كفؤ له وقابل إلى التقدم فيه. «صادق علي» مثل دور الضابط وأظنه حديث في التمثيل فكان مرتدياً بدلة ضابط بحري -جاكتة بيضاء وبنطلون أسود بشريط أخضر – وكانت وظيفته كضابط قضائي ويظهر أن سمعه ثقيل، فكان يتلقى الكلمة من الملقن ويلقيها بعد جهد! في حين أن الضابط القضائي يشترط فيه أن يكون سريع الكلام كثير السؤال حتى يحرج المتهم فيحصل منه على الحقيقة أو يقر بخبايته، وإذا دُرب ربما وجد نجاحاً فيما بعد. أما صوته فلا بأس به في المونولوجات. «ممدوح» مثل دور أم مرزوق فأظهر شخصية المرأة الشرشوحة أو الشردوحة! «يوسف عز الدين» مثل دور كشكش فلم أفرقة عن نجيب الريحاني، وكان تمثيله طبيعيا وحركاته مألوفة خصوصاً عندما قال في ختام الفصل الثاني: “أنا مين يا حسين . أنا مين ياحسين” فكانت حركات بطنه - الصلاة على النبي - فشر ولا [...] وسرت منه النظارة ولبوا إعادة أدواره خصوصاً مرة ومرتين. إلا أن البقعة التي يمثل فيها اشتهرت بحقارتها والجو موبوء بفاسدي الأخلاق، واللوم واقع على الحكومة التي تركت أمثال هؤلاء الرعاع من [...] ومن على شاكلتهم يتجمهرون في الشوارع وينتشرون في الأمكنة، فيختل الأمن!! ولو يهتم بأمرهم حضرة مأمور قسم شبرا ويوجه اهتمامه إلى الروض لأصبح جنة الخلد، ولما اشتكى نفر مما يشتكي منه المئات الآن. كم شكونا ورفعنا الصوت عالياً إلى «التوني» بك بأن يكبح جماح هؤلاء الأوغاد ويلقي القبض عليهم! ولعله فاعل ذلك غداً إن شاء الله تعالى ولا يضطرنا إلى نداء مفتوح ربما أزعج سعادة الحكمدار! أما «فاطمة قدري» فمثلث دور أمونه، وربنا رازقها بأوركسترا على هواها. وأما صوتها فكان شجياً مؤثراً ووقفاتها مبلوعة، إلا أننا لم نسمع أن ممرضة ولا حتى داية كانت بتتشخلع أثناء تأدية وظيفتها. «فايقة» مثلت دور الجارة فكانت كأوروبية وارد مرسيليا بس أنصحها تتخشن أكثر من ذلك أحسن. بعدين أبقى أقول لأبو رشاد «محمد الصغير، وشمس، ومنيرة، وحكمت، وأمينة، وسنية» مثلوا رجال الإسعاف، فغطى محمد الصغير ما أظهروه من نقص في حناجرهن! وكانت شمس أم أسود وأبيض فشبهت عليّ اللي طالعة القرافة متعايقة. ومنيرة أم أصفر وكان الفستان محزأ ومخليها زي الحبلى في ثلاثة. وحكمت أم فزدقي وشراب لحم الهوانم، وكانت بعد انتهاء اللحن تمط في صوتها لما تقطع نفسها. وأمينة أم بمبة مسخسخ، وكانت مِتقلة المُونة ومش واقفه على بعضها. سنية أم طحيني وما أقولشي عليها إلا راجل، وأنصحها تبقى تضيق بُقها ولو خمسة سنتي على الأقل علشان الكلمة ما تطلعش سايحة. هذا ما شاهدته عن التمثيل والممثلين لأول رواية رأيتها هناك وقد كنت أبغض الاقتراب من هذه المحلات ولا انتظر أكثر من خمس دقائق!!