العدد 701 صدر بتاريخ 1فبراير2021
ما سبق يتمحور حول فكرة التطابق بين الكلمة والشئ، بين الإسم والمسمَّى، بين الوعى والعالم. هكذا كأن الفلسفة الميتافيزيقية برمتها لم تكن سوى محاولة لرأب الصدع التاريخى الكبير الذى أصاب العلاقة التطابقية بين اللغة والعالم، أو كأنما هى محاولة لنسيانه، غير أنه «أى الصدع» كان قد استوطن الدراما برمتها، اليونانية وما بعدها أيضا .
فى كتابه «الأسطورة والتراجيديا فى اليونان القديمة» يقول «جان بييرفرنان “([ماتنقله الرسالة التراجيدية، عندما يتم فهمها، هو تماما وجود مناطق كتيمة ولا تواصلية فى الكلام الذى يتم تبادله من قِبَل الناس، ففى اللحظة التى يرى فيها المتفرج الشخصيات الرئيسية تعتنق معنى واحدا لا تبصر غيره وبالتالى تتمزق وتسير إلى هلاك، فى تلك اللحظة يفهم أنه يوجد فى الواقع معنيين ممكنين أو أكثر. إن اللغة لا تصبح شفافة للمتفرج، والرسالة التراجيدية قابلة للنقل إلا إذا توصَّل لاكتشاف التباس الكلمات والقيم والإنسان، وإلا إذا اعترف بالعالم على أنه صراعى. عندئذ، وفى تخليه عن قناعاته القديمة وانفتاحه على رؤية إشكالية العالم، يجعل نفسه بنفسه، ومن خلال العرض الذى يشاهده، وعيا تراجيديا [ ص 38.
ويعلق رولان بارت على هذا بقوله: [لقد بيَّنَت أبحاث جان بيير فرنان الطبيعة الملتبسة للمأساة الإغريقية. فالنص فى هذه المأساة يتكون من ألفاظ ذات معنى مزدوج؛ بحيث أن كل شخصية من شخصيات المسرحية تفهمه من جانب واحد ، وسوء التفاهم الدائم هذا هو ما يشكل «المأسوى”]، ويضيف : [ومع ذلك فهناك من يدرك كل لفظ فى ازدواجيته، كما يدرك عدم إدراك شخصيات المسرحية الذين يتحاورون أمامه: ذلك هو القارئ. هنا تتضح لنا حقيقة الكتابة: فالنص يتألف من كتابات متعدِّدة، تنحدر من ثقافات عديدة، تدخل فى حوار مع بعضها البعض، وتتحاكى وتتعارض، بيد أن هناك نقطة يجتمع عندها هذا التعدُّد. وليست هذه النقطة هى المؤلف، كما دأبنا على القول، وإنما هى القارئ ...] درس السيميولوجيا ، ص 87 .
حديث بارت هنا، عن «القارئ»، ينطبق على «المشاهد فى المسرح اليونانى القديم»، ذلك المسرح الذى كان يقدم نفسه بوصفه ممارسة لغوية، إذ لا يزيد عن تجسيد درامى لمشكلة اللغة، بما هى مشكلة التحول التاريخى فى الوعى بالوجود؛ كإنفصال بين الإنسان والطبيعة .
سيستمر هذا المنحى حتى عصر شكسبير، ففى مسرحية مكبث، يقول «مكبث» :[... إنى لأجر عنان العزم، وأبدأ أشك فى كلام الشيطان بلسانين إذ يكذب كالصدق: «لاتخف حتى تأتى غابة بيرنام إلى دنسينان.” - وهاهى غابة بيرنام تأتى صوب دنسينان ...] المآسى الكبرى، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا ص 783،
وفى ترجمة أخرى لـ«حسين أحمد أمين»، يقول مكبث: [... أرى عزمى قد وهن، وأرانى قد بدأت أشك فى مراوغة الشيطان وحديثه الغامض، وأكاذيبه التى تبدو فى زى الحقيقة «لا تخشى شيئا حتى تنتقل غابة بيرنام إلى دانسينين”. وهاهى تنتقل إلى دانسينين ...] ص 182.
اللغة والإستعارة :
إعتدنا أن نقرأ عن الأدب والفن أنهما يحاكيان الواقع، أو أن الأدب والفن يمثلان، يعكسان ، الواقع- فالواقع عادة ما يجنح نحو التمثيل .
تلك النظرية الموغلة فى القدم، والمعاد إنتاجها بطرق شتى، عبر العصور- ترتبت عليها مواقف لا حصر لها من قضايا عديدة، لعل أهمها على الإطلاق قضية (التمثيل) نفسها، التى هى مناط عمل الفكر والأدب والفن .
تلك النظرية تمتد جذورها فى فلسفة اللغة ومن ثم البلاغة، وفقا للتأسيس اليونانى القديم المتعلق بنظرية المحاكاة المنبنية على «وحدة الدال والمدلول والمرجع»، إذ انتهى «سقراط وأفلاطون وأرسطو» إلى ضرورة توفر عنصر «الملاءمة» بين الكلمة والشئ، وعلى الرغم من أنهم قالوا بإصطلاحية أو تواطؤئية اللغة «بدليل إختلافها من مجتمع لآخ») إلا أن موقفهم يقترب كثيرا من القول بأن [لكل شئ كلمة جُعِلت له] .
وفى الحقيقة، يصعب اختزال موقفهم فى صيغة محددة، ذلك أن الهوامش التى تطرقوا إليها، والتى مثلت فى مجملها إستدراكا متحفظا على «التطابق بين الكلمة والشئ –”الذى قيل بأنهم ذهبوا إليه- هى التى «خلخلت» النظرية نفسها؛ من ذلك على سبيل المثال، ذهاب أفلاطون إلى أن الكلمة زئبقية، ومتعددة الظلال ومراوغة، ومن ثم دعوته إلى ضرورة العودة مباشرة إلى علاقة المعنى بالشئ، توافقا مع نظرية المُثّل الخاصة به .
(2)
تفترض نظرية التمثيل القديمة أن الكلمة مطابقة للشئ الذى تمثله وتنوب عنه فى الحضور- من هنا ينبنى «التواصل» على وحدة المرجع بين المتكلم والمستمع، فهو الأرضية المشتركة التى يقفان عليها- ومن هنا كانت الإستعارة (والعرض المسرحى إستعارة) انحرافا مؤقتا عن المرجع المشترك . هذا وتعود ضرورة هذا الإنحراف إلى أنه هو المسافة التى يتشكل فيها «المعنى». فعندما أقول «زمن حارق»، فهذا يعنى أننى انحرفت بالزمن عما نشترك جميعا فى معرفته عن الزمن، ذلك أنه لا يحرق، النار هى التى تحرق، هكذا، مما يعنى أننى استعرت من النار صفة الحرق وألحقتها بالزمن- هذا الإنحراف عما نعرفه عن الزمن، بإلحاقه بالنار، أو بصفة من صفاتها، سرعان ما يعود إلى ما تواضعنا عليه بمجرد إمساكنا بالمعنى .
أى أن العودة أو الإحالة إلى الواقع كـ «مرجع مشترك» تظل ملاصقة للإستعارة، فبها يتحدَّد الإنحراف عن الأصل كشرط للإمساك بـ «المعنى». ما نلاحظه هنا هو أن «الإستعارة» تأسَّست على «الجمع بين أطراف متنافرة فى الواقع- فى وحدة دلالية» .
هذا الطرح ينطوى على إشكاليات عديدة- ظلت قائمة على مائدة البحث اللغوى والبلاغى، منذ زمن بعيد، إذ أشار البعض إلى أن [اللغة كلية بطبيعتها]، فعندما أقول «الباب»، فتلك الكلمة لا تمثل بابا ماديا محددا بقدر ما تشير إلى الفكرة الكلية المتعلقة بالباب؛ أى باب... وبذا فتلك الكلمة سترتسم فى أذهاننا على هيئة أبواب عديدة- إذ لكل منا بابه الخاص . وغير خاف بالطبع أن علاقة اللغة «الكلية» بالواقع المادى «المُجَزَّء» هى منبع إشكالية «المعنى» ومن ثم «التواصل»، وهو مايمثل مشكلة المشاكل كلها فى المسرح كما سنرى .