بيتر بروك وصدى التعاليم الروحانية(2-2)

بيتر بروك  وصدى التعاليم الروحانية(2-2)

العدد 788 صدر بتاريخ 3أكتوبر2022

الرحلة إلى أفغانستان 
قام بروك برحلات أخرى إلى أسيا الوسطى والشرق الأوسط (إيران وتركيا وأفغانستان) وتتبع أثر مسار رحلة المعلم القوقازي جورجس غورديف، وزار الأماكن والأضرحة وتكايا المتصوفة وكنائس منعزلة في قمم الجبال والمناطق النائية أو في القرى، واخرج فلما سينمائيا عن تلك الرحلة بعنوان لقاءات مع رجال خارقين للعادة الذي لم يأخذ نصيبه في سوق توزيع صناعة الأفلام في أوربا وأمريكا وبقي محصورا وتم تداوله في الوسط المسرحي من خلال تسجيل فيديو منتقلا من يد شخص لآخر (وفي مكتبتي نسخة).
 يتحدث بروك عن رحلته إلى أفغانستان، وتجربته معايشته مع ثقافة ناسها، في كتابه خيوط الزمن. ذاكرة حياة ، ويقول: 
«ها نحن متوجهون نحو أفغانستان بحثا عن ما هو مقدس أملا بالعثور على اثر للتقاليد المنسية. اطلقنا لحيتنا، أنا وصديقي، وقلنا لنفسنا أننا سنعطي انطباعا أكثر جدية، وقامت زوجته وزوجتي ناتاشا بتجربة الاعتناء بالسروال  التركي والأكل المجفف (...) بينما خصصت أنا ستة اشهر قبل الرحلة لتعلم اللغة الفارسية .
كان سحر أفغانستان، الذي دفعني بعد سنين أن اخرج فلما بعنوان لقاءات مع رجال خارقين للعادة، كان يكمن في الأشخاص وفي نوعية لا مرئية ومغزى ديني له حضور في علاقاتهم المعترف بها بوضوح. في شيء، كنا غالبا ما نتحدث حوله وبحثنا لسنين عن اثر له عندنا، وكان يبدو لنا أنها نوعية قد فقدناها في عالمنا. ورئينا لها وجود حقيقي هنا، وكان يمكنها أن تخضب الواقع اليومي كله.» (م2 ، ص 112).
ويتحدث عن تفاصيل دقيقة حول السوق المسقف في كابول، ويصف خصال الباعة والحرفين فيه، ويتأمل ملامح وجههم النبيلة ويصف حركاتهم وسلوكهم وجلوسهم على دكة الدكان، وطريقة شربهم للشاي. كان يمر في السوق ويشاهد بصمت لأيام وينتظر اللقاء المنشود. إن كنت تنتظر بصبر ستفتح لك الأبواب.
ويقول: «عرفنا بعد فترة من الزمن أن هناك شاب صوفي خارق للعادة يعيش في كابول معروف باسم، الدرويش الأسود يسمى تور ملانغ.  وبعد تحريات قادتنا من شخص إلى شخص بشكل مهذب لحد أن عبرنا في أحد الأيام قنطرة خشبية على نُهير صغير في ضاحية المدينة. ظهر أمامنا صبي من الخفاء، كما هو مألوف، قادنا إلى بيت استقبلنا على بابه رجل هاديء يبدو عليه اثر العمر، رحب بنا واضعا يده على قلبه، وقال: لم يرجع بعند  يمكنكم الانتظار. جلسنا على الأرض في غرفة خارجية، أحسسنا بوجود نشاط لا مرئي خلف الجداران. قدموا لنا الشاي. واصبح العصر مساء وغابت الشمس. دخل الصبي  واشعل مصباحا وهبط الليل. وظهر الدرويش فجأة. هرع بعض كبار السن للمس قدم ذات كانت تبدو للوهلة الأولى ببساطة شاب بلحية طويلة ونظرات موحشة تشبه كمن تشاجر في الشارع. عندما رآنا جلس وركز انتباهه علينا، وسألنا بعض الأسئلة.
كُنّا نحن قد هيئنا في الليلة السابقة بعض الأسئلة التي سنطرحها على الدرويش واتفقنا على أن نتجنب صياغات الأسلوب الغربي. اقترحت أن تبدأ المحادثة بلغة مجازات الشرق التي كانت تبدو لي هي الملائمة لذلك. كانت لي رغبة بطرح السؤال الذي اطرحه على نفسي دوما: كيف يمكن الإجابة على الهواجس الغامضة وعلى شيء آخر له وجود ما وراء العالم الجاري في كل يوم . هكذا هيأت صورتي الشعرية. وانحنيت أمام الدرويش. أجابني وهو يحاول أن يعطي لكلامه صدى رمزيا. 
وقال، هناك في بيتي غرف كثيرة مملوءة بالأشياء التي لا نفع منها. أصغيت له. انتابني انطباع انه قد سار على مجرى مجازيتي. وصلت كلامي وقلت، يبدو لي أنني اسمع بين حين وآخر أصواتا لا ادري من أين تأتي، ولا اعرف ماذا تعني ...
قاطعني. بدا لي أنه مهتم بالموضوع. أي نوع من الأصوات، يمكن أن تأتي من الأنابيب. هل طلبت أن يأتيك مصلح  ليصلح أنابيبك ؟ 
بقيت مندهشا. كنت مقتنعا أنه يسخر مني. ووكتن يبدو أي كلما واصلت كلامي أنه رجل عملي، تعود على أن يعطي النصائح العملية لتلامذته. سارع أصدقائي في مساعدتي لطرح سؤالي بلغة نثرية وبصيغة واضحة. وقد نسيت الجواب الذي حصلنا عليه من زمن بعيد. بقي منه شيء مباشر أصبح هو الجواب لسؤالي الذي عبرت عنه بطريقة محرجة. وعندما عرف الدرويش أننا سنذهب في الصباح من كابول إلى قندهار اقترح علينا أن نقوم بتغير طفيف في مسار سفرنا وذكر اسم قرية، وقال، قبل أن تدخلوا القرية سترون على يمنها بناية قديمة بيضاء. أنها سجن. ستجدون على الجانب الثاني من الطريق رجل جالس ينظر نحو السجن. تحدثوا معه فهو أحد تلاميذي.» (م 2 ، ص 115) 
ثم يروي لهم قصة تلميذه، ولماذا يجلس مقابل جدار السجن طوال الوقت ومنذ زمن بعيد؟. وفيها عبرة لمن اعتبر.

رحلة إيران 
يقول بروك في كتابه ذكرياته: «استلمنا دعوة من مهرجان المسرح في شيراز للعمل مع مجموعة من الممثلين الفارسيين على أن نمثل بين أطلال بيرس بوليس الأثرية. بقيت في زيارتي الأولى للموقع الأثري جالسا على صخرة بصمت لساعات بلا حركة، جذبتني سلطة ذلك المكان.  خطر ببالي أن الأماكن المهمة كان يتم اختيار أماكنها،  في الأزمنة القديمة، قي مراكز طاقة لها خصوصيتها». (م 2، ص 170)
ويواصل قوله:
«هناك تراثان مسرحيان كبيران في إيران: التعازي، الشكل الوحيد للدراما المقدسة التي انتجها الإسلام، ونوع من كوميديا ديللارتي، تسمى روح هوز، التي لا زالت تحيى في تجتمع بعض الحرفيين والباعة. وتقوم مجموعة صغيرة ـ مثل بوتتوم ورفاقه في حلم ليلة في منتصف الصيف ـ بالتمثيل في حفلات الأعراس وفي حفلات أخرى لتقدم عروضا مليئة بالتورية المشينة، ومشحونة بالطاقة الفيزيائية المناسبة دوما للحظة لأنها تقوم بمعالجة ردود أفعال الجمهور. كانت عبارة عن شكل من العروض القديمة التي لها خصوصيتها ليتم تقديمها في الحي المغلق، لبيوت الدعارة، التي كانت في طهران. كان الحي يشبه مدينة داخلية يمكن الدخول إليها من ممر ضيق، تراقبه الشرطة. وكان فيها دكاكين، وحتى مسرح صغير يجتمع فيه الممثلون فيه صباح كل يوم،  لسماع ما يقوله لهم مديرهم، ويخبرهم بالموضوع الذي سيتم العمل عليه طوال ذلك اليوم. وكان يبدأ الارتجال على خشبة المسرح وتمر ساعات وساعات وهم يرتجلون عروضهم التي تنمو مواضيها، وتصبح غنية ودمثة، لحد أن يأتي العرض الأخير في ساعة متأخرة من الليل، وكان هو الأكثر كمالا.» ( م  2 ص 172 و 73 )
والجدير بالذكر أن بروك قد أشار في ذكرياته إلى التعازي في إيران لكنه تحث بشكل تفصلي في عشرة صفحات في كتابه  الباب المفتوح، ليصف فيها طريقة تقديم البطل الشرير، وكيف يؤدي دوره بقوة اندفاعاته وفعله ونوعية طاقته، الذي لم يرى له مثيل في المسرح. ويميز بين طقس احضره في قرية، قام بإحيائه الناس البسطاء، وكيف كان ينبعث من أفعالهم طاقة خارقة للعادة، وبين طقس شبيه به تم تنظيمه في شيراز لكي يقدم للضيوف الأجانب، وكان قد افرغ من رفعة قدسيته وأصبح نوعا من العرض المسرحي.
ويبدو لنا فعلا أن الطقس حينما يفقد بعده الديني، الذي يعيشه الناس بتلقائيتهم وحماسهم لإحياء مراسيم حدث ديني أو ممارسة روحانية لطقس، ينحدر من قيمته الدينية ويصبح نوعا من العرض الدنيوي.

بيتر بروك وصدى التعاليم الصوفية
كانت رحلات بيتر بروك مع مجموعته عبارة عن خيوط رقيقة تم من خلالها حياكة مجازفة نحو عالم مجهول تجسدت في لقاءاتهم وارتجالاتهم على بساط مفروش على الأرض، بلا تزويق ولا بهرجة. وكان ذلك ضرورة ملحة في البحث عما يكمن خلف الواقع الملموس. وكانت هي رحلة شبيهة برحلة طيور المتصوف الإيراني فريد الدين العطار التي تبحث عن المعلم المرشد المنشود.
 وكان لقاء بروك مع عالم المتصوفة في عرض مؤتمر الطيور هو ضرورة ملحة بالنسبة له :وقد ارتبط بحكاية نوع من التورية الصوفية، التي يقوم فيها سرب من الطيور برحلة خطرة بحثا عن الطير الأسطوري سيمورغ، ملكهم المخفي. وكان هناك ـ حسب بروك في كتابه النقطة المتحولةـ الكثير من العناصر الكوميدية والمؤلمة في هذه الحكاية التي كانت تشبه بما كنا نعيشه نحن في تلك الفترة، لأن الرحلة كانت عبارة عن  اندفاع نحو إزالة أقنعتنا ودفاعاتنا، لهذا شعرنا أنه من الممكن أن تكون كنقطة انطلاق في سلسلة من العروض المرتحلة (النقطة المتحولة، ترجمة  من النسخة  الإنجليزية الأصلية إلى الإيطالية ـ ص 176).
وقد قام بروك في نفس السنة (1979) بعمل فلم سينمائي طويل،  لقاءات مع رجال خارقين للعادة،(مستندا على كتاب غورديف بنفس العنوان) حول تعاليم المعلم التي كان يتبعها في حياته. وقد ضع بروك سيناريو موضوع الفلم بساعدة مدام دي سالسمان، التي كانت من أخلص المريدين للمعلم القوقازي. والتي أصبحت معلمة بروك الروحانية. وكانت تلك التجربة هي رحلة أخرى له في البحث والكشف عما هو مخفي في عالم النفس البشرية. ويتحدث بروك عن أول لقاءه مع مدام دي سالسمان وعن هذه التجربة، في كتاب  خيوط الزمن. ذاكرة حياة. ( ترجمة من النسخة الأصلية بالإنجليزية إلى  الإيطالية،  ص 123)، قائلا:
«كانت لي غالبا فرصة اللقاء ب مدام سالسمان وكنت في كل مرة مفتون برؤيها، وكنت أجد فيها دوما نفس التأكيد على أنها: كما لو أنها لا تشعر بالتغيرات الخارجية من حولها في اي مكان كانت تذهب اليه. 
 سألتها في أحد الأيام سؤالا حول أمر كان يعذبني دوما لأنه كان مرتبطا بكل قرار مهم اتخذه في حياتي: كان كل شيء يبدو في الخارج كأنه في هارمونية وتوازن. لم يكن هناك أي سبب للتذمر. لكن كان هناك شيء في داخلي، في أعماقي، لا يهدا، احساسي بنقص معاني الاشياء في المحيط الذي كنت أعيش فيه وفي افعالي التي كنت أقوم بها على حد سواء. وكان يبدو لي من العجرفة، ومن غير المفيد حل هذه المعضلة من خلال الهرب أو الهجران. (...) قلت لها: لي بحث باطني يهمني جدا واحترمه، ولي كذلك عمل في الحياة اعتز به ولا يستهان. يبدو لي أن كلاهما ثمين، لكل كل واحد من جانب مختلف. ماذا يمكن أن يساعدني على تقيمهما بتوازن شرعي للبقاء في حالة من التوازن؟
نظرت نجوي بتمعن لهنيهة واقتصرت على القول: تعال غدا في التاسعة ليلا.
ذهبت في الوقت المحددة وبقيت مندهشا. لم تتحدث معي عما سألتها في البارحة، بل وجدت نفسي مع الآخرين سوية للقيام بممارسة تطبيقية لحد أن بلغنا، خطوة بعد خطوة، إلى صمت عجيب (...) كان هو الجواب المباشر والعملي». (خيوط الزمن، ص 123) 
هكذا بدأ بروك بتتبع خطى تعاليم جورجس غوردييف القوقازي الأصل، وممارسة  تمارينه في مركز البحث عن الإنسان الهارموني في باريس. وتبع أثر رحلته وبحثه الذي استقى فيه من ينابيع معارف روحانية في الشرق المتوسطي وآسيا الوسطى: من الثقافات التي دخل في تماس معها وتغذى من ينابيعها: الأرمنية، الفارسية، العربية والتركية والأشورية، اليونانية والروسية. واستمد من كل هذه الثقافات مواد فنية وجوانب تطبيقية دخلت في بناء رؤيته الخاصة.
 تعتمد تعاليم غوردييف البداغوجية على معرفة دقيقة وعملية، تميز بين ثلاثة أنواع من الطاقات الأساسية: الطاقة الحركية للجسم (الحركة الآلية)، والطاقة الانفعالية، والعقلية. وتطرح في نفس الوقت، الوسائل التي يمكن من خلالها تجنيد القوى اللازمة من أجل تحفيز وتفعيل ما تم دفنه، أو ما تصدأ في أعماق الإنسان جراء تراكم ما يدعى بالتقدم الحضاري. 
 وقد ظهر في موسكو فجأة في سنة 1913، راجعا من رحلاته وكان عمره، 36 سنة، لكي يقوم بنشر بعض المعارف التراثية القديمة المنسية، والتي تصبو إلى إنماء الإنسان بشكل متناسق (هارموني) من خلال التطبيقات العملية. واصبح ـ فيما بعد ـ مرجعا مهما للكثير من رجالات الثقافة والفن في أوروبا وأميركا في القرن العشرين. وتوفي غوردييف في باريس سنة 1949.
 يطهر لنا، من خلال قراءتنا لكتبه أنه قد التقى بالعديد من الطرق الصوفية في أسيا الوسطى وتركيا وفي العراق ونهل منها وقام بصياغة ذلك بطريقته. ومن الواضح أن غوردييف لم يخضع لتلقين طريقة شيخ معين ولم يكن مؤمن خاضع لتعاليم الإسلام. ولكنه، يبدو انه قد سار في ركب الطرق الصوفية متابعا لجلساتهم وذكرهم. ومن المحتمل أنه قد ارتبط بحلقات خاصة لأتباع الصوفية التي كانت تخصص لغير المسلمين، كما هو مألوف لدى بعض الطرق الصوفية. 
ويظهر أمامنا في معهده الذي أسسه في موسكو من أجل تطوير هارمونية الطاقات الكاملة في الإنسان، وتوجه عمليا نحو معرفة النفس وأحوالها وإمكانية إنمائها الحقيقي. وقد أصر على أن إمكانية معرفة النفس تأتي في داخل المدرسة أو مركز للبحث في التعاليم الروحانية، ولكن من دون الانعزال عن الحياة المحيطة، بل من خلال العمل مع وبين الناس، وذلك من أجل تحقيق نمو حقيقي لأبعاد العالم الباطني والظاهري في آن واجد وبشكل متناسق. 
 وقد دخل عنصر المراقبة الدائمة للنفس ضمن منهجية عمله وتعاليمه بشكل مركز وأساسي: مراقبة الحركات الجسمانية والانفعالية والذهنية، بحثا عن الحضور الكامل وتوجيه القوى الكامنة في الفرد. 
ولهذا من الضروري تفكيك وتركيب وبناء النفس من جديد. ويقوم المرء بذلك من خلال تفعيل إرادته وهمته في الحياة التي يعيشها. وعليه أن يكون يقظا من أجل مراقبة ضعفه ونقصانه، وعليه أن «يتذكر نفسه» أثناء  سلوكه و أفعاله في الحياة مع الآخرين.
ويرى غوردييف أن كل إنسان اعتيادي يمتلك مخزوناً من الحركات والوضعيات التي تعود عليها (أوتوماتيكية). وكل حركة جسمانية هي انتقال من وضعية إلى أخرى، ومشروطة بما اكتسبه المرء من الحياة الاجتماعية في التربية المشروطة، وتدخل ضمن إطار تكوين الشخص المحدد، الذي ينتمي لقوم معين ولفترة زمنية محددة. ومن اجل أن يتحرر المرء من سجن النشاطات المعتادة للجسم و الذهن، وضع غوردييف سلسلة من التمارين التي يدعوها، بشكل عام، «حركات»، وكذلك تمرين يسمى «الحبس» «التوقف» بندية الذي استقاه من الطريقة النقش وقد جاء ضمن مصطلحاته بمفردة إنكليزية «Stop» وانتشر في وسط المدارس الروحانية والبيئة المسرحية في أوروبا.
ويشير غوردييف في كتاباته، بهذا الصدد، إلى بعض التعاليم المجهولة التي يدعوها بتعاليم “الشرق” ، ويتحدث عن نوع من النجمة التساعية التي كانت تستخدم في بعض الطرق الصوفية لتشخيص ومعرفة أحوال النفس عند البشر. ويبدو أن هذه النجمة الرمزية قد تم تناقلها من خلال المعارف الشفهية (تلقينية) وقد حصل عليها غوردييف وقام بتوظيفها في تعاليمه التطبيقية، وقام بإدخالها في أصول بداغوجياته الروحانية  في معهده وطبقها من خلال توظيف الموسيقى والحركة والرقص. واستخدم تلك التمارين في بنية شبيهة بالعرض بعنوان صراع السحرة. 
ويظهر لنا، من خلال قراءة كتابات غوردييف، أنه قد تابع حلقات الذكر للطريقة القادرية، على الأقل في إقامته لمدة ثلاثة اشهر في بغداد، في باب الشيخ عند مرقد الشيخ عبدالقادر الجيلاني ويظهر أنه قد تعلم فن الخط العربي. ومن المحتمل أنه قد اطلع على شرح شيخ الطريقة في جامع الشيخ عبدالقادر في زمنه أو ربما قرأ  كتاب سر الأسرار ومظهر الأنوار للجيلاني، الذي وضعه لمريديه كمرشد لسلوك الطريقة التي أسسها في القرن الثاني عشر.
وعلى اية حال، يؤكد غوردييف، في حديثه على «الطريق الرابع»، على أن هذا الطريق قد جاء في بعض التعاليم الشرقية القديمة. ومن اجل أن يوضح طبيعة هذا الطريق يورد مثالا مجازيا، ويذكر «العربة» ويعتبر هيكلها هو «الجسم» والحصان بمثابة «الانفعالات»، والحوذي هو «الفكر»، ومالك العربة هو «الأنا، الوعي ـ الإرادة». ويؤكد أن الإنسان غالبا ما يقوم بإنماء «ذهنه» من خلال تراكم المعلومات حول هذا الشيء وتلك القضية ولا يستطيع ذهنه جر العربانة، فبدون الحصان لا يمكن للعربة أن تسير. ولهذا ينبغي تعليم «الحصان» باللغة التي يفقهها ويتفاهم بها مع «الحوذي»، وبشكل متناسق (هارموني). وبطبيعة الحال أن «للعربة» أهميتها الخاصة التي تشكل أساس حياتنا. 
وقد تابع غوردييف الطريقة المولوية. وتعلم منها الرقصة المولوية في قونيا ودخلت ضمن تعاليم معهده كما نرى ذلك في فلم لقاءات مع رجال خارقين للعادة الذي أخرجه بيتر بروك، وتم إنتاجه في أمريكا ولم يكن له نصيب جيد للتوزيع في سوق صناعة الأفلام. ونرى في الفيلم خمسة مقاطع رقص وضعها غوردييف، والتي قامت بإعادة تقديمها مدام جان دي سالسمان (وكانت متقدمة في العمر). ونرى كذلك رقصة الملوي التي تظهر في نهاية الفيلم تقريبا وتصاحبها، موسيقى كأنها تأتي من عالم مجهول.
و يظهر لنا، من الواضح، أن تعاليم غورديف قد تركت أثرها على حياة ورؤية بروك وطريقة نعامله مع مفردات العمل المسرحي كواسطة، للتماس والإبلاغ مع الآخرين من خلال نوعية طاقة هارمونية للإنسان الخارق للعادة. ويظهر لنا، كذلك أن تعاليم غوردييف قد تركت أثرها، أيضا،على رؤية وعمل غروتوفسكي التي اطلق عليها بروك تسمية الفن كمركبة، للصعود والهبوط في مستويات ونوعية الطاقة في «الفن الموضوعي» من أجل تفعيل وإنماء هارمونية طاقة «الرأس و القلب و الجسد» لمن يقوم بإنجاز الفعل، ولمن يؤدي الفعل التام.. 

المصدر
بروك، بيتر، الفضاء الخالي، دار نشر بولزوني، روما 1998
.. خيوط الزمن، ترجمة إيطالية من النسخة الأولى التي صدرت باللغة الإنجليزية)
... النقطة المتحولة (ترجمة إيطالية من النسخة الأولى التي صدرت باللغة الإنجليزية)
بياتلي، قاسم، ذاكرة الجسد في التراث الشرقي الإسلامي، الرقص والطقوس والعرض الفني، م، دار الكنوز، بيروت 2006، ص 141 
درقي، احمد محمد، الطريقة النقشبندية،؟ ، 
جيلاني، عبدالقادر، سر الأسرار ومظهر الأنوار، اوتافو، ميلانو 1992
غوردييف، غورغيس، لقاءات مع رجال خارقين للعادة، (ترجمة إيطالية)، اولفي، ميلانو 1985
غروتوفسكي، يرزي، من أجل مسرح فقير، بولزوني، روما 1970
رفائيل لا فورت «معلمو غوردييف»، ميدتراني ، روما 1991، ص 108-109
10 ـ فيلم «لقاء مع رجال خارقين للعادة»، إخراج بيتر بروك و مدام دي سالسمان. إنتاج  ستوارت لاينس ريمر، الولايات المتحدة الأمريكية 1979. مدة العرض 107 دقيقة.
شارك فيه مريدي غوردييف الذين لا يزالون يمارسون تعاليمه في «معهد الإنماء الهارموني للإنسان» في فرنسا. وقد اطلعنا على الفيلم من خلال تسجيل فيديو، حصلنا عليه من بعض الباحثين في إيطاليا. 


قاسم بياتلي -فلورنس