«فتوات بولاق».. حرافيش نجيب محفوظ بين الأدب والسينما والمسرح

«فتوات بولاق»..  حرافيش نجيب محفوظ بين الأدب والسينما والمسرح

العدد 845 صدر بتاريخ 6نوفمبر2023

«أكون أو لا أكون تلك هي المسألة» تلك العبارة الشكسبيرية التي نطق بها الأمير «هاملت» في المسرحية الشهيرة التي تحمل نفس الاسم، ربما كانت هي لسان حال شخصية «زيان» أحد شخصيات المجموعة القصصية «حكايات حارتنا» للأديب العالمي نجيب محفوظ، فعندما قال هاملت تلك المقولة، فكّر في ماهية وجوده في هذه الحياة، وحال كونه موجودًا مقابل عدم وجوده، أي أن تكون فاعلًا ومحققًا لهدفك أو فلتمت، وهكذا كان «زيان» الذي عاش صراعًا وجوديًا بين التمرد على وضعه الاجتماعي من أجل الوصول لحبيبته أو أن يظل في العدم، ومن ثم عاش صراعًا أكثر شراسة ما بين الخنوع لـ«الفتوة» الذي يطلب منه قتل حبيبته كي ينول رضاه أو الهروب مرغمًا، هربًا من فتك الأخير.
الكثير من أعمال الأديب العالمي نجيب محفوظ، دارت حول تلك المعارضة بين إرادة الإنسان ومصيره الذي لا فكاك له منه، حول الإنسان الذي ينخرط مدفوعًا بالأمل والرغبة في وجود لا يفهمه، ولا يستطيع أن يمتلك المعاني فيه امتلاكًا كاملًا أبدًا، ومن هذه المدخل يمكن قراءة القصة رقم (52) من المجموعة القصصية «حكايات حارتنا» وصداها في الأعمال السينمائية والمسرحية، ومن تلك المعالجات التي قدمت على خشبة المسرح مؤخرًا، عرض «فتوات بولاق»، إنتاج فرقة نادي مسرح قصر ثقافة كفر الشيخ، دراماتورج وإخراج أحمد عمارة، والمأخوذ عن معالجة سينمائية تحمل نفس الاسم إنتاج عام 1981 وضعها السيناريست الراحل وحيد حامد ومن إخراج يحيى العلمي، وتدور في إطار فلسفي حول صراع «البطل» الداخلي بين العودة لحارته التي هرب منها من قبل، ليتخلص من ظلم الفتوة أو البقاء وحيدًا بعيدًا عن الحارة.
 
النص الروائي
في البداية نود أن نذكر أن المجموعة القصصية «حكايات حارتنا» للأديب العالمي نجيب محفوظ صدرت عام 1975، وتضمنت 78 حكاية، كل حكاية تمثل وحدة سردية مكتملة؛ وكلها حكايات تدور من داخل الحارة المصرية وأحوال المصريين بداخلها في عصر الفتوات، حيث البطل الحارة والتكية بأساطيرهما وغموضهما، واعتمد فيها صاحب نوبل في الأدب لعام 1988 على تقنية الذات الساردة على غرار أعمال مثل «رأيت فيما يرى النائم» (1982) و«أصداء السيرة الذاتية» (1994) و«أحلام فترة النقاهة» (2004)، وهي تقنية تقلص المتخيل لصالح الواقع ويتحول فيها المحكي والشخصية الحاكية وكأنها شخصية واقعية.
وتدور أحداث القصة رقم (52) في «حكايات حارتنا» حول «زيان» ذلك الشاب المغمور الذي يعمل صبي مبيض نحاس ويكدح من أجل كسب لقمة عيشه، لكنه ينقم على مهنته ويريد الانضمام إلى رجال عصابة السناوي لتحقيق المركز والثراء السريع، كي يفوز بقلب المرأة التي أحبها «أم علي»، فيطلب من صديق أبيه «ميمون الأعور»، أحد المقربين لفتوة الحارة أن يتوسط إليه كي يكون أحد رجاله، وحين يضع نفسه أمام الفتوة «السناوي»، يطلب منه الأخير أن ينفذ له طلبًا كي ينال رضاه ويقبله ضمن حرافيشه، وهنا يتفاجأ زيان بأن الطلب هو قتل «أم علي» تلك المرأة التي تمرد على حاله من أجلها، فكيف يتحول الآن لقاتلها!، فيعود مجددًا إلى «ميمون» كي يتشفع له مرة أخرى عند الفتوة ولكن هذه المرة من أجل إثنائه عن قتل حبيبته، وهنا ينهره ميمون ويؤكد له أن الأوان قد فات وأن «السناوي» لن يرحمه وعليه تحمل نتيجة خطئه، وحين يعود إلى أمه ليشكي إليها همه، تطلب منه مغادرة الحارة على الفور، هاجرًا بيته وحارته وعمله، دون عودة، مستقبلًا العناء والمجهول.
وفي هذا النص سالف الذكر يستكمل «محفوظ» ما صاغه من مفاهيم حول ظاهرة الفتوة في الحارة، والتي أسس لعوالمها الفنية في رواية «أولاد حارتنا» (1959)، و«الحرافيش» (1977)، وسبقهما سيناريو فيلم «فتوات الحسنية» (1954) من إخراج نيازي مصطفى، والذي اشترك معه في كتابة القصة والسيناريو والحوار، مستلهما فيهما أسطورة البطل الشعبي المتجذرة في الوعي الجمعي المصري منذ سنوات بعيدة، والتي تطورت مع الزمن إلى أشكال وألقاب عدة، مثل «العيارين والشطار» الذين كانوا يسرقون الأغنياء لكي يعطوا الفقراء في العصور الوسطى، وصولًا إلى «الفتوة» في القرن التاسع عشر الميلادي، بعدما قسمت القاهرة القديمة إلى مناطق نفوذ تحت إمرة رجال يخترونهم الناس بإرادتهم ليكونوا حراسًا عليهم، ويكونون ملاجئهم من الآخرين الأكثر قوة وشرًا، ويكونوا معادلين للحاكم الشعبي الرسمي وميزان الأمن والأمان في المجتمع، إلا أن الظاهرة تحولت مع الوقت من حماية الناس لقمعهم، فمع شعور هذا الحارس –الفتوة- بأنه مسؤول عن الحارة وعن أهلها، وأن الجميع يخشونه، ففرض نفسه فتوّة عليهم، ليتحول مع الوقت جبارًا ظالمًا، وفارضًا للإتاوات على أبناء منطقته، أو على كل من يطلب الحماية منه.
وربما السؤال الذي حاول «محفوظ» أن يصل إلى إجابة واضحة عنه من خلال تناوله الفلسفي للعمل: أن الأفعال التي نقوم بها في حياتنا ككل، يمكن ألا تتوافق مع النتيجة النهائية للفعل نفسه، إذ يمكن لموقف واحد، أن يُدمر حياتك، سواء كانت جيدة، أو غير ذلك، وهو ما حدث مع بطل الحكاية «زيان» الذي يقرر أن يترك عمله كمبيض نحاس ويذهب لعالم الفتوات كي يصل لقلب حبيبته، لكن حلمه ينقلب عليه، ويصبح نقمته ويدمر حياته، ويكون سببًا في أن يترك أمه وأرضه - الحارة- متجهًا نحو المجهول، ومحاولة البدء من الجديد.
المعالجة السينمائية
في عام 1981، قام المخرج يحيى العلمي بتحويل النص المحفوظي السالف إلى فيلم سينمائي بطولة فريد شوقي ونور الشريف وبوسي وسعيد صالح، وقام بكتابة المعالجة الدرامية السيناريست وحيد حامد، ويعتبر النقاد هذا العمل أول الخيط لأفلام الفتوات والحرافيش، قبل أن تتحول إلى ظاهرة سينمائية مكتملة الملامح في الثمانينات من القرن المنقضي على غرار أعمال مثل «الشيطان يعظ» (1981)، و«المطارد» (1985)، و«الحرافيش) (1986)، و«الجوع» (1986)، و«التوت والنبوت» (1986)، قبل أن تختفي رويدًا رويدًا لصالح سينما «البلطجة» والتي أخذت مكان الفتوات في الدراما المصرية على غرار أعمال مثل «إبراهيم الأبيض» (2009)، و«الألماني» (2012)، و«ريجاتا» (2015)، ومؤخرا مسلسل «جعفر العمدة» (2023).
ودارت أحداث الفيلم على خلفية العنف الناجم عن صراع الفتوات للسيطرة على الحارة، فتبدأ بانسحاب مهين للفتوة القديم ميمون (فريد شوقي) الذي يزول عهده بعد إصابته في إحدى المعارك ضد الفتوة عطوة (الطوخي توفيق)، فيستسلم لجرحه وللبوظة التي يتجرعها ليل نهار، ويحل محله في الفتونة صبيه عباس (حسن حامد)، فيما يسعى محروس مبيض النحاس (نور الشريف) لأن يصبح فتوة كنوع من التقرب لحبيبته حليمة بسارية (بوسي)، فيطلب وساطة ميمون لدي عباس كي يكون أحد حرافيشه، لكنه حين يدخل إلى عالم الفتوة يطلب منه الأخير قتل الفتاة الجميلة حليمة والتي أخذت مكان «أم علي» في نص محفوظ، كي يتأكد من صدقه، فينصحه ميمون بالهرب من الحارة وإلا تعرض لبطش عباس، وبعد سنوات قضاها هاربًا يقرر العودة إلى الحارة، لكنه حين يعود مجددًا لينتقهم من عباس، يكتشف خيانة حبيبته حليمة مع صديقه بيومي (سعيد صالح) فيقتلها ويهرب، بينما تجد انشراح (نبيلة السيد) ابنتها مقتولة وبجانبها بيومي الذي تفاجأ بها ملقاة على الأرض مقتولة، فتتهمه بقتلها، ويتم إعدام الأخير، بينما يصاب «محروس» في النهاية بلوثة عقلية لفقده حبيبته وصديقه.
والتزم العمل بعض الشيء بالحبكة الدرامية التي وضعها «محفوظ» في قصته، إلا أن وحيد حامد أضفى أبعادًا أخرى تخدم فكرته الدرامية مما وضع نهاية مختلفة عن نهاية نص محفوظ التي لم يشر فيه إلى عودة البطل للحارة أو مصيره بعد الخروج منها، إلا أن حامد أيضًا استفاد من بعض نصوص نجيب محفوظ الأخرى في معالجته مثل قصة «الخلاء» المنشورة في المجموعة القصصية «خمارة القط الأسود» (1969)، وكذلك قصة «الرجل الثاني» المنشورة بالمجموعة القصصية «الشيطان يعظ» (1979)، والتي تحولت فيما بعد هي الأخرى إلى فيلم سينمائي أخرجه أشرف فهمي عام 1981، وأضاف بعض الشخصيات مما أضفى بالتأكيد أبعادًا درامية أخرى عن التي جاءت في القصة، واحتفظ العمل بالشخصيات الأساسية والثانوية التي وضعها محفوظ، إلا أنه غير أسماء الكثير منها، وأعطى مساحة أكبر لبعضها مثل شخصية «ميمون» الذي جعله فتوة تنازل عن سلطته بعد إصابته بعجز في ذراعه الأيسر.
وعلى الرغم من أن الفيلم قدم المرأة ظاهريًا وكأنها فاعلة ومحركة للأحداث مثلما الحال مع «حليمة بسارية» لكنه في الوقت نفسه قدمها وفقًا لمفهوم اللعنة الشائع في الوعي الشعبي الجمعي، تلك اللعنة التي أصابت الجنس البشري كله منذ خطيئة «أدم وحواء» بالأكل من الشجرة المحرمة، والتي تُحمل المرأة مسؤولية أي مصيبة وكارثة تحدث، وهو ما يتكرر بشكل لافت مع أفلام الفتوات التي لم تخرج عن تلك الصورة المكرّسة، كما في فيلم «الشيطان يعظ» للمخرج أشرف فهمي.
وربما كان الطرح الذي حاول الفيلم تقديمه، من خلال بعض الإشارات والدلالات الفلسفية والاجتماعية، هي فكرة التحرر من السلطة العليا ممثلة في «الفتوات» وتصوير كفاح الشعب – الحارة- ضد سلطة القهر والظلم، ليذهب إلى تأكيد المقولة التي تقول إن «كل سلطة مفسدة وكل سلطة مطلقة فساد مطلق».
العرض المسرحي
أما العرض المسرحي الذي أخرجه أحمد عمارة، فجاء في قالب درامي حركي، ومعالجة تدور حول تطلعات الإنسان وأمانيه في عالم يحيطه الشر والظلم، مجسدًا تلك المعارضة بين إرادة الإنسان ومصيره، حول إنسان ينخرط مدفوعًا بالأمل والرغبة في وجود لا يفهمه، ليبقى في صراع دائم، هل يخوض المغامرة من أجل الوصول إلى غايته، أم يكتفي بوضعه الحالي بعيدًا عن عوالم هو لا يعلم مدى خطورتها؟، ومن ثم يعيش صراعًا آخر أكثر مرارة، هل ما يقع فيه الإنسان من أزمات تكون نتيجة أخطائه أم أنه وقع ضحية تصرفات وتعامل الآخرين؟ ثم نرى في النهاية أن الواقع أحيانًا يكون أكثر دهشة من الخيال.
والتزم العرض إلى حد كبير بالمعالجة السينمائية التي وضعها وحيد حامد، أو مسرحها إن دق التعبير، إذ أنه التزم بنفس الشخصيات والأحداث الواردة في الفيلم تقريبًا، مع تركيزه أكثر على دوافع «محروس» الذي أخذ مكان «زيان» في نص محفوظ، وعشقه لأجمل فتيات الحارة حليمة بسارية، مجسدًا دوافعه طوال الوقت من أجل الوصول إليها، لكنه في النهاية يكتشف خيانتها مع صديقه «بيومي» الذي دفعته رغبته لخيانة صديقه مع حبيبته ومراودتها عن نفسها، فيقتلها محروس ويهرب مرة أخرى لكن هذه المرة مصابًا بالهوس والجنون، في شكل يقترب بعض الشيء من معالجة الفيلم السينمائي «المطارد»، المأخوذ من إحدى حكايات ملحمة الحرافيش.
بشكل عام جاءت شخصيات العرض جميعها «مركبة»، وكل شخصية منهم لها دواخلها وحكاويها الخاصة وإن كانت كلها تدور حول صراع داخل كل شخصية لا ينتهي، فـ عباس يراوده صراع داخلي من أجل التخلص من «عطوة» فتوة العطوف من أجل فرض سيطرته على المنطقة وتأكيد قوته، وفي الوقت نفسه التخلص من ذنب ميمون الذي يطالبه بأن يأخذ حقه من عطوة التي تسبب في عجزه وكان سببًا في تنازله عن الفتونة له، وميمون نفسه بداخله صراع بين عجزه بعد إصابة ذراعه في إحدى المعارك مع فتوة العطوف وبين ملكه الضائع والذي تنازل عنه طواعية بعدما أصبح لا يستطيع مواجهة الفتوات في المعارك، فضلًا عن الصراع الأساسي بداخل محروس والذي كان المحرك الرئيسي للأحداث.
إشكالية هل الإنسان «مسير أم مخير» أيضًا كانت لها دورًا في تطور وتيرة الأحداث، فمحروس اختار التمرد على وضعه كصبي مبيض نحاس وأراد أن يصبح فتوة من أجل أن يليق بحبيبته الجميلة حليمة، لكن الحياة لا تسير دائمًا كما نبتغي منها وتأخذنا إلى مصائر مختلفة، ليعيش في صراع يبدو صراعًا وجوديًا أراد العرض الإجابة عنه، وبشكل يتناص مع مقولة شكسبير الشهيرة «أكون أو لا أكون»، فقد قصد العرض ربما صراعًا نفسيًا إما أن يكون محروس سيد قراراته أو يجعل الغير يقرر حياته بدلًا منه.. كذلك يبرز العرض العلاقة بين صورة المرأة ومنظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية السائدة في المجتمع، إذ جعلها وحدة التحكم في مسارات ومصائر الأحداث، وسبب شقاء بطل العرض.
مسرحيًا، جاء إيقاع العرض متسارع بما يتناسب مع روح المسرح الحديث، فطوال ساعة هي مدة العرض تقريبًا، لا تشعر كمتفرج بالممل، واستخدم المخرج تقنية الصورة البصرية التي تعتمد على الممثل أكثر ربما من اعتمادها على عناصر السينوغرافيا الأخرى، لكن عابه حالة الزحام الشديدة التي ظهرت على خشبة المسرح في كثير من المشاهد، وفشل المخرج في توزيع حركة الكتل الكبيرة بشكل مناسب، مما جعل المشاهد يشعر بتزاحم في الرؤية.
الديكورات في مجملها كانت بسيطة، ومعبرة في نقل البُعد النفسي للعمل وتحقيق الإحالات المقصودة زمنيًا واجتماعيًا، مراعية دلالات العرض خصوصًا في ديكور البيت القديم. وفي محاكاة لأعمال محفوظ مثلما تم في المعالجة النصية، استلهم العرض أفكار ديكوراته من أعمال محفوظ ذاتها مثل الخمارة التي أطلق عليها اسم «خمارة القط الأسود» نسبة إلى المجموعة القصصية التي تحمل الاسم ذاته، فيما جاءت الإضاءة لتكمل جماليات الإطارات الدرامية المشبعة، واتسمت الإضاءة والملابس بالتماشي مع روح الفترة التي تدور فيها الأحداث ومعبرة عن شكل الفتوات في تلك الحقبة، كذلك جاءت الموسيقى المصاحبة للعرض جيدة والتي أضفت بُعدًا صوفيًا للحكاية، وإن أخرجتها عن سياقها في بعض الأوقات.
في النهاية جاءت المعالجتين السينمائية والمسرحية أكثر تعبيرًا عن عنف الحياة وأكثر صدقًا في تعبيرهما عن «صراع الوجود»، محاولين الوصول إلى إجابة بأنه رغم عنف وصعوبة الحياة لكنه علينا أن نواجهها بشجاعة ونتحمل نتيجة ما اقترفناه واخترناه بإرادتنا، وأن تعيش لتكون فاعلًا ومحققًا لهدفك أو فلتمت، وذلك عبر رؤية فنية وفلسفية حافظت على ملامح وروح نص «نجيب محفوظ» وإن اختلفت معها في التطبيق والرؤى.


محمد عبد الرحمن