علم الجمال المسرحي وتحليل مناهج البحث العلمي

علم الجمال المسرحي وتحليل مناهج البحث العلمي

العدد 548 صدر بتاريخ 26فبراير2018

منحتني إجازة منتصف العام الدراسي فرصة ثمينة لأحيا عدة أيام وساعات علمية ممتعة مع أحدث إصدارين لأستاذنا الجليل أ.د. كمال عيد.. الرائد المسرحي الموسوعي الذي عودني أن يغمُرني دوما بعطفه العلمي، حيث يمنحُني شرف التعطر بنفحات علمه الفياض، إذ يُهديني أولا بأول كل كتاب يصدره مزدانا بتوقيعه الذي يتذيل ذلك الإهداء العامر بكلمات راقية، هي نسيج من مشاعر المودة والأبوة التي يحظى بها كل طالب علم ذي حظ عظيم من أستاذه ومُعلمه الأعظم.
وللتعريف أولا بقيمة وقامة أستاذي الدكتور كمال عيد أستاذ مناهج الإخراج والدراسات العُليا بأكاديمية الفنون.. يُشرفني أن أنوه بأنه أحد أبناء جيل تحقق بهم الوجود العلمي الفني الحقيقي للمخرج المسرحي المصري، فبهم لم تعُد وظيفة المخرج قاصرة على إدراك معاني النص الأدبي، وتقديم النصائح إلى الممثلين، وإجادة توزيعهم على خشبة المسرح، ولكن أضيفت إلى وظيفة المخرج مقومات جديدة ولازمة وضرورية، لعل أهمها ضرورة التمتع بأقصى قدر من المعارف في كل المجالات، ليقترن دور المخرج المسرحي بموقف إنساني اجتماعي، وتكوين علمي ثقافي خالق لوجهة نظر فيما يعتري المجتمع من تغيرات وتحولات على مختلف الأصعدة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأيضا الدينية والتراثية.
هكذا مارس هذا الجيل الرائد الذي ينتمي إليه أساتذتي الأجلاء: سعد أردش وكرم مطاوع وكمال ياسين وأحمد عبد الحليم وأنور رستم ونجيب سرور وجلال الشرقاوي وكمال عيد.. وغيرهم.. مارس هذا الجيل دوره الحقيقي في البحث عن جدوي العمل الفني الذي يتصدى لإخراجه، بتفسير الجزئي والكُلي منه متسلحا بما يحمله من مواقف فكرية وفلسفية وسياسية، لتكتسب العروض المسرحية نوعا من الوحدة، ونوعا من الترابط العضوي بين عناصر العرض المسرحي من نص وديكور وأزياء وإكسسوار وإضاءة وموسيقى، ولا عجب في ذلك بعد أن تسلم المخرج زمام قيادة العرض المسرحي الذي يخضع لرؤية واحدة ومحددة.
الأستاذ الدكتور كمال عيد من مواليد القاهرة في 18/ 6/ 1931، تخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1952، وكان أحد مبعوثي ثورة يوليو لدراسة الإخراج بالخارج، حيث حصل على بكالوريوس الإخراج المسرحي من جامعة الفنون ببودابست بالمجر عام 1962، ثم درجة الماجستير في الآداب الدرامية من كلية الآداب بجامعة (اتفش لوراند) بالمجر عام 1970، ثم دكتورة الفلسفة في الآداب والفنون من أكاديمية العلوم المجرية عام 1974.
وقد عمل مخرجا بهيئة المسرح والموسيقى، ومستشارا فنيا للهيئة العامة للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية بليبيا، وأستاذا للدراما والتذوق الجمالي بكلية التربية جامعة الفاتح بليبيا، وأستاذا بالمعهد العالي للفنون المسرحية بدولة الكويت، وأستاذا بكلية الفنون الجميلة بالعراق، وأستاذا بإحدي جامعات المملكة العربية السعودية، فضلا عن توليه رئاسة قسم التمثيل والإخراج بالمعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون بالقاهرة، وأيضا منصب وكيل المعهد بذات الأكاديمية.
للأستاذ الدكتور كمال عيد عدد كبير من المؤلفات والمترجمات التي أثرت مكتبتنا العربية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ودون ترتيب تاريخي: المسرح الاشتراكي، دراسات في الآدب والمسرح، زوايا جديدة في الدراما، فلسفة الأدب والفن، جماليات الفنون، الدراما الاشتراكية، التاريخ والتذوق الموسيقى، المسرح بين الفكرة والتجريب، توفستونوجوف والمخرج المعاصر، المعمل المسرحي، مقدمة في الفنون المسرحية، سينوغرافيا المسرح عبر العصور، تاريخ تطور فنية المسرح، مناهج عالمية في الإخراج المسرحي (موسوعة في جزئين)، اتجاهات في الفنون المسرحية المعاصرة، قاموس أعلام ومصطلحات المسرح الأوروبي، قاموس وأعلام الموسيقى الغربية، المسرح حياتي (3 أجزاء)، نظرية الحركة في الدراما والبالية، الثقافة.. الرهان الحضاري، شخصيات وذكريات معهم، كمال ياسين نجم بلا ضوضاء، علم الدراما شيء وعلم الدراماتورجيا شيء آخر، علم الجمال، تحليل مناهج البحث العلمي.
فأما ترجمة الكتب فهي كالتالي: مسرحية الناووس أو التابوت الحجري، قضية الأوبرا بين التقليدية والتجديدية، نصوص تجريبية من المسرح المجري، انطولوجيا المسرحية أحدث نظريات الدراما الأوروبية، مسرح شيكسبير، Media Terms And Conceptions، تاريخ تطور الدراما الحديثة (جزءان).
وأما الإشراف علي رسائل الماجستير والدكتوراه أو عضوية لجان المناقشة، سواء داخل مصر أو خارجها، فحدث ولا حرج، إذ قد تتطلب صفحات وصفحات.
هاكم أستاذي الدكتور كمال عيد الذي أعتز وأفخر بصداقته ومودته، بارك الله لنا في زاخر علمه وعظيم عطائه وبارك لنا في عمره لنظل ننهل من نبع عطائه المتجدد.
في كتابيه اللذين نحن بصددهما اليوم (علم الجمال المسرحي) و(تحليل مناهج البحث العلمي) يكشف الأستاذ الدكتور كمال عيد الستار عن كثير من الأمور العلمية التي تتعلق بعلم الجمال مُعرفا له ورابطا بينه وجماليات المسرح ببساطة وعمق، كما يبحث في أصول مناهج البحث العلمي المعاصر، تصحيحا وتقويما، فاضحا (من واقع مسؤوليته العلمية وبالدليل القاطع) للتجاوزات والأخطاء العلمية التي تعرقل انطلاق منظومة البحث العلمي في مصر ببعض الجامعات المصرية بكل أسف.
في كتابه الأول (علم الجمال المسرحي) الذي صدر بدولة العراق عام 1990.. ثم صدر في طبعة، ثانية، بالقاهرة مع مطلع هذا العام 2018.. يضع الأستاذ الدكتور كمال عيد أيدينا بداية علي تعريف جامع شامل لعلم الجمال، فيقرر أنه يعني وصف وتفسير الظواهر الفنية، وقياس التجربة الجمالية بواسطة علوم أخرى مثل علم النفس، وعلم التاريخ، وعلم الأخلاق، وعلم الاجتماع، وعلوم مماثلة أخرى تتشابك في خطوطها ومناهجها ومدلولاتها مع الجمال من قريب أو بعيد، وأنه - أي علم الجمال - قد اتيحت له فُرص التطور والتقدم حتى أصبح مادة حيوية فكرية في كليات الدراسات الإنسانية، ومنهجا أساسيا في الدراسات العُليا في الآداب والفنون، باعتباره منبعا جوهريا في مثل هذه الدراسات التي تبحث في تقدُم البشرية من ناحية، وتطور الفنون بمختلف مستوياتها من ناحية أخرى.
ثم هو بعد ذلك يصطحب القاريء عبر جولة مهمة وسريعة يستعرض خلالها أصالة فن المسرح وتاريخه الذي يعود إلى عشرات الآلاف من السنين، وأن المسرح كفن قد ظل يعيش ويؤثر باعثا بإشعاعاته إلى الناس، لتكشف لحظات ازدهاره عبر العصور عن نشاط اجتماعي، وفكر، متنور، وتقويم للإنسان والمجتمعات، مترجما لأعظم لحظات الإنسان المصيرية، ومُقدما صراعه وكفاحه وأمانيه وانتصاراته، ليظل فن المسرح مُلازما للإنسان أينما كان كجهاز، ثقافي شعبي يرعى الناي ويُعلِم الجماهير، ثم يطرح الأستاذ الدكتور كمال عيد تساؤلاته الحيوية: هل نحن في حاجة إلى الجمال؟ هل هو شيءُ نراه؟ أم نُحِسُه؟ وهل هناك جمالياتٌ خاصة بالمسرح؟
هكذا يطرح الأستاذ الدكتور كمال عيد تساؤلاته ليربط بكل سلاسة وعُمق بين المسرح والجمال.. انطلاقا من أن الجمال نوعية اسطاطيقية، ودرجة من درجات علوم الجمال التي تعرضت - ولا تزال تتعرض حتي اليوم - للجدل والنقاش منذ العصر الإغريقي، ومن هُنا ينطلق بالقاريء في رحلة معرفية رائعة عبر العصور، حيث الأفكار الجمالية الإغريقية التي تركت آثارا طيبة في العصور التابعة، ثم هو يدلُف من العصر الإغريقي، إلى العصر الهلليني، مرورا بالعصور الوسطى، وانتهاء بعصر النهضة.
ولا يفوت الأستاذ الدكتور كمال عيد أن يُخصص مبحثا لجماليات الفن العربي، موضحا أنه علي الرغم من أن المسرح العربي حديث التاريخ، ولا تظهر كثيرا في محاولاته القديمة أو الجديدة علامات أو إشارات جمالية حقيقية.. فإن الفن المصري في عصر مصر القديمة قد اشتمل على بعض الحاجات الجمالية التي دعت إلى ظهور ذلك الفن آنذاك، مثل الحاجة إلى الخُلود، والحاجة إلى قهر فكرة الفناء، وأن الفن المصري قد أثبت أنه فنٌ يُحب الحياة، ولذلك جاءت رسومه صدى لحركة الحياة، فأما المحاولات التجريبية في المسرح العربي - قديمها وحديثها - فلا تمت إلى الجماليات الحقيقية بصلة، البتة، لأسباب يشرحها ويُفندُها علي أساس علمي مكتمل الأسانيد.
ويختتم الأستاذ الدكتور كمال عيد كتابه الرائع بمبحث تحليلي عن (علم الجمال التمثيلي) يخلُص فيه إلى أنه لا يجب أن تتعلق الخصائص الفنية لفن التمثيل بثبات، أو رُسوخ أو استقرار، مُطْلق، حيث إنها تخضع في الواقع لقياسات تتغير وتتبدل، تبعا لتغيُر وتبدُل متطلبات، وحاجات، مُهمة أحيانا، وغيرُ مهمة، أحيانا أخرى.
وننتقل إلى الكتاب الثاني للأستاذ الدكتور كمال عيد.. كتاب (تحليل مناهج البحث العلمي) الذي يستهله بتمهيد يعنونه بتساؤل “لماذا هذا الكتاب؟” يعقبه مباشرة عنوان فرعي “والجواب:”، حيث تتضمن إجابته السؤال الذي سبق أن طرحه.. إقرارا بتعدد الكُتب المنهجية التي تبحث في أصول البحث العلمي، غير أنها صادرة منذ عقدين من الزمان، فضلا عن أن هناك نقصا واضحا من زاوية تطبيق المناهج العلمية، بل وخلطا في غالبيتها إضافة إلى دخول مصطلحات منهجية (وهي غير منهجية) لتخلق صورة علمية جديدة لا تستند إلى الحقيقة الفعلية لمناهج البحث العلمي، وعليه فإن الهدف الأسمى لكتاب (تحليل مناهج البحث العلمي) هو استدراك الأخطاء التي تتعامل بها الجامعات والأكاديميات التي تضطلع بتخريج طلاب الدراسات العليا، والخطوات الثابتة اللازمة في أي بحث من البحوث، والتي لا بد أن تعتمد على مراحل تراتبية تبدأ بالعثور على المشكلة، وتنتهي بعرض النتائج، والتوصيات إن وجدت.
هذا ويخصص الأستاذ الدكتور كمال عيد الفصل الأول من كتابه للتعريف بمناهج البحث العلمي في العلوم السلوكية، شارحا لكل منها، ومُصنفا لها من حيث البُعدين: الزماني.. والمكاني، متناولا المنهج الوصفي (المسحي، الوثائقي، الحقلي، تحليل المحتوى، السببي المُقارن، الارتباطي، التتبعي) وأيضا المنهج التاريخي، والمنهج التجريبي، مُحللا وموضحا للخطوات، وراصدا للمصطلحات، وضاربا للأمثلة.
أما الفصل الثاني فيخصصه للتعريف بأدوات البحث العلمي من حيث (التحليل والمُقابلة، الملاحظة، الدراسات السابقة، تصميم البحث، تحليل المعلومات وتفسيرها) ثم يتحدث عن عن الاختبارات المُقنَنَة من حيث: (الموضوعية، شروط الإجراء ووضوحه، الصدق، الثبات، أنواع الاختبارات المُقنَنَة، تفصيل أنواعها).
أما الفصل الثالث والأخير الذي يحمل عنوان (تحليل البحث العلمي العربي والمُعاصر) فيتضمن أن مناهج البحث العلمي في تخصص “العلوم المسرحية” تحديدا.. تُعاني بكل أسف نقصا حادا في تطبيق المناهج البحثية العلمية، وأنه نقص يشمل أغلب أقسام علوم المسرح بالجامعات المصرية، وأيضا بعض معاهد أكاديمية الفنون، ويقرر الأستاذ الدكتور كمال عيد أن عددا من الأساتذة لا يقرأون الخُطط البحثية للدارسين، وأن هذا يتجلى في ملاحظاتهم العابرة التي يسجلونها بأقلامهم على تلك الخُطط البحثية، والتي تفضح الأسلوب الذي يُدار به البحث العلمي في حقل المسرح والدراما، وللتدليل يسوق عددا من الأمثلة (المُصورة) لتلك التعليقات الساذجة.
ويعلن الأستاذ الدكتور كمال عيد في نهاية المطاف أن هدفه هو الإصلاح، وليس الإساءة إلى أحد بعينه، أملا في الارتقاء بالبحوث العلمية المسرحية، وتنقيتها من الأخطاء التي تشوبها، مؤكدا أن ما يحدث من عبث علمي مرده موت ضمير الأستاذ المشرف، ناصحا بضرورة العناية من جانب الذين يديرون الأقسام العلمية المسرحية والعاملين معهم، طارحا - في ذات الوقت - عددا من القيم التي ترتبط بالبحث العلمي مو واقع تجربته التدريسية بالدراسا العليا، حيث الإشراف والمناقشة لأكثر من خمسين رسالة بجامعات القاهرة، وعين شمس، والإسكندرية، وبنها، والمملكة المتحدة، والعراق، والمملكة العربية السعودية.
ويختتم الأستاذ الدكتور كمال عيد كتابه الرصين بثلاث رسائل موجهة إلى أولي الأمر: رئيس الجمهورية، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي، ووزير الثقافة، مناشدا إياهم ضرورة العمل والأمر بمراجعة خطوات البحث العلمي في الجامعات وبعض معاهد أكاديمية الفنون، مُعلنا استعداده التام لتقديم الأدلة والبراهين علي كل ما ذكره، بل وأسماء الجهات العلمية وأسماء أساتذتها الذين يسيئون إلى البحث العلمي.
وبعد.. فإنني أضم صوتي إلى صوت أستاذنا الدكتور كمال عيد، وأحييه على كتابه العلمي الجريء، والمهم إلى حد، بعيد لكل دارس، وباحث، وطالبِ علم، وقبل كل هؤلاء.. لكل مسئول.. وكل صاحب ضمير في هذا الوطن.. حريص على مستقبل الحياة البحثية في مصر.. وصونها من عبث العابثين.. وما أكثرهم بجامعاتنا المصرية.. هؤلاء الذين فسدوا وأفسدوا.. حيث أهدروا قيمة البحث العلمي وأهميته بمنحهم كل من هب ودب درجتي الماجستير والدكتوراه دون أي وازع من ضمير، علمي أو أخلاقي.. ودون خجل أو حياء.. حتى أضحت أقسامنا العلمية أشبه بدكاكين البقالة، وهو الأمر الذي دعا - بكل أسف وألم وحسرة - عددا من الدول العربية - لعل آخرها المملكة العربية السعودية - إلى عدم الاعتراف بالدرجات العلمية التي تمنحها مصر لدارسي علوم المسرح.
 


سيد خاطر