العدد 785 صدر بتاريخ 12سبتمبر2022
تميزت تجربة المسرحي الرائد “بيتر بروك” بقوة تأثيرها على الحركة المسرحية العالمية، ويتردد كثيرا في المراجع التي تؤرخ للمسرح الحديث وصف “بيتر بروك” بأنه أهم فناني المسرح في الغرب المعاصر، وأهم من وصفه بهذه الصفة –التي تعني في جوهرها- التفرد والتميز في آن- “إريك بنتلي” و”مارتن إيسلن” و”جيمس روس إيفانز” صاحب كتاب “المسرح التجريبي من ستانسلافسكي إلى بيتر بروك”، والذي يقول فيه: “إذا كانت مطالع القرن العشرين قد شهدت كونستانتين ستانسلافسكي شخصية أبوية عظيمة-لا للمسرح الروسي فقط- بل لمسرح العالم كله، فثمة شكوك قليلة في أن يثيمن بيتر بروك على نهاية القرن”.
وبطبيعة الحال لم يصل “بروك” إلى هذه المكانة من فراغ، بل من خلال أعماله الكبيرة حيث يظهر لنا كفنان يؤمن بضرورة التغيير، والبحث عن دور حقيقي للمسرح في الواقع الإنساني من خلال ربط كل ما يتماس مع التجربة الإنسانية داخل إطار النص والعرض المسرحي.
وقد شغله –كثيرا- سؤال مهم هو: كيف للأحداث الدائرة في الواقع أن تدخل إلى المسرح؟.
ويأتي هذا التساؤل للبحث عن ماهية المسرح الحي الذي أخطأ الكثيرون في وصفه، فهو يشبه إلى حد كبير ما يمكن أن نسميه “يوتوبيا الفن”، نظرا لحاجته إلى جهد تجريبي يهتم كثيرا بالتفاصيل الداخلية للحدث.
بطريقة أخرى سنطيع أن نقول أن مسرح “بروك” قائم على سرد التفاصيل بدقة بالغة مشوبة بصيغة تساؤلية/ رمزية في بعض الأحيان، كاشفة في أحيان كثيرة. تتكيء في سرديتها على قضايا إنسانية عميقة، غيرت كثيرا في البنية المسرحية العالمية.
فمن خلال مسرحياته “يو إس” و”اجتماع الطير” و”المهابهاراتا” و وغيرها، استطاع أن يوظف التراث العالمي ببعديه الإنساني والمكاني في شكل مسرحي هو أقرب إلى الحقيقة، مما جعل له مكانا بارزا في تاريخ المسرح العالمي.
في مسرحيته “يو إس” نجده يستكشف مناطق جديدة للكتابة والاقتراب من ثقافة الآخر، وهذه من أهم مميزات الكتابة لدى “بروك” في تلك المسرحية قدم لنا صور المقاومة الفيتنامية من خلال حشد عدد هائل من الوسائل الفنية المتناقضة، وكان الهدف منها على حسب تعبيره- في مقدمة المسرحية: “التودد إلى المتفرج لكي يكون مشاركا في العمل الدرامي”.يتضح من هذا المضمون ما كان يرمي إليه “بروك” من وضع الجمهور في قلب التجربة، حيث يقول:
“هنا ترجع المشكلة مرة أخرى إلى المتفرج: هل يود أن يغير شيئا في شروطه؟ هل يود أن يغير شيئا في نفسه، في حياته، في مجتمعه؟ إنه بحاجة إلى الأثر الذي يخدش، وإلى أن يبقى هذا الأثر ولا يزول”.
فالحدث –إذن- في مواجهة الجمهور وجها لوجه- في مرآة واحدة ينظر كل منهما للآخر فيما يمكن أن نطلق عليه “أنسنة الحدث”.
ولو تتبعنا الخط الدرامي لهذا النص الثري سنجد أنه يهتم في مرجعيته الأولى بالمشاهد، من خلال صرخة عميقة وطويلة تتخلل التفاصيل الصغيرة داخل البنية الحوارية، وأحداث المسرحية تقع كلها في فيتنام، وتحديدا في مدينة “سايجون” إن الاحتلال الأمريكي للمنطقة.
ومن الناحية النظرية قدم “بروك” رؤية مختلفة تأثر بها كل فناني المسرح في العالم من خلال كتبه “المساحة الفارغة و”النقطة المتحولة” و”الباب المفتوح” وغيرها.
وجاءت هذه الكتب لتطلق صيحة في الفراغ حول مستقبل المسرح نظرا للظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي همشت دوره.
يقول بروك في كتابه المساحة الفارغة: “مشاهدوا المسرح يتضاءلون في كل أنحاء العالم، ثمة حركات جديدة أحيانا، وبعض الكتاب المجيدين أحيانا، وما إلى ذلك، غير أن المسرح –على وجه العموم- لم يفشل فقط في أن يهذبنا أو يعلمنا، لكنه كاد يفشل كذلك في أن يسلينا”.
وفي كتابه “النقطة المتحولة” والذي ترجمه الناقد الراحل فاروق عبد القادر، يؤكد “بروك” على أن المسرح هو فن الحرية، مع ضرورة إعطاء مساحات لكل من يعمل في العرض المسرحي لتقديم وجهة نظره فيما يقدمه، ولا يتم ذلك إلا من خلال التدريبات المسرحية، وعن ذلك يقول بروك:
“يجب أن يخلق العمل في التدريبات جوا عاما يشرع فيه الممثلون بملء حرياتهم في تقديم كل ما يمكنهم تقديمه للمسرحية، لهذا يكون كل شيء مفتوحا وطلقا في المراحل الأولى من التدريبات”.
وقد استفادت من أفكار بيتر بروك حركة المسرح المستقل في مصر على مستوى التكنيك وعلى مستوى الخطاب المسرحي، حيث إعطاء مساحة واسعة للفكرة المسرحية والابتكار داخل بنية المشهد وإقامة الورش المسرحية المختلفة التي تعمل على إثقال العمل المسرحي وإثرائه.
وقد ظهر ذلك جليا في عدد من الفرق، خاصا تلك التي قدمت ما يسمى “المسرح المفتوح”.
وكان الهدف من وراء كل ذلك هو أن يصل المسرح إلى الجمهور في مكانه، وبالتالي استلزم التجديد في التقنية المسرحية، من حيث الإخراج والديكور والأداء التمثيلي، بحيث يكون للجمهور حق المشاركة، وتحويل بنية العرض والتغيير فيه، لذا تجيء معظم هذه العروض مؤلفة في إطار جماعي، بمعنى أن النص المقدم يجيء كنتيجة لورشة مسرحية سابقة، كذلك النص المقدم يأتي في معظم الأحيان قائما على طابع حكائي. والتفكير في مثل هذا النوع من “المسرح المفتوح” جاء كبديل عن روتينية المسرح التقليدي “مسرح العلبة الإيطالي” الذي مل الجمهور منه وأعرض عن حضور عروضه نظرا لإفلاسه عن تقديم الجديد لأنه من المعروف أن المسرح الحقيقي يقوم على الإدهاش والمفارقة، وهذا ما يفتقده المسرح التقليدي ذو المعمار الكلاسيكي.
كل هذه الأشكال المسرحية جاءت كرد فعل إبداعي ضد الجمود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بعد تحول المجتمع العربي في السنوات الأربعين الأخيرة إلى مجتمع رأسمالي استهلاكي.
لذا كان من الضروري البحث عن أطر فنية يكون من مهمتها إيجاد نوع من التوازن في الوعي –الذي للأسف – تتعدد المحاولات لتغييبه، لذا تكون مهمة الفعل الثقافي صعبة، لكنها بكل تأكيد ضرورية.
كان «بيتر بروك» أحد المحرضين الكبار على التجديد المسرحي في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، منطلقا من مبدأ أساسي رسمه لحياته وهو أن المسرح حياة وضرورة.