ميراث الريح الصراخ والأثر المغلوط

ميراث الريح الصراخ والأثر المغلوط

العدد 610 صدر بتاريخ 6مايو2019

عندما كتب الأمريكيان جيروم لورانس وروبرت لي نص “ميراث الريح” عام 1955، لم يكن المراد منه فقط محاكمة السلطة الدينية ورجال الكنيسة، بل كان الغرض الأساسي هو محاكمة التقاليد والنظم التي توارثتها العقلية الجمعية للشعوب، والوقوف ضد كل من يحاول أن يخرج عنها، ومحاولة إعطاء العقل البشري الحرية في التفكير، وألا يقبل ما يتعارض معه تسليما وإذعانا، هذا من جانب. ومن جانب آخر، كان النص يقول رأيا في المحاكمات (المكاراثية) التي كانت تتم ما بين الفترة من 1947، 1956 ومحاولة تصوير ما يدور فعلا في تلك المحاكمات.
صحيح أن النص اعتمد على حادثة حقيقة ومحاكمة شهيرة وقعت في ولاية تينسي عام 1925، عندما تم اتهام مدرس بمخالفة قانون الولاية الذي يحظر تدريس نظرية النشوء والتطور لداروين. صحيح أن النص اعتمد على الإطار العام هذا، ولكنه لم يحاول أن ينقلها كما هي، خاصة في ما يتعلق أن (محاكمة القرد) - هكذا كان الاسم الذي أطلقه الصحفي الموجود بالواقعة الحقيقية على المحاكمة - هذه كانت مدبرة من الأساس، أو ينقلها حرفيا. واعتمد النص بشكل رئيسي على الجدل الذي كان بين محامي الدفاع عن المدرس، وممثل الادعاء، حيث الأول مقتنع بحرية العقل بل والحرية في العقيدة أيضا، بينما كان محامي الادعاء يدافع عن إرث المجتمع وثوابته الدينية والثقافية بصرف النظر عن معقوليتها.
وطبيعي أن نص مثل هذا في تلك المرحلة التي نمر بها يكون مطلوبا ويتم التعامل معه بكثرة سواء من المحترفين أو الهواة، مع السماح بوجهة النظر الخاصة بالمتعامل، فهناك من لا يصرح بالممنوع، ويكون الممنوع هو القراءة/ إعمال العقل فقط، وهناك من يمنح الرموز الدينية التي كانت في النص الغلبة ويكون الهم هو محاكمتها، وهناك من يركن على طبيعة المحاكمات مثل هذه، التي تتشوه فيها الوقائع، وكيف يمكن إجبار إنسان على اعتقاد ما يؤمن به الآخر قسرا... إلخ.
لذا لم يكن غريبا أن يقدم المخرج حسن النجار على اختيار هذا النص ليقدمه مع فرقة قصر ثقافة دمياط الجديدة/ اتساقا مع الحالة المصرية العامة، والحالة الدمياطية الخاصة؛ وكيف كان بها الكثير ممن يقفون ضد العقل واعتماد النقل منهجا. وجاء العرض ليشارك في فعاليات المهرجان الختامي لفرق لأقاليم على مسرح طنطا.
ولكن الغريب أنه اعتمد على أن يكون هناك إعداد للنص قام به عبده الحسيني. بداية أنا لا أفهم كيف يكون هناك إعداد للمسرح عن نص مسرحي؟! وكيف مر هذا؟ وثانيا، أنا لست ضد عبده الحسيني، فأنا كنت من أوائل من أشادوا به في تجاربه التأليفية الأولى. ولكن بعيدا عن قبولي من عدمه، ماذا فعل الحسيني بالنص؟
ركز على تصوير رجل الدين ومن يسيرون في منواله ومحامي الادعاء بالصورة التي ذكرناها، مع محاولة تصوير حالة الفقر العامة، وعدم اكتراث البعض بالحالة. وهذا جائز، ولكن أن يحول رجل الدين لسفاح يقتل المدرس الذي كانت ابنته تحبه؛ ويقوم بقتل ابنته أيضا حينما تواجهه بأن أطماع السلطة هي التي تسوقه.. ربما ظن أنه بهذا يقدم شرحا جيدا للحالة المصرية بعد ثورة يناير وموقف الجماعات أو ما يسمى بالإسلام السياسي.
ولكن تخصيص رجل الدين، والإصرار على دين معين وتصرف معين، خرج بالأمر من العموم، بل وخلق حالة من عنصرية مضادة، لم يفطن إليها هو نفسه، وجعل نفسه في خندق واحد مع من يعترض عليهم.
واختصر النقاش الذي كان بالمحاكمة ومن خلاله كان يتضح لنا التضاد بين العصرنة والموروث أي العقل والنقل في كل الأنحاء.
من خلال نص العرض يبدو أن عبده الحسيني قد قرأ كل ما يتعلق بتلك المحاكمة، ووصل لما قيل إنها كانت مدبرة لخلق حالة من الرواج للمدينة، وكان الأمر باتفاق بعض أصحاب المصالح مع المدرس.. ولكنه لم يشر لشيء من هذا وأشار فقط بأن تلك المحاكمة ستخلق حالة من الرواج. ولكن نشرها على لسان الفقراء!!
وإذا كان فعلا قد طالع القصة الحقيقية فما الذي منعه من كتابة نص جديد خاص به؛ دون تحويل النص الأساسي لمجرد صراخ يتناقض مع الغرض منه، بل ويتعامل مع نص العرض كما يتعامل البعض من جود بعض البهارات الأساسية فيحول المحامي لمحامية شابة، واقتصر وجودها على خشبة المسرح تقريبا أو في معظم الأحوال على كونها كذلك لا على ما تقوله، سواء بما هو مكتوب لها أو كما طلب منها المخرج أدائيا.
حاولت مي زهدي مصممة الديكور أن تركز على حالة التشوه والتفكك الني تطول الكل عن طريق البنايات في اليمين واليسار فهي وإن كانت ملتصقة ببعضها إلا أن الالتصاق واهٍ، والشيء الوحيد الثابت هو ما يرمز للكنيسة ورجل الدين. وظل الحال كذلك حتى في النهاية التي جاء بها المخرج والمعد. واعتمدت على أن المخرج يقوم بالاستدعاء لا الانتقال. وحاولت أن يكون الديكور مواكبا لهذا، ولكن الإضاءة والتعامل الحركي لم يؤكدا على هذا الأمر، وربما كان هذا نتيجة عرض اليوم الواحد، مع أن تجهيزات مسرح طنطا حديثة وخشبته متسعة.. ربما كان هذا هو السبب.
وإذا كانت هناك أسباب من الممكن أن تشوب الحركة المسرحية أو التعامل مع الإضاءة نتيجة عرض اليوم الواحد، فماذا يمكن أن نقول عن الأداء الذي جاء فاترا من الغالبية، وكأنهم يرددون فقط ما يحفظون. ومع أنني أعرف غالبيتهم، وأدرك تماما أنهم يتمتعون بالموهبة والرغبة، فهل لم يكونوا في يومهم؟ أم شيئا آخر قد يتعلق بالفرقة ذاتها؟
وفي النهاية، أعتقد أن التغيير المسموح به على أي نص يكون من قبل المخرج عن طريق الحذف لا الإضافة، وقد يمكنه أيضا تقديم أو تأخير بعض الأحداث أو المشاهد، ولكن أن يتم التعامل من آخر تحت أي بند، لدرجة إعادة الكتابة، فقط يجب أن تكون هناك مراجعة؛ كما يتم مع النصوص الجديدة. مع أنني ما زلت على اعتقادي بأنه لو كان الحسيني قد ارتكز على الحادثة الحقيقية وملابستها وكتب نصه الخاص به، وكان هناك بعض من تركيز على سعي البعض لخلق أزمات أو أحداث ليتكسبوا منها، ربما لم نكن سنجد هذه المفاهيم المغلوطة، وربما كان سيضاف نص مسرحي جيد، خاصة لو كانت هناك حالة من المزج بين الحادثة الحقيقية وما مر على دمياط من أحداث وقت تحكم جماعات الدين السياسي.


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏