مسرحية شتات.. غواية الحرية في جحيم القهر

مسرحية شتات.. غواية الحرية في جحيم القهر

العدد 820 صدر بتاريخ 15مايو2023

تأتي مسرحية شتات كمواجهة شرسة مع قسوة الوجود ودعارة الفكر ومراوغات التاريخ, فهي الوصل والبوح والجموح والمساءلة, وهي الوشم الناري على ذاكرة الروح والجسد, إنها الحالة الاستثناء التي فتحت المسارات أمام عبقرية الحضور وسحر الاختيار, فالتجربة تروي العشق والحرية والليل والجنون, عن دهشة التكوين وقسوة الأقدار وعذابات الإنسان, تمردت على السائد والكائن وامتلكت وعيها الثائر وقانونها الخاص, لنصبح أمام قطعة فنية أخاذة الجمال مسكونة بالسحر والقسوة والعنف والبراءة, منسوجة من الدهشة والشوق والحرارة, أعلنت العصيان على القهر والاستبداد, وهزت عرش التسلط والاستلاب, بحثا عن الحرية والنبض والمعنى في وجود مخيف ضبابي الملامح والأبعاد. 
تنتمي هذه التجربة إلى قطاع الإنتاج الثقافي, وتعرض حاليا على مسرح مركز الهناجر للفنون, التأليف للكاتبة المثقفة المتميزة رشا فلتس, التي اتجهت إلى اندفاع جدلي ثائر على الثوابت والمطلقات, الأساطير والتاريخ والسلطة والسياسة وعذابات الإنسان, الكتابة الحية امتلكت شرعية حضورها الطاغي عبر الرؤى العصرية الضمنية التي تنتمي إلى ما بعد الحداثة, وتشتبك بقوة مع عبثية وجودنا الآن بكل قسوته وجموحه وتناقضاته. وفي هذا السياق، تواجهنا رشا فلتس بمنظومة فنية خلابة ترتكز على أبعاد درامية مسكونة بالمفاهيم الجمالية من حيث الشخصيات والتقاطعات واندفاعات الفعل والأحداث والتصاعد والمفارقات, لغة الكتابة وخصوصية المفردات ورشاقة الإيقاعات, تدفع المتلقي إلى مسارات التفكير الواعي في مأساة وجود جروتسكي مخيف اختلط فيه الواقع  بالخيال والحقيقة بالوهم والماضي بالحاضر وملامح المستقبل, تلك الحالة التي تبلورت عبر ذلك الطرح الفلسفي للوجود والعدم والعبث والاغتراب واستحالة التواصل بين البشر في عالم مسكون بمؤامرات الدم والقتل والتسلط والاستبداد وحتمية السقوط والرضوخ. 
مخرج المسرحية هو الفنان الكبير سعيد سليمان صاحب الحضور الإبداعي المدهش, والمشروع المسرحي الحي الباحث عن قداسة الوجود الإنساني, تبلورت تجربته الأحدث في مسرحية شتات عبر تقنيات ما بعد الحداثة, حيث الصورة المفككة المعروضة بشكل غير منطقي والمشاهد التي تتباعد عن مفاهيم التصاعد الخطي, لحظات القسوة تبدو مخيفة عنيفة وحشية ومفزعة, الحوار التقليدي يفقد هيمنته, ومنظور الإخراج يحول الكويوجرافيا ولغة الجسد وتيار المشاعر وتفاصيل صور المشاهد, إلى لغة جديدة تمثل أساسا للتجربة الدرامية التي ارتكزت على تضافر الوسائل البصرية والسمعية في آنٍ واحد, ليلامس المتلقي تلك الحالة التعبيرية التي ترسم حدود وأشكال الفضاء المسرحي, وتدفعنا إلى قلب مسرح القسوة الذي يحرر القوى الكامنة في أعماق الإنسان, المسكون دوما بالقيود النفسية والاجتماعية والسياسية, فتصبح الحالة المسرحية تيارا إنسانيا يدين انهيار القيم, وقتل أحلام الناس ومشاعرهم ليصبحوا ظلالا حمقاء يعبث بهم السقوط والرعب والغياب. 
تتخذ الأحداث مسارها في إطار تشكيل سينوغرافي يأتي كنموذج لقسوة الوجود وعنفه وانهياراته, يأخذنا إلى البدروم الواسع القذر, الأعمدة الحديدية الشاهقة تمتد على اليمين واليسار, العمق البعيد الشاسع للمسرح يبدو مخيفا ورهيبا, إطارات العربات الضخمة تشاغب الحبال والسلالم الخشبية, الظلام يروي عن القبح والسقوط, المؤثرات الصوتية تبعث موجات حيوانية وحشية تموج تسلطا واستبدادا وغيابا, الموسيقى الوجودية الناعمة تشتبك مع الضوء الشاحب للشموع الصغيرة, التي يحملها أبطال العرض, وهكذا نصبح في مواجهة امرأة وثلاثة رجال, الكوريوجرافيا تبدو غريبة لاهثة, حيث الشتات الكوني والانسحاب الأسطوري, خطوط الحركة تدفعهم من اليمين إلى العمق إلى اليسار, دوائر العبث المخيف تفرض وجودها, الأقفاص الخشبية تشاغب التروس الضخمة المعلقة, والحوارات القصيرة الدالة ترسم ملامح العذاب. 
تمتد جمرات الصراع الناري العنيد بين الرجال, تيارات المشاعر تروي عن حتمية التعايش والتآلف والتوافق, فالوجود في البدروم يبدو جحيما لا يطاق, الكراهية تبعث نفورا مخيفا, بعد أن تحول البشر إلى قطيع وحشي بلا مشاعر, وأصبح الوجود مأساة دامية, رجال البدروم مقيدون إلى الوهم والسقوط, يبحثون عن الحرية وعن الخروج إلى الحياة, يسألون الله لماذا لا يعيشون ويعرفون المعنى, زعيمهم المتسلط يريد امرأة ليقاوم الفناء والهلاك, تحاصره الرغبة ويهوى سحر الاكتمال, لهفة الحب وجموح العشق يعانقان الضوء والموسيقى, تساؤلات الخطيئة والقسوة تمتد إلى ما بعد الخير والشر, وما بعد الحب والجنس, الشابة الجميلة تدرك معنى خوف الرجال وانسحاب الرغبة والوهج وشعور الإخفاق التام, والعجز حتى عن الانتحار, الرجال لا يجمعهم شيء سوى المكان, زعيمهم يشعر أنه وحيد مع وحيدين, والخروج من البدروم, الذي هو خروج من الليل والخوف والاستبداد, هو المسار الوحيد كي يكونوا ويعلموا ويلمسوا حقيقة المعنى. 
تنطلق إيقاعات الرؤى التعبيري المراوغة, أصوات البوم والغربان تشتبك مع مشاعر الخواء والغثيان, بينما يبعث صوت حبات المطر تفاؤلا في أعماق الزعيم, المرأة الجميلة صاحبة المفاتيح تعود, الرجال حولها يحملون الشموع, ينظرون لأعلى, يدركون أنهم جميعا يحتاجون الدفء ليمتلكوا القدرة على الحياة والشعور بالنشوة المقدسة, الموسيقى تعانق الضوء والرجال يدفعون الترس الضخم, فيدور وتتفتح مسارات الحب والحرية. 
شارك في هذه التجربة العبقرية الفنانون المتميزون: ياسر أبو العينين, حسن عبدالعزيز، عمرو نخلة, مع الفنانة الجميلة مصرية بكر. 
كان الديكور والملابس لنهاد السيد, والإضاءة لبكر الشريف, والإعداد الموسيقي لمريم سعيد. 


وفاء كمالو