العدد 644 صدر بتاريخ 30ديسمبر2019
استضافت مدينة الإسكندرية فعاليات الدورة الأولى “لمهرجان الإسكندرية المسرحي العربي للمعاهد والكليات المتخصصة” دورة الفنان الكبير جلال الشرقاوي. وقد ضمت الدورة الأولى مجموعة كبيرة من العروض المسرحية التي يقدمها الطلاب المتخصصون في دراسة الفنون المسرحية على مستوى الوطن العربي منها:
الوحوش الزجاجية.. وممارسة فعل الغياب
قدم المعهد العالي للفنون المسرحية، أكاديمية الفنون، عرض “الوحوش الزجاجية” تأليف تنيسي ويليامز، وإخراج يوسف الأسدي. تدور أحداث المسرحية في فلك صورتين لشخصيتين أساسيتين: الأب الذي تظهر صورته على الجدار من بداية المسرحية كشاهد على الأحداث الدرامية، والابن في النهاية توضع صورته كدلالة كونه تماهى مع الأب وأصبح مثله تماما في ممارسة فعل الغياب عن الأم والأخت، المسرحية تعتمد تيمة “الغياب” بشكل أساسي، وهذا ما يتضح من خلال جُمَل للأم عن الأب “حيث تقول وقعت في حب رجل يعشق المسافات”، وجملة الأخت في نهاية المسرحية “أمي كفاكِ انتظارًا.. لا جديد.. لا أمل.. الحياة هي الممات، كل حب قد رحل”. وعلى ذلك، فإن المسرحية بين مطرقة الانتظار وسندان الغياب.
المسرحية تبدأ بأوفارتير عبارة عن حركات تعبيرية راقصة تكشف عن حالة من الشجن بين شاب وفتاة، تلك الحالة التي تظهر تدريجيا من خلال ذلك الحاضر الغائب، الابن توم وينجفليد، الذي يُدخل المتلقي إلى عالم المسرحية من خلال توليه دور الراوي، المستخدم للسرد والآلة الكاتبة في تقديم الأحداث الدرامية في دلالة واضحة كونه ما زال في حالة الكتابة، بما يعني أن ما يرى على خشبة المسرح هو ما في ذهن الكاتب الدرامي من أفكار ما زال يضعها على ورق، أي في مرحلة التأليف، وهي دلالة أيضا لكون شخصية الابن هي ذاتها شخصية (تينسي ويليامز) مؤلف المسرحية، ذلك أن مسرحية “الوحوش الزجاجية” تروي علاقة (تينسي ويليامز) مع أفراد أسرته، أي أنها أشبه بالسير الذاتية، فثمة نوع من التماثل يصنعه المخرج بين ما أطلقت عليهم الأخت “لورا” اسم الوحوش الزجاجية، في لحظة من الحب مع صديق الأخ، وبين شخصيتي الأداء الحركي الراقص، فكما توضع هذه الوحوش الزجاجية جانبا على المنضدة يظل أحد الراقصين جالسا منذ بداية المسرحية إلى آخرها كشاهد على الأحداث الدرامية، ومجرد أن تدفعه الأخت بقدمها يسقط على الجانب الآخر، كما كسر وحش الحصان الزجاجي ذو القرن الواحد، لم يكتفِ هذا العالم بكم البؤس الذي تحيا فيه تلك الفتاة بل أضاف إلى بؤسها بؤسا جديدا، من خلال الحب الذي ظل عالقا في ذاكرتها منذ الثانوية وقابلته اليوم في منزلها، فهو صديق الأخ الذي اعتقدت بأنه جاء لخطبتها، لكنه أكد بأنه سيتزوج وذلك بعد اندفاعه في الرقص معها، وكسره لأفضل وحوشها الزجاجية، لقد أخبرته في النهاية عن كونها هشة من الداخل في مماثلة بينها وتلك الوحوش من الزجاج، فقالت “هي كائنات هشة ورقيقة إذا تنفست ستنكسر، شفافة جدا، ولكن عندما يتجمع عليها الأتربة تصبح كالوحش وعندما تنظف ترجع كما كانت”، هي ذاتها كما تلك الوحوش الزجاجية هشة باستمرار ترى أنها أقل من الجميع فهي ترى نفسها “عرجاء” لا يمكن أن تتزوج، إنها رهيفة المشاعر لدرجة أن رجلا زار منزلها أحبته، والأمر بالنسبة إليه موقف عابر تماما فهو يزور صديقه وبعد أشهر قليلة سيتزوج “لورا”، بالنسبة إليه مجرد فتاة، لا يهمه ما يحدثه هذا الموقف بداخلها، وأنه قد قضى على أي أمل لها في حياتها البائسة، هو أيضا “الصديق جيم أوكونور” قام بنفس الفعل الذي فعله الأب ومن ثم فعله الأخ) فعل الغياب (وكأنها لعنة الغياب التي أصابت هذا المنزل المتواضع.
الديكتاتور.. الكرنفال ولعبة تبادل الأدوار
قدمت دولة لبنان، كلية الفنون الجميلة –الفرع الثاني – الجامعة اللبنانية، العرض المسرحي “الديكتاتور” تأليف عصام محفوظ، إخراج حسن محيي الدين. تعتمد المسرحية على الحبكة الدائرية بما يعني أن ما يبدأ به العرض ينتهي به، فالمسرحية تدور في فلك لعبة الميتاتياتر “التمثيل داخل التمثيل” بين الجنرال والعسكري يتجلى فيها سلطوية الديكتاتور. المسرحية تتخذ سمة الممارسات الخاصة «بالسيد والعبد» أساسا لها، وذلك من خلال الاعتماد على الكوميديا وتبادل الأدوار، وفي استجابة شديدة من هذا العسكري وخضوع واستسلام لدور العبد، وفي نوع من الدائرية، ففي النهاية تكتشف أنها لعبة مسرحية تستمتع فيها الشخصية باستمرار تبادل الأدوار، بحيث تجد هذا الجنرال يتصرف بشكل سلطوي تماما، ويعتمد على فكرة إصدار الأوامر دائما، فالشخصان يمثلان الثورة كما يرون، بينما العالم الخارجي تتساقط فيه أجزاء المدينة ويتم ملاحقة الملك، تلك صورة تخيلية في واقع مُفترض وعالم مواز، فالحياة في هذا العرض على الهامش تماما لا يمكنك معرفة ما يدور بالخارج إلا من خلال كلام الشخصيات ومجموعة الألعاب الجروتسكية التي يقومون بها، وهذه الألعاب تدور في سياق الثورة، ففي نوع من “الجروتسك” يتم الكشف عن جميع العيوب التي قد توجد خلال أجواء تلك الثورة، حيث يتم الاعتماد على المبالغة بوضع ضوء يبرز عيوب الشخصيات ويسخر منها وذلك من أجل إثارة الضحك الذي بدوره يُعمل العقل، ذلك يدور في إطار من اللازمان واللامكان، تلك الألعاب تعتمد على الضحك والفكاهة وهما يشبهان الكرنفال في قلبهما للمواضعات السائدة لفترة مؤقتة، وفي قدرتهما على الخرق المؤقت لقانون إنتاج الدلالة وفي الانفصال المؤقت عن الواقع واقتناص سلطة الخطاب لفترة، وخلخلة الخطاب السائد. قلب المواضعات السائدة في الكرنفال يساعد على التحرر من أسرها، مما يجعلنا نتشكك في ما هو معتاد من تراتب للأنظمة والأدوار الاجتماعية، وسلطتها وكذلك في النظرة إليها باعتبارها قوانين طبيعية، أو حقائق. تلك اللعبة من الكرنفال وتبادل الأدوار تصنع نوعا من الاختلاف، ففي لحظة يمكن أن يصبح هذا الجنرال أو ذلك الملك أو أي شخص يتم اختياره مكان الآخر في سياق اللعبة، فهي لعبة لها صفة الاستمرارية، وفي الكرنفال يمكن أن يتم تبادل الأدوار بين الشخصيات بحيث تأخذ المرأة مكان الرجل والعكس، وفي حالة مسرحية “الديكتاتور” قد يتخذ الديكتاتور مكان العسكري والعكس.
هناء.. التشيؤ والانهزام
قدمت المملكة المغربية ماستر المسرح وفنون الفرجة –الرشيدية العرض المسرحي “هناء” تمثيل وإخراج ضياء حجازي مشرف عام على الماستر د. سعيد كريمي. العرض مونودراما يعتمد في جوهر تقنياته الأساسية على فكرة التغريب، فشخصية هناء يؤديها ممثل رجل يقوم باتخاذ مكان أنثى في العرض المسرحي بما يعني أنه يرتدي ملابس أنثوية، ويتعامل من بداية العرض إلى نهايته على أنه أنثى، ذلك المعنى في جوهره يشكل ضغطا نفسيا على المتلقي ويطرح الكثير من الأسئلة وهي حالة مطلوبة ليصل للمتلقي بعضا من الضغط النفسي الذي تحيا في خضمه الشخصية، هذه الحالة من التغريب لا يتم الكشف عنها بل عليك كمتلقٍ أن تتعايش معها طوال مدة العرض، فهي تدعوك للتفكير الدائم طوال العرض، هل تلك الشخصية ممثل ذكر أم أنثى؟ هذا التغريب يدفعك إلى التمرد على الواقع المؤلم الذي يشيئ الأنثى ويجعلها تختبئ تحت هذا الكم من الملابس التي ترتديها الشخصية، هذا التغريب يجعل الممثل يتخذ لنفسه مساحة خارج الشخصية، ذلك الحد الفاصل الذي يسمح للعقل بمساحة من التفكير، حيث يقدم الممثل شخصيته التمثيلية مع اتخاذه موقفا تجاهها، وفي هذا الإطار قد يعرض الممثل شخصيته الدرامية من خلال أنه يروي عنها ولا يتقمصها تقمصا كاملا.
ومن اللافت للنظر في هذا العرض التعامل مع الموتيفات، فحينما تتحدث عن كونها لم تعد أنثى تستخدم بعض حبات من الطماطم وتقطعها بغير وعي، وهي تعبر عن تلك الحالة الشعورية الغاضبة واليائسة فذلك التقطيع يكثف حالة الانتهاك في فعل التقطيع لتتعرف كمتلقٍ على مدى وحشية الانتهاك الذي مرت به شخصية هناء على أرض الواقع، ففي هذه اللحظة يمكن استبدال الشخصية المُنتهكة بتلك الحبات القليلة من الطماطم، وفي لحظة قتلها للزوج “تتماثل لحظة القتل على أرض الواقع مع لحظة قبضتها على حبة الطماطم وتفتيتها”.
العرض يزخر بكم هائل من الدلالات التي تعبر عن حالة من القسوة والعنف ضد المرأة والتعامل معها كالدمية التي يمكن التخلص منها في أي لحظة.
بر.. الوصول إلى الهاوية
قدمت دولة الأردن، الجامعة الأردنية –قسم الفنون المسرحية، العرض المسرحي “بَر” دراماتورج وسينوغرافيا وإخراج دلال فياض. العرض مستوحى من نص مسرحية «العميان» للكاتب موريس ميترلينك، وهو كاتب يطلق على مسرحه “مسرح الصمت” ذلك أنه يضع أهمية قصوى للحظات الصمت، ويعد أيقونة للرمزية، ويعتمد ميترلينك على بعض الشخصيات في مسرحيته، مجموعة عميان “ستة رجال وست نساء وطفل” وهم في حالة من الانتظار اللامنتهي لحضور الكاهن الذي قادهم إلى الغابة بعد أن أخرجهم من الملجأ، وعلى ذلك هم لا يدركون أي شيء حولهم وفي حالة انعزال تامة عن العالم، كما في حالة شخصيات مسرحية “بر” التي يثقل كاهلها سؤال المصير، فهي شخصيات في حالة من الثرثرة التي يتخللها لحظات كبيرة من الصمت حيث اللاشيء، فثمة أهمية للصمت في هذا العالم المنعزل الذي يتخلله الغموض، ويحيط به الشك.
الشخصيات في العرض يبدو عليها الاضطراب والمعاناة - يحاصرها الخوف ذلك الكائن الأسطورى، المُعطل الدائم لبنى البشر عن التقدم، لايشغل الشخصيات سوى قبطان السفينة وهو هنا وكأنه الكاهن في عميان ميترلينك، مع ملحوظة أن الكاهن في العميان قد يشير بموته إلى موت الإله بينما هنا في مسرحية «بَر”يظهر القبطان وتنتهى المسرحية بأن تقذف عليه من كواليس خشبة المسرح مجموعة من حقائب السفر كدلالة رمزية تشير إلى الهجرة الدائمة والمستمرة، والتي قد تعد في حد ذاتها موتا داخليا لما في نفس الشخصيات من مشاعر إنسانية مرهفة، فاستمرار الغياب يؤكد وبشدة على حضور الألم والتعود عليه، ولأن النسيان لا يطرق باب هؤلاء الشخصيات فإن الذاكرة المأساوية دائما حية وحاضرة ومؤرقة لهم على الدوام، وتقول الشخصيات عبر حوارها المتبادل “الذاكرة لا تنسى تموت حية، هنا يشبه هناك وهناك يشبه هنا، عتمة خطى ثقيلة مكبلة، برد حتى اللعنة وما زلنا نتسلى على أوجاع بعض في مكان تفوح منه رائحة الموت هنا في هذا المكان حينما يصبح الألم المتبادل وسيلة أساسية للإحساس بالوجود.
الرحلة.. الفن حرية
الفن كشف لحيوات خفية حيوات نحلم أن نعيشها، فهو عالم مُغاير لما نحيا، عالم مُفارق عن الكون، عالم يبدو فيه الكون بعين أخرى، عين تصنع لهذا الوجود معنى وتوهبه الجمال، إن القضايا الإنسانية هي جوهر ما يجعل من الفن باقيا على مدار التاريخ، فالفن بالضرورة هو فعل إنساني ينبع من الذات الإنسانية التي تنفعل بقضايا الإنسان معبرة عنها، فعلى الفن أن يلمس القضايا التي تهم الإنسان حتى يترسخ في وجدان الناس فنا له معنى، فهو إعادة خلق لواقع جديد يراه الفنان، ويريد من خلاله مناقشة ما يعتمل بداخله كإنسان، وقد يتطرق الأمر إلى مناقشة علاقة الفنان الموهوب بأحلامه في الفن، وكيف يمكن تحقيقها. وهذا ما حاول تجسيده عرض “الرحلة”.
عرض “الرحلة” إخراج محمود متولي، ومحيي الدين يحيى، العرض عبارة عن لوحات مسرحية منفصلة ومتصلة في آن معا، فلا يمكن أن ننظر إلى تلك اللوحات ضمن منطق التصاعد الدرامي، وإنما هي لوحات درامية استعراضية تحكمها فكرة عامة، تلك الفكرة تتمحور حول الفن وعالمه ذلك الحُلم الذي يسعى الشخص الموهوب إلى تحقيقه “فالفن حياة وخيال وجنون”، “الفن أكيد رحلة، الفن يغير كل الكون”.. تلك الجمل يقولها أحد المؤدين في العرض.
من خلال الاستعراضات يمكن تقديم صور جمالية متلاحقة، جميعها تحفز على الأمل، إلى جوار أنه ثمة ثلاث شاشات في خلفية خشبة المسرح. عرض “الرحلة” تمثيل طلبة الدفعة الأولى، قسم التمثيل والإخراج، وكتابة طلبة الدفعة الأولى دراما ونقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية، هذا إلى جوار مشاركة طلبة معهد الباليه ومعهد الموسيقى العربية ومعهد الكونسرفتوار. العرض تمثيل إسراء الجمل، رشوان عبد الرحيم، سام معتز، سارة علاء الدين، عبد الباري سعد، عصام صلاح، عصام الدين أشرف، عمر سعيد، فادي ثروت، منار حليم، مروان نشأت، محمد أشرف، مصطفى خالد، نورهان صالح، نورا سليمان، هيتان عبد الله، ريهام مجدي، مونتاج حسام تايجر.