العدد 748 صدر بتاريخ 27ديسمبر2021
أشرنا في المقالة السابقة إلى اسم «حسيبة رشدي»، وقلنا إن لها قضية ظهرت عام 1951 وأثرت بشكل مباشر على العلاقات الفنية بين مصر وتونس، وكادت أن تعرقل زيارة الفرقة المصرية إلى تونس، والسبب في ذلك إنها ممثلة تونسية تعيش في مصر وقامت ببطولة بعض الأفلام المصرية، وفجأة صدر قرار بإبعادها عن مصر، وعدم مزاولتها التمثيل داخل مصر، تنفيذاً لقانون إقامة الأجانب في مصر!
وحتى نتعرف على أساس المشكلة، نقول: إن جريدة «البلاغ» نشرت عام 1947 موضوعاً بعنوان «قانون الجنسية يكشف جنسيات كواكب المسرح المصري والسينما»، قالت فيه: إن وزارة الداخلية عقدت جلسة خاصة من أجل تفسير قانون إقامة الأجانب في مصر. وفي هذه الجلسة صرح «عبد الرحمن عمار» وكيل وزارة الداخلية في رد على سؤال وُجه إليه بخصوص الشرقيين الذين وفدوا إلى مصر في الحرب العظمى الأولى، وهل تعتبرهم الحكومة المصرية أجانب أو مصريين فقال: «إن الشرقي إذا كان قد أقام بمصر منذ 5 نوفمبر سنة 1914 إلى سنة 1929 إقامة مستديمة وكان من أصل عثماني من الشام، فيعترف له بالجنسية المصرية وذلك بحسب قانون الجنسية. وإلى أن يُعترف له بالجنسية المصرية يجب أن يقدم لوزارة الداخلية استمارة «ح» طبقاً لقانون مراقبة الأجانب».
هذا القانون أثير عام 1951 في مسألة «حسيبة رشدي» الفنانة التونسية ومدى قانونية اشتغالها بالتمثيل في مصر، ووصل الأمر إلى صدور قرار بإبعادها عن مصر أو منعها من ممارسة التمثيل في مصر! وتبني قضيتها كاتب صحفي اسمه «سام» ونشر قضيتها في مجلة «الأستوديو» بتاريخ فبراير 1951، وكتب التفاصيل من بدايتها .. هكذا:
بخصوص السيدة التونسية «زهرة بنت أحمد الحاج محمد» وشهرتها «حسيبة رشدي» أتشرف بإبلاغ حضرتكم أن المذكورة بعاليه حضرت للبلاد في 16/9/1946 لمرافقة زوجها الأمريكي المقيم بالقاهرة. وقد علمنا أنها تزاول التمثيل بالأفلام والغناء بدون تصريح. وقد قررت لجنة الفنانين المنعقدة بإدارة الجوازات والجنسية بوزارة الداخلية بتاريخ 15/1/1951 عدم السماح لها بمزاولة عمل فني نظراً لأنها مقيمة إقامة مؤقتة أسوة بزوجها وهي تعامل معاملة زوجة رجل أعمال. هذا مع العلم بأنه في حالة مخالفتها هذا القرار سينظر في أمر إقامتها بالبلاد فنرجو التكرم بإذاعة هذا القرار بين حضرات أعضاء النقابة بعدم التعاقد معها تنفيذاً لذلك القرار. [توقيع] مدير إدارة الدعاية والإرشاد الاجتماعي «محمد الشريف».
ويعلق الصحفي على هذا القرار، قائلاً: هذا هو القرار الذي تفضل بإصداره حضرة الأستاذ محمد الشريف الذي تتشرف إدارة الدعاية والإرشاد الاجتماعي برئاسته، وهو قرار للأسف لا يشرف الأستاذ الشريف أبداً، لأن فيه من الأخطاء ما يكفي لأن يقف الأستاذ الشريف موقفاً لا يحمد عليه لو أن المسئولين فكروا في أن يأخذوه بجريرة عمله! يقول الأستاذ الشريف في تقريره إن السيدة حسيبة رشدي في مصر منذ عام 1946، وأستطيع أن أزيد إلى معلومات الأستاذ الشريف – التي لا بد يعرفها – لأقول له إن السيدة حسيبة رشدي منذ هذه الفترة قد مثلت في ثلاثة أفلام يعرف هو أسماءها. حتى قبل أن تخرج إلى الوجود. أين كان الأستاذ الشريف إذن طوال تلك المدة؟ وأين كانت إدارة إرشاداته ودعاياته الاجتماعية؟ إن الأستاذ محمد الشريف الذي تتشرف إدارة الإرشاد الاجتماعي والدعاية برئاسته لا بد أن يعلم بحكم منصبه كل شاردة وواردة في الوسط الفني. وليس بحكم منصبه فحسب من الوجهة الرسمية بل أستطيع أن أقول وبغير حرج إن الأستاذ الشريف لهواية خاصة في نفسه اعتاد أن يحيط علماً بكل ما يحدث وما يجد في الوسط الفني. فلماذا ظل الأستاذ الشريف ساكناً طوال تلك المدة؟ أو لماذا ظل متجاهلاً الأمر حتى الأسبوع الماضي حينما خرج على الوسط الفني بهذا القرار العجيب؟ هذا شيء يا حضرة مدير الدعاية والإرشاد الاجتماعي. وشيء آخر، ألم يكن يعلم الأستاذ الشريف أكثر من هذا ليضمن قراره الكريم. ألم يكن يعلم أن حسيبة رشدي زوجة لرجل مسلم ديناً قبل أن يكون أمريكي الجنسية، وأنه كان يكفي أن يكون لإسلام هذا الرجل ودخوله ديننا وازع لنرجع عن هذه الترهات. وأن نكفي على الخبر «ماجور» حتى لا نظهر أمامه – وهو الجديد على ديننا – بهذا المظهر الذي لا أستطيع أن أسميه إلا أنه جليطة! هل أنت رسمي جداً يا سعادة رئيس قسم الإرشاد الاجتماعي؟ دعني إذن أقص عليك مثلاً بسيطاً. لو جمعت حضرتك شلة من الأهل والأصدقاء وذهبت إلى الفرقة المصرية مثلاً لمشاهدة إحدى المسرحيات، ومعروف أنك تستطيع أن تحجز ما تشاء من التذاكر والألواج بحكم منصبك. ولكنك لسبب من الأسباب نسيت أو كنت مشغولاً فذهبت مباشرة وسمحوا لك بالدخول طبعاً دون أن يجرؤ واحد منهم على أن يطالبك بالتذاكر، وتكررت هذه الحادثة مرات ومرات، ثم أحسّ الواقفون على الباب والمسئولون عن النظام أن المسألة زادت فحاولوا لفت نظرك إلى أنه يستحسن قطع التذاكر – أو حجزها بحكم منصبك – قبل الحضور بساعات على الأقل. ماذا تفعل لو حدث هذا؟ إنك ولا شك تثور، وأنا أثور معك. فليس الذنب ذنبك، إنما هو ذنبهم لأنهم تساهلوا في المرة الأولى. فاعتقدت أنت أن المسألة عادية وسواء عندهم حجزت أم لم تحجز، ولو كانوا نبهوك يا سعادة رئيس قسم الإرشاد الاجتماعي من اليوم الأول لاعتدت أن تحسب حساب الأصدقاء عند شباك التذاكر. هذا مثل لا أكثر ولا أقل – مخافة اللبس – وهو ينطبق تماماً على ما حدث مع السيدة حسيبة رشدي، إن قلم الجوازات والجنسية يعلم منذ اليوم الأول الذي مثلت فيه حسيبة رشدي أنها لا تملك جوازاً بصفتها ممثلة، وإن كان قلم الجوازات نائماً فالمفروض أن إدارة الفنانين بالقلم لا تنام. وإن كان الاثنان يغطان في نوم عميق فالمفروض أن نومك أنت خفيف وأنك تعرفها وهي طايرة، فلماذا لم ترسل منذ ست سنوات إلى قلم الجوازات خطاباً تنذره فيه بأن حسيبة رشدي تمثل وتسألها إن كانت تملك تصريحاً بهذا أو لا، أو لماذا لم ترسل إلى حسيبة نفسها خطاباً تسألها فيه إن كانت تملك هذا التصريح أو لا. وقد كان هذا أدعى – في ذلك الحين – لأن تنقذ رسمياتك حقاً. وفي كرامة نحفظ لك هيبتك. إن مثل حسيبة رشدي اليوم في السينما، كمثلك أمام شباك تذاكر الفرقة المصرية. أو قد تعتذر حسيبة وتحاول أن تستخرج تصريحاً بالتمثيل. ولكن اللوم لن يفوتك أنت. لأنك المخطئ الأول. ثم شيء ثالث، ما هو الدافع إلى كل هذا؟ المفروض أنك تعرف أن حسيبة المسكينة لا تتقاضى في مصر ربع ما يمكن أن تكسبه في تونس، وهي هناك وسط بلدها معززة مكرمة، ومعنى هذا أن أموال مصر محفوظة لها ولله الحمد. ومعناه أيضاً أنها لا يمكن أن تعامل على أساس أنها إحدى أولئك الأجنبيات اللواتي يكسبن من مصر آلاف الجنيهات لبضعة أسابيع يقضينها في مصر. واسأل عنهن سليمان بك نجيب الذي يتولى إحضارهن. ويتولى عملية محاسبتهن!! وحسيبة قد مثلت في ست سنوات ثلاثة أفلام. أي كل سنتين فيلماً، ومعنى هذا أن الأفلام المصرية محفوظة للمصريات ولله الحمد والدنيا بخير. وإذا كانت أموال مصر ظلت كما هي للمصريين، وأفلام مصر ظلت كما هي للمصريات، فلمصلحة من إذن كل هذه الضجة التي أثرتها علينا بدون مبرر. إن لمصر في تونس مكانة – أو كانت مع الأسف – لا يدانيها مزاحم آخر، فقد كانت تونس – إلى وقت إصدار قرارك – تعتبر مصر مثلها الأعلى في كل ما يتصل بالحياة الاجتماعية أو السياسية أو الفنية، وقد كانت فرنسا تعلم، وكانت تحاربه بكل ما تملك من قوة. ولا شك أن إنساناً خبيراً مطلعاً مثلك – أو هكذا يجب أن تكون بحكم مركزك – يعلم تمام العلم مدى ما تبذله فرنسا من مجهود لتلويث سمعة مصر في تونس، ومدى ما تبذله لمحاربة نفوذنا الأدبي هناك والذي لا نبذل فيه للأسف جهداً، ولا شك أنك قد سمعت – أو أقول لك – إن فرنسا إلى عهد قريب حاولت منع الجرائد المصرية من دخول تونس. وأنها لم تتراجع عن قرارها هذا إلا بعد أن هدد الفرنسيون بالثورة. إنك ولا شك سمعت بكل هذا، وسمعت بالحفاوة التي يلقاها فنانوها في زيارتهم لتونس وسمعت بالنياشين التي تغدق عليهم، وسمعت بالأموال التي تتدفق عليهم في كرم، وليست رحلة الأستاذ فريد الأطرش وما لقيه هناك من ترحاب بالأمر البعيد، أتعرف ماذا كانت نتيجة وطنيتك؟ لقد وجدوها الفرنسيون فرصة فأثاروا الاشمئزاز في الأوساط التونسية، وما أسرع ما أصدرت السلطات الفرنسية أمراً بمنع دخول الأفلام المصرية إلى تونس، ثم ها هي ذي السلطات الفرنسية في سبيل إصدار قرار آخر بمنع دخول الفرقة المصرية إلى تونس، وفي هذه المرة لم يثر التونسيون ولم يحتجوا فقد وجدوا في هذه القرارات رد الاعتبار لكرامتهم. هذا هو ما حدث تماماً، وأنا هنا لا أكتب لأن هذا حدث لحسيبة رشدي أو لغيرها، إنما أكتب عن الموضوع كمبدأ يجب أن نحترمه جميعاً وأن نتلمس مواقع الخطأ قبل أن تغرينا مظاهر الصواب. وأعتقد أن في مقدورنا أن نصلح أخطاءنا دون أن نخدش جزءاً من كرامتنا، لو اعتقد الأستاذ الشريف أن ما كان يهدف إليه قد انحرف قليلاً وبهذا تنتهي المشكلة!
هذا ما كان من أحد الصحفيين في مصر تجاه قضية حسيبة! أما الصحافة التونسية فقد نقلت منها جريدة «المقطم» ما جاء فيها، ونشرته تحت عنوان «كلمة حق حول المطربة حسيبة رشدي»، قائلة: نشرت زميلتنا جريدة «الصباح» التونسية في عددها الأخير رسالة بإمضاء «يقظان» بعنوان «صباح الخير» هذا نصها: «من البر ما يكون عقوقاً» أخذت بعض الزميلات في تونس تشن حملات عاصفة على مصر ووزارة الشئون الاجتماعية بها لقرارها إبعاد المطربة التونسية حسيبة رشدي عن العمل في الميدان الفني هناك عملاً بقوانين مصر الداخلية ومواقف نقاباتها الفنية. وهي أحبولة استعمارية نصبها الاستعماريون هنا ليلفتوا بها الأنظار عن مواقف إخواننا المصريين في نصرة المغرب الشقيق، تلك المواقف النبيلة الشهمة، وليطلقوا ألسنة السذج من التونسيين بالشتيمة للمصريين فيكون جزاء الإحسان هذا التنطع المزري، ويمكث الاستعماريون في زاوية يقهقهون. من حق الفنانين المصريين أن يحموا نفوسهم وعملهم في بلادهم من كل مزاحم، ومن واجب كل ضيف أن يحترم قوانين البلاد التي ينزل فيها لا سيما إذا كانت تلك القوانين تسري على كل ضيف سواء أكان تونسياً أو لبنانياً أو سورياً أو عراقياً مثلما هو واقع بمصر. والغريب في الأمر أن تطالع في إحدى الصحف أن السفارة الفرنسية في مصر قد احتجت على قرار منع حسيبة، وهددت بمنع قبول الفرق المصرية في شمال أفريقيا مقابل ذلك. والذي نعلمه أن الفرق الفنية المصرية التي تزورنا لم تكن من أجل السماح لحسيبة بالعمل في مصر، ولكن في مقابل أن تزور فرقة الكوميدي فرنسيز وفرقة لويس جو في القاهرة وتحيي بها حفلات وتعود بأموال. وإذا كانت حسيبة قد لاقت مضيفة في مصر فلتعد إلى بلادها لتمارس فنها كما كانت قبلاً ولا موجب لكل هذه الضجة المسترابة مع هذا التذكير بأن الصحافة المصرية لم تغفل الدفاع عنها ضد القرار الأخير. ليست الوطنية تتمثل في أمثال هذه القضية أيها الزملاء فانظروا ماذا أنتم تصنعون؟
وعلقت مجلة الصباح المصرية، قائلة: هذه كلمة حق ينطق بها شاهد من أهل حسيبة رشدي التي أقسمت ألا تغادر مصر إلا مكبلة بالحديد، وهي ما زالت مختفية والبحث عنها جارِ لإبعادها. ولعلنا لا نجني على الحقيقة إذا نصحنا حسيبة بما نصحها بها يقظان في الصباح التونسية بأن تعود إلى بلادها وتزاول فنها كما كانت من قبل.
وفي إبريل 1951 حسمت مجلة «الصباح» المصرية القضية عندما واجهت رئيس اتحاد النقابات الفنية في مصر، وكانت المفاجأة لنا عندما علمنا أنه «يوسف وهبي» مدير الفرقة المصرية المهددة رحلتها إلى تونس بالإلغاء!! وحول هذا الأمر قالت المجلة: «أشرنا من قبل إلى قرار لجنة الفنانين الخاص بمنع السيدة حسيبة رشدي من العمل، وقد أثار هذا القرار ضجة كبيرة بين المنتجين المصريين، وانتشرت إشاعات كثيرة في الوسط الفني وكلها تجمع على أن اتحاد النقابات هو الذي طلب إبعادها عن مصر. وقد اتصل أحد مندوبي «الصباح» بالأستاذ يوسف وهبي بك ليستطلع رأيه في حقيقة موقف الاتحاد من هذا الموضوع فقال: إنني أعجب من هؤلاء الذين يعتقدون أن اتحاد النقابات طلب إخراج السيدة حسيبة رشدي أو منعها عن العمل، فالاتحاد لم يطلب هذا ولم يفكر بتاتاً في منع السيدة حسيبة رشدي أو غيرها من الفنانات والفنانين الشرقيين من العمل في مصر، فإن المحافظة على حقوق النقابيين ليس معناها محاربة غير النقابيين، وكل ما نعلمه عن هذا الموضوع هو أن لجنة الفنانين بإدارة الجوازات والجنسية أصدرت هذا القرار وأرسلته إلى جميع الهيئات والشركات وقد تلقينا نحن خطاب اللجنة كغيرنا من الهيئات الفنية، وليس للاتحاد ممثلون في هذه اللجنة فهي لجنة حكومية بحتة فيها أعضاء من إدارة الجوازات ومن إدارة الأمن العام. وأسباب منع السيدة حسيبة رشدي من العمل لا نعرفها وهي من اختصاص وزارة الداخلية. ويهمني أن أقول لجميع الذين يجهلون أهداف اتحاد النقابات. أن الاتحاد يرحب بكل فنان شرقي يعمل في مصر ما دام يحترم قرارات اتحاد النقابات الخاصة بمعاملة غير النقابين والاتحاد لا يفرق في هذا بين فنان مصري أو سوري أو لبناني أو تونسي!
وبهذا التصريح انتهت القضية ولم نقرأ عنها بعد ذلك أي شيء، بل قرأنا إعلانات سينمائية عن أفلام مصرية بطولة «حسيبة رشدي»، مثل فيلم «طريق الشوك» من تمثيل وإخراج حسين صدقي و«حسيبة رشدي» ولولا صدقي، ومحمود شكوكو، وأستيفان روستي، وفريد شوقيـ وتم عرضه في سينما رويال بالقاهرة. وفيلم «دماء في الصحراء» بطولة عماد حمدي، وحسيبة رشدي، وسراج منير.