إشكاليات تأصيل المسرح العربي (2)

إشكاليات تأصيل المسرح العربي (2)

العدد 754 صدر بتاريخ 7فبراير2022

الأول: يقف فيه أصحاب المسرح (البرجوازي) الذين يخدعون الجماهير عن قضاياه (هكذا) وعن صراعه (هكذا) مع الاستغلال والاحتلال، ويضم هذا القسم مجموعة ضخمة تبدأ من تجار المسرح، وينتهي بأصحاب المسرح (الطليعي) مروراً بالمسرح الذي يدعي إنه إنساني .. والثاني يقف فيه الذين يريدون لهذه الأمة أن تسير في طريق الاشتراكية، وأن تحدد بنفسها هويتها، وهو ينطلق من الواقع دراسة وتحليلا، ويقدمه إلى الجمهور ليحرضه ويعلمه وهو لذلك مضطر إلى إيجاد الأشكال الفنية الملائمة لمضمونه الواقعي التحريضي التعليمي، وبهذه الطريقة وحدها تتضح لمسرحيات تقاليد وأشكال فنية تنشق عن مضمون الواقع الاجتماعي .. وهذه هي الهوية كما في كتابه «المسرح العربي في مواجهة الحياة» ويري (المؤلف) أنه تكاد تلتقي كل نصوص الخطاب التأصيلي، وذلك مهما كانت المنطلقات فيها متقاربة حول غايات أساسية عامة تعلن عن السعي إلي تحقيقها من وراء الدعوة إلى التأصيل، وتتمثل في تجاوز حالات التردي التي يعيشها المسرح بين العرب، والعمل من ناحية، على الارتقاء بالممارسة العربية لهذا الفن غير المرضي على نتاجاتها من حالة التقليد والاستلاب إلى مستوي الإبداع الفعلي وتحقيق الذات، وفي السعي من ناحية، ثانية إلى بناء صلة أخرى بين الجمهور العربي وإنتاجات هذا الفن التي تتجاوز العلاقة العابرة السائدة لتصبح بمثابة العادة الراسخة في حياته والتي تجعل من هذا الفن أداة تعبير عن حاجات فعلية للإنسان العربي، وذلك على اختلاف المنطلقات الفكرية والجمالية.
ويتساءل: فكيف كانت المسالك المقترحة لتحقيقها، وكيف كان التعبير عنها؟
ويحدد (الكاتب) ثلاثة أوجه في محاولات هؤلاء التأصيليين لتحقيق (العمق المفقود) أو بناء النموذج العربي الأخر، ويمثل (الوجه الأول) بمثالين اثنين ينسب أولهما إلى (عز الدين المدني) وينسب الثاني إلى (يوسف إدريس) ولقد اعتمد (الأول) في ما ذهب إليه على أسلوب من أساليب النثر الفني العربي هو (الاستطراد) – خصه بقسم هام من نصه التأصيلي الأول) كما في «بيان حول استعمال الفضاء المسرحي في هذا الديوان أي في مسرحية «ديوان الزنج» و»ثورة صاحب الحمار» 1983 اعتبره الأقرب من ناحية التعبير عن خصوصيات الذهن العربي والأقدر، من ناحية أخرى إذا ما عولج على تحقيق فنية في الكتابة المسرحية عربية تخرج على نماذج الكتابة الغربية وتمتاز عليها (بالمرونة، والحركية، وسهولة التفاعل) ولئن أشار الكاتب إلى أنه لا يذهب إلى حد اعتبار الكتب العربية القديمة قد انفردت وحدها بخصائص هذا الأسلوب، ويستشهد بنموذج أخر من نص «الحمال والبنات» وأنه اكتسب شكلا مسرحيا مبتكرا عن طريق التركيب المرن الحركي والمتفاعل جدا والجدلي، فإنه يعمد إلى تحديد مواصفات هذه الفنية أي (النموذج) انطلاقا من استعراض معاني (الاستطراد) المُتعارف عليها منذ القدم، وفي تداخل الأغراض وتعدد الروايات للحدث الواحد إضافة إلى إدماج التعليقات والتأويلات في متن الروايات ذاتها، وأن نص مسرحية «ديوان الزنج» باعتباره تجسيدا عمليا لهذا الفنية المخصوصة .. أما (يوسف إدريس) فقد انطلق من عنصر (السامر) وأنه هو الشخصية المحورية محاولاًً أن يرسم نموذجا لشخصية كوميدية .. شخصية منغرسة في بيئتها من حيث مواصفاتها الخاصة ومن حيث موقعها من المجموعة التي تعيش ضمنها، ومن حيث الوظيفة الاجتماعية، وأن الممثل هو (فرفور) وظاهرة اجتماعية وأنه يري (الفرافير) نتاج طبيعي للمجتمعات لا يمكن أن نعيش من غيرهم (فالفرافير) هم ساعات الشعب المضبوطة، وقد أجملها (إدريس) نفسه كي يبرهن أن الساخر مختلف عن الكوميديا ديلارتي وأن (فرفور) مختلف عن الشخصيات/ الأقنعة التي تميز (الديلارتي)وأنه يقتصر على (فرفور) وحده، وأن صور التلاقي بين النوعين من الفرجة الشعبية كبير، وتجلي عنده السعي واضحا لإقامة النموذج الأخر أي (النموذج المضاد).
أما الوجه الثاني في تحقيق العمق المفقود وبناء النموذج الأخر والذي يختلف عن السابق من ظواهر التعبير التراثية ينتقيها ولا يكتفي بإحصاء مجموعة من المواصفات المميزة للفرجة والمتفرج العربي نجدها عند (سلمان قطاية) في استعراضه للظواهر التراثية فيسوقها في قائمة من الأوامر والنواهي، ولا يقتصر الأمر على حصر عدد من المشاكل تقف دون انتشار هذا الفن بين العرب في تحقيق العمق المفقود وبناء النموذج المتطلع إلي الشمول واقتراح حلول لهذه المشاكل مثلما ذهب إلى ذلك (توفيق الحكيم) في ما ذيل به مسرحية «الصفقة» مثلا، وأنه حصر المسألة في أربع مشكلات هي مشكلة اللغة ويقترح لغة تجمع بين خصائص الدارجة عند النطق والعربية عند الكتابة، ومشكلة المسرح ويقصد بها المكان ويقترح عدم التقيد بالشكل المعماري للمسرح نظرا لعدم توفر هذه المسارح في مصر والبلاد العربية بعدد كاف، ومشكلة الأداء ويعتبر أن الأداء الواقعي هو الحل لبناء مسرح مقنع، ومشكلة الجمهور والفلولكلور. ويقترح لها العمل على إيجاد مسرحية يمكن أن يشاهدها الجمهور على اختلاف درجاته الثقافية وكل ذلك يندرج ضمن استدراج الجمهور العربي إلي هذا الفن .. بينما يسعي (سلمان قطاية) إلى استقراء مجالات الموروث سعيا وراء الوقوف عما يمكن أن يمثل العمق المفقود للممارسة العربية لهذا الفن، ويعمل على التأليف بين ما يقف عليه من استنتاجات تخص المواصفات المميزة للفرجة والمتفرج العربيين تأليفاً يرتسم من ورائه مسلك التأصيل الإبداعي مسلكا متطلعا إلى تغطية الفعل المسرحي في شموله وضمان تمييزه عن مسالك الإبداع الغربي، وتتجلي في (العينتين) اللتين يعرضهما تنويعتان اثنتان لهذا الوجه في تحقيق العمق المفقود وبناء النموذج المضاد المتطلع إلى الشمول، وأولى هاتين العينين فتتمثل في ما أسماه (توفيق الحكيم) «المسرح المركز» ورغم ذلك نادي بالاحتفاظ في نفس الوقت بالخط الذي يسير في معاصرة الفن المسرحي العالمي حتى لا ننشغل عن هذا الركب الحضاري العام.. ثم إنه لم يحاول أن يكتب على منوال النموذج الذي حدده ولا أن يسحب في (قالبه) هذا في مسرحية من مسرحياته، أما (العينة الثانية) لهذا الوجه من السعي إلى تحقيق العمق المفقود وبناء النموذج المضاد فتتمثل في ما اقترحه (شريف خزندار) في نهاية نصه التأصيلي الرئيسي بالفرنسية «من أجل إعادة ابتداع تعبير درامي عربي» وفي إدماج هذا التعبير ضمن الوسائل السمعية البصرية والذي عمل استعراضا مختلفا لظواهر المسرحية التي عرفها العرب والمسلمون سواء منها ما تعلق بالأشكال التعبيرية الفنية الشعبية منها والنخبوية أو ضروب الفرجة والتجمعات الشعبية بين ما هو حي وبين ما اندثر أو في طريقة إلى الزوال، وقد ركز عنايته على النوع الأول ذاهباً إلى أن بناء نموذج للتعبير الدرامي العربي المعاصر، لا يمكن أن يعول فيه إلا على الحي من الظواهر التراثية، واعتبر أن (التعازي، والكاراكوز) هما الشكلين الأساسيين اللذين لا يمكن تجاهلهما لأنهما يؤلفا معا بعدين من أبعاد حياة الإنسان العربي لا ينفصلان وهما البعد الديني والبعد السياسي والاجتماعي ويُقدمان في مكان مفتوح، ويري المؤلف أن (خزندار) قد تجاوز حين سمح بأن يوفر لهذين الشكلين المقومات الأساسية التي يحتاجها في رأيه أي تعبير درامي وخاصة منها الفعل والفكر، وأن الجمهور يتفاعل مع التعازي ومع خيال الظل، وألح على ضرورة توفير سمة المعاصرة في التعبير المسرحي العربي فبدا ممزقا بين أمرين تحقيقهما معا غير يسير.. لأنه ألح على ضرورة أن تكون المواد التراثية حية عند الناس، ولعل هذه النقطة هي التي جعلته لا يدعو إلى التخلي عن الأشكال التعبيرية التراثية الأيلة إلى الزوال، ويدعو إلى توظيف ما هو أساسي فيها لبناء التعبير الدرامي المنشود دون أن يضبط بوضوح بين ما هو أساسي وما هو غير ذلك في مقتضيات الفرجة ومقومات الإبداع المسرحي .. لكنه جسد ذلك في عناصر (أربعة) تكون متناغمة مع خصائص المتفرج العربي، وتمثلت هذه العناصر في (المكان المسرحي)، و(الجمهور) و(التنشيط، والممثلين) و(الموضوع)، ويري المؤلف أن الناظر إلى صفات العناصر الثلاثة الأولى أنها تلتقي كلها في عدم الخضوع للمسرح المبني على الطريقة الإيطالية.. إذ أنه ضبط ميزات المكان المسرحي العربي في ثوابت ثلاثة هي: أن يكون حيزا عموميا فتجرى المسرحيات في الهواء الطلق، ولا يخضع لتحديدات نهائية، وأن يكون بين القاعة وخشبة المسرح قطيعة أي السمات النقيضة للمسرح الغربي وهندسته الإيطالية، وشروطها أن المسرح العربي في تصور (خزندار) في حركته، وأن الجمهور ليس ملزما بطقوس محددة وقت الفرجة فبإمكانه أن يأكل وقت العرض وقد يشرب، بل إنه لا يتواني عن المشاركة في الفرجة بتعليق لفظي أو حركي فهو الجمهور العفوي سلوكا ومزاجا، وهو الذي لا يمكن أن يكتفي بدور المتقبل السلبي، وكذلك (الممثلين) بحيث يكون من الصعوبة الفصل بين الممثلين والجمهور وتعويل الممثلين على الارتجال، ويشير (المؤلف) إلى أن (خزندار) خلق وظيفة (المنشط) الذي عليه يعول في المسك بخيوط اللعبة فيلفت انتباه المتفرجين، ويتدخل لتوجيه الممثلين بحكم انبناءها على الارتجال.. أما العنصر الرابع الذي يتعلق برؤية (خزندار) فيتعلق بالموضوع مستشهدا بمقال (لوي ماسينون) في كتابه «نظرية العلاقات الفنية لدي الشعوب الإسلامية» 1921 أن الفكر الإسلامي قد رفض التجسيد بالمفهوم الإغريقي الوثني ولكنه لم يرفض صور التجسيد الفني مهما كانت، وتبني كذلك مسألة حرية الإنسان في نظر المسلمين، وأنها مقيدة بالإرادة الإلهية على نقيض النظرة الغربية بعيدا عن منزلة الإنسان في الكون وبمدى رضاه ورضوخه لهذه المنزلة أو ثورته وتمرده عليها، وأن المحور الرئيسي في المسرح العربي يدور حول مواضيع المسرح العربي المنشود (الإنسان في صلته بنفسه وبالإنسان).
ويتساءل المؤلف عن مدى تحقق هذه المواصفات (للعمق الدرامي المفقود) وما مدى اكتمال النموذج الذي اقترحه، ويعترض المؤلف على رأي (خزندار) و(ماسينون) لأن السمات التي قدمها ليس فيها ما يجعلها خاصة بالعرب دون سواهم فسلوك الجمهور وطبيعة تفاعله مع الفرجة إنما هو سلوك الجمهور الشعبي مهما كانت جنسيته، وكذلك فيما يتعلق بحيز العرض وسمات الممثلين، وأن المسرح الشعبي يملك طاقات كامنة قادرة على إضفاء الحياة على هذا الفن لأنهما ليسا غريبين على المسرح الغربي المتمرد ومدارسه المختلفة حتى في نظريات (بيتر بروك) وكتاب «المساحة الفارغة» وغيره من المجددين.. لكنه يقرر في نقده لدعاة التأصيل بأن (عز الدين المدني) مثلا لا نكاد نجد صدى (للاستعارة) بشكل صريح، بينما تكاد مسرحية «الفرافير» هي التطبيق اليتيم (للفرفور) التي نادي بها (إدريس) دون بقية أعماله بينما كان (توفيق الحكيم) في قالبه المسرحي 1967، لم يسعي صاحبه إلى تطبيقه على أعماله المسرحية السابقة، ولم يتسع إلى السير على منواله في ما لحق من أعماله، ولا يكاد يختلف عنهما الذي دعا إليه (شريف خزندار) إلى النسج على منوالهما تحقيقا لتعبير درامي عربي معاصر فلقد انشغل هذا المخرج بالتنشيط والعمق الثقافي في موطنه الجديد (فرنسا) حيث أشرف على خطوط عدد من مؤسسات البث الثقافي نذكر منها (دار ثقافات العالم) بفرنسا، واقتصر عمله الإبداعي على إخراج بعض المسرحيات بين الحين والآخر كما في عرض «الاستثناء والقاعدة» في سوريا، ولا صدى فيها للنموذج المسرحي الذي إليه نظر!!
ويتساءل المؤلف فما السر في ما بدا لنا من العزوف عن السير على منوال النماذج الساعية إلي تحقيق العمق المفقود؟ أهو كامن في هذا العمق المفقود، وفي استقصاء التوفيق بين طبيعته وبين مقتضيات هذا الفن ومستلزماته؟ أم أن السر كامن في فكرة النماذج ذاتها، وينتقل (المؤلف) إلى الوجهة الثانية في حد مشاكل التأصيل الإبداعي، ليري صلته بالسابقة وبآفاق تحقيقها، والتي تتجسد في بيانات مسرح عربي جديد لدي (سعد الله ونوس) الذي ينطلق من أن الفعل المسرحي لا يمكن أن يتم دون متفرجين، وذلك باعتبار المسرح حدثا اجتماعيا، مما يجعل الكشف عن هذا الجمهور في نظر الكاتب القضية الأولي التي يستحق مواجهتها، لأن تحديد هوية الجمهور وتركيبه الاجتماعي وظروفه الثقافية ومشاكله وصور معاناته هو الذي يحدد لنا بالتالي الأرض التي نعمل عليها، والحدود التي نتحرك فيها، كما أن الخطوة الأولى في تحديد ملامح التعبير المسرحي الملائم لهذا الجمهور الذي لم يعد جمهرة من الأشباح تختفي في عتمة الصالة وجوهها، وأشكالها، والانعكاسات الداخلية على قسماتها، وتوجه (سعد الله ونوس) في تحديد سمات الجمهور العربي المعني بفعل التأصيل ينطلق من نظرة تنبذ (الإطلاقية) و(التجريد)، وتولى الانتماء الاجتماعي والانحياز الطبقي أهمية أساسية فلقد أعلن – من ناحية – أن الجمهور الذي يعنيه هو الجمهور المنتمي إلى الطبقات الكادحة، ولكنه رأي من ناحية أخرى، لزاما عليه أن يشير إلى أن المقصود من ذلك إنما هو معناه العميق لا الإدعائي.. إذ لا يكفي أن يصرح المسرحي أنه يتوجه إلى الطبقات الكادحة فتحديد الجمهور ليس لفظة للاستهلاك ولا شعار للتظاهر والنفاق الفكري (هكذا) والسياسي (هكذا).. بل هو عمل وسلوك أي أن الغاية هي العمل على توعية الجمهور بالواقع والمصير والتحريض على تغييره، وأن المسرح المنشود هو أن يُعلم ويُحفز متفرجيه.. مسرح يقلق ويزيد المتفرج احتقانا ويهيئه لمباشرة تغيير (القدر) وأنه يسعي إلى حركة مسرحية تتعلم من جمهورها وتعلمه، وإلى تنمية الوعي وتعميق إدراك الناس لمشاكلهم، والسعي إلي تجربة مسرح شعبي ملتحم بالناس، وعن شكل أصيل ومجدٍ للاتصال ..بدءا من الجمهور وأن الوظيفة وظيفة سياسية، وأن دور رجل المسرح في ما يبدع، إنما هو دور سياسي قبل كل شيء، وقد نشأ المسرح حسب تعبيره سياسيا ولا يزال، وحتى عندما يبدو غير مكترث بالسياسة فإنه يعبر عن موقف سياسي، ويؤدي وظيفة سياسية هي باختصار صرف الناس عن الاهتمام بقضاياهم المصيرية وإلهائهم عن التفكير بأوضاعهم وسبل تغيير هذه الأوضاع، والعمل على تغيير الواقع الاجتماعي في اتجاه صالح هذه الطبقات، (إنما هو وظيفة المسرح المنشود والغاية من ممارسته)، وأما وسائل الفعل المسرحي وإطاره العملي فيمكن تصنيف مجالات تصنيفها إجرائيا إلى ثلاثة: الروابط بينها متينة، وشرطها الانحياز الطبقي بالمواقف الفكرية الناجمة عنه وحميمة، ويتعلق المجال الأول الطبيعي صلة الفنان بالجمهور الذي يتوجه بنتاجاته الفنية الآنية ويرتبط الثاني بطرق التعامل مع المسرح العربي، أما الثالث فيتمثل في طبيعة الإطار الذي يتم فيه العمل الإبداعي الفعلي وشروطه، ولقد حدد (ونوس) في إطار بيان مسالك التأصيل الإبداعي الصلة التي على رجل المسرح أن يقيمها مع الجمهور الذي اختار وإليه انحاز، وأقرب ما تكون إلى الصلة القائمة في منظور (انطونيو جرامشي) بين المثقفين العضويين والطبقة الاجتماعية التي إليها ينتمون، والمتجلية في التعبير عن تطلعات هذه الطبقة وتزويده بتجانسها وبوعيها لوظيفتها الخاصة، وضرورة التحام رجل المسرح بجمهور الطبقات الكادحة، ويؤكد من ناحية أخرى على البحث الجاد عن أسلوب وشكل ولغة ملائمة لا يمكن أن يكون إلا من خلال التجربة العملية الحية والتفاعل اليومي مع (جمهور ) هذه الطبقات، وهو لا يتناول (مثلا) طبيعة التعامل مع المسرح الغربي باعتبارها مسألة نظرية، وإنما يعالجها من حيث صلتها بضرورة الممارسة الابداعية العلمية، فيبدو البت فيها بمثابة علامة من العلامات الراسمة للمنهج الذي على رجل المسرح أن يسلكه لتحقيق مسرح أصيل ومتطور، ولا ينظر إلى القوالب المسرحية الغربية الجاهزة في تعطيل عملية البحث عن (العلاقة المسرحية) المبينة على تفاعل حقيقي مع الجمهور الذي إليه يتوجه رجال المسرح، إذا ما كانت هذه القوالب الجاهزة مسلما بها، وأن معالجة هذا الأمر تمر بمرحلتين يمثلان مستويين في النظر، وأن علي الباحث عن مسرح أصيل ومتطور أن يخلص ذهنه قبل كل شيء - من كل التصورات الجاهزة المسبقة لممارسة هذا الفن، ويفتح على الممكن من خلال المعايشة اليومية لجمهور الطبقات الكادحة، ويترك جانبا الصيغ الجاهزة لئلا يعود فيسقط في دوامة الحدود النهائية لهذه اتجاهات، هو مجبر على اختيار واحد منها أو كلها دون فهم للأرضية التي سيجرب فيها اختياره ودون اعتبار لشروطها ومتطلباتها - كما عند (إدريس) الذي أشار إلي أن ننسي مفهوماتنا الأوروبية التي تعلمناها عن (أرسطو وشكسبير) وغيرهما ونقاد المسرح الكبار، وكما ذهب (روجيه عساف) في كتابه «المسرحة .. قناع المدينة» إلى أن تحقيق مسرح مختلف يتطلب شرطا أوليا قوامه في إهمال متعمد لكل ارتباطاتها المسرحية، إلا أن (سعد الله ونوس) يختلف عن أغلبهم ويرفض الانغلاق في قوالب المسرح الغربي والخضوع إلى مقتضياته دون أن يكون لذلك داع مقنع، ويطالب بالمعرفة الدقيقة بتيارات هذا المسرح والتعامل معها نقديا، والطريق الأنجح للانغراس الفعلي في عوالم الجمهور الذي يؤمن للإبداع أصالته المنشودة ويعيد إلى المسرح جماعيته وهو يشبه العمل الجماعي بكيمياء متفاعلة تعطي العناصر فيها أقصى ما لديها.. لكن ذلك لا يعني طمسا لعمل الأفراد داخل المجموعة وتحقيق أعلى درجة من التفاعل بين مختلف أطراف الفرجة، والحوار داخل المجموعة ذاتها، ويلح على منحي الممارسة في فعل التأصيل، وأن المدى السياسي هو الأهم في فعل التأصيل، ولم تكن غايته من ذلك تحقيق هدف جمالي أو تطلع ميتافيزيقي..، بل التركيز على التحفيز حتى لا يتحول المسرح إلى أداة تفريغ، وتزيد الوضع القائم رسوخا، ويقرر (المؤلف) أنه بذلك قد تأثر بـ (أرفين بسكانور) و(برتولد برخت) والتي بني عليهما مرتكزاته الأساسية في المسرح السياسي، وأن هناك صلة بينه وبين توجهات (ونوس) ورؤى (بسكاتور) في المسرح البروليتاري وأن هذا لا ينافي وجوها من الفروق بينهما.. إذ بدا تعبير (ونوس) عن انتمائه السياسي تعبيرا ضمنيا غير صريح حينما تبني (بسكاتور) الفكر الماركسي بشكل صريح وإلحاح .. بينما اقتصر (ونوس) في نصه على الإلحاح على ضرورة الخروج عن المؤسسة المسرحية التقليدية لكنه لم يعتمد في ما حدد من مسالك للتأصيل الإبداعي على تجربة شخصية مكتملة في مجال الممارسة المسرحية المنشودة، ويتساءل (المؤلف): وهل يعني ذلك وقوع (ونوس) في أسر التقليد وهو الباحث عن مسرح عربي أصيل ومتطور؟ لكن هناك ما يؤكد وعيه بما يشهد مقاربته من مزالق الوقوع في التقليد - لذا فقد اجتنب نهائيا استعراض صور وأشكال الممارسة المسرحية، واقتصر على رسم صيرورة الفعل المسرحي وبيان أسس هذه الصيرورة وعلاماتها، ودعا بصراحة إلى ترك الصيغ الجاهزة للمسرح، وألح على ضرورة العمل على تشريك جمهور الطبقات الكادحة، ويري أن ما يضفي على خطاب (ونوس) انسجاما أكبر ومصداقية أوضح في هذا المجال هو عدم ربطه تحقيق ممارسة أصيلة للفن المسرحي بشرط الاختلاف مع المسرح الغربي لا لشيء إلا لأنه غربي، وهذا الموقف يُنزل توجهات (ونوس) من ناحية، في إطار عدد من المسرحيين في العالم سعوا ويسعون إلي تحقيق درجة من الجدوى والنجاعة لهذا الفن يصبح معها فاعلا وفعالا، ويحد من ناحية أخرى مسالك التأصيل الإبداعي التي عددها وكأنها استجابة للدعوة الضمنية التي ضمنها (بسكاتور)، ولكنه يلح إلحاحا خاصا على ربط خصوصياته الاجتماعية وميزاته الثقافية، وهو ما يؤكد تطلع (ونوس) في خطابه إلى تحقيق صور أخرى من المسرح السياسي التي تختلف عن (بسكاتور)، ولكنه لا يريد قطيعة تامة معه وهو لا يريد أن يفرط في التجربة المسرحية التي عرفتها الإنسانية، ولا يريد أن يقع في الآن ذاته، تحت وقع الاستلاب الناجم عن فعل التقليد، ويعتبر الانسياق إلى السعي إلي تحقيق الاختلاف مع الغرب لا لشيء إلا لأنه غرب ليس إلا صورة من صور (الشيفونية) وشكلا من أشكال الانغلاق لا يقل إساءة إلى الإنسان العربي وثقافته من الانسياق إلى تقليد فن من الفنون دون وعي بالداعي إليه ولا بالغاية منه، وتتجلي ممارسة (الحق في الاختلاف) مشروطة بتنزيلها في إطار الحركة التاريخية التي لا يمكن أن تكون غير مشروطة بتنزيلها في إطار الحركة التاريخية التي لا يمكن أن تكون من غير الانتماء الاجتماعي والثقافي، ومن غير الاندراج ضمن التجربة البشرية.


عبد الغنى داوود