العدد 784 صدر بتاريخ 5سبتمبر2022
من العروض التي شاركت في المهرجان القومي للمسرح في دورته الأخيرة (15) وأراها مهمة جدًا، وتستحق إلقاء الضوء عليها، بل أنني أتمنى أن يتم تقدمه للجمهور، هو عرض “المطبخ” لفرقة (1+1) والذي شارك في المهرجان في إطار العروض الحرة والمستقلة، تأليف وإخراج محمد عادل، بطولة لبنى المنسي، ليلة مجدي، أحمد شكري، أحمد عادل.
“هل يضر الشاه سلخها بعد ذبحها” هذه العبارة هي مفتاح شخصية بطلة العرض التي تجسدها “لبنى المنسي”، فهي لم تذبح فحسب بل هي ممزقة تمامًا مثل أوراقها التي تكتب عليها هذه المشاعر الممزقة، فانتهكت طفولتها في ظل أسرة تفرق بين الولد والبنت في التعامل بين أب قاس وأم سلبية تضمد جراح البنت الناتجة عن عنف الأب مع تبرير هذا العنف، وعم يرتكب معها أبشع جريمة “زنى المحارم” فيعتدي عليها أثناء نومها تاركًا آثار عنفه على جسدها، وأخ مدلل يحكي عن علاقاته ومغامراته من دون خجل أمام الأم والأخت يجسد شخصيته “أحمد عادل”، تعتقد أن زواجها وانتقالها إلى بيت آخر سيجعلها تحيا حياة أفضل، لكنها تقع في براثن رجل أناني لا يهتم بشئ سوى الطعام والجنس يجسد شخصيته “أحمد شكري”، يتعامل معها باعتبارها آداة لتوفير احتياجاته فحسب، على الرغم من كونه يعاني من مشكلات تجعله غير قادر على إسعادها أو حتى إسعاد نفسه، فهو دائم التعنيف لها واتهامها بالبرود، وهي دائمًا ما تضطر للإستسلام له بعد فشل محاولاتها في الهروب من هذه اللحظات المؤلمة بالنسبة، فتخبئ تحت الأريكة أو في المطبخ التي تقضي به معظم الوقت فهو المكان المحبب لها، بينما تكره الولوج إلى غرفة النوم التي تعتبرها مكان التعذيب.
في الوقت نفسه لا تعترض على أي شئ فتتعامل معه بلامبالاة وهدوء مستفز لدرجة أنه أحضر فتاة ليل إلى فراشها تجسد شخصيتها “ليلة مجدي”، ولم تعترض بل أقامت علاقة مع هذه الفتاة لدرجة أنها أصبحت تحضر لزيارتها أثناء وجوده في العمل، بل وتتهرب منه هي الأخرى بسبب أنانيته في هذه العلاقة غير المتكافئة على الرغم من كثرة المال الذي يدفعه لها مقابل بخله الشديد مع زوجته، كما أنها تعاطفت مع هذه الزوجة المقهورة فنجحت في جعلها تتمرد على هذه الحياة وتقرر أن تخرج منها بالهدوء نفسه الذي عاشته بها.
لم تقتصر شخصيات العرض على هذا الثلاثي، بل يوجد شخص رابع هو شقيق الزوجة الذي يتظاهر بالحب والاهتمام المتمثل في زياراته لها وهداياه، لكنه حين يطالب الزوج بحسن معاملتها ويرد عليه بفجاجة من أمن العقاب فأساء الأدب مهددًا إياه بأن يأخذها معه، فلم يكتف بخروجه من المنزل تاركًا شقيقته في الجحيم الذي تعيش فيه فحسب بل أخذ هداياه معه.
يحسب للعرض تناوله لقضية غاية في الأهمية هي “العنف ضد المرأة” بالهدوء نفسه الذي تطرح به، فلم يستخدم مفردات مثل “فيمانيست، النسوية، حقوق المرأة” كلمة العنف نفسها لم تذكر ولا مرة أثناء العرض، ولا أية مفردة من المفردات التي تستخدم في الترويج للقضية، ولم يستخدم الصوت المرتفع ولا الموسيقى الصاخبة والإضاءة الساخنة، بل أنه نجح في توظيف وتكامل كل مفردات العمل في إحداث رتابة وملل وبرود وهو ما يشكل طبيعة هذه العلاقة، بل أنه نجح أكثر في عدم تسريب هذا الملل للمتلقي بل انه حافظ على استمرار شعوره بالدهشة طوال زمن العرض.
إضاءة أبو بكر الشريف زرقاء باردة، موسيقى معتز الأدهم هادئة، الآداء التمثيلي خاصة البطلة غاية في الهدوء والصوت المنكسر، الملابس التي صممتها البطلة “لبنى المنسي” بألوان باهتة ولم تستبدل سوى في المشهد الأخير وهو مشهد الخروح، باستثناء فتاة الليل، الأوراق الممزقة التي لم يلتفت لها الزوج ولم يرها إلا بعد خروج الزوجة، الديكور الذي صممته ببراعة سلمى أبو الفضل فهو عبارة عن قطعة واحدة “أريكة” واحدة طرفاها غير متسقان بها ارتفاع وانخفاض موضوعة في المنتصف يحيطها الفراغ من جميع الجهات تعبر عن فقدان الراحة والاستقرار، كذلك الحوار بين الزوجين جمل بسيطة تتكرر طوال العرض.
هذا العرض الذي يتسم بالبساطة في كل مفرداته وعمق ما يقدمه من قضية ودلالات وأسلوب طرح، يثبت أن لدينا مواهب حقيقية لا زالت لم تأخذ فرصها، وأن بعض الهواة أكثر احترافية من المحترفين، وأن الفن الحقيقي لا يحتاج إلى ميزانيات ضخمة.
جدير بالذكر أن العرض رشح لسبعة جوائز بالمهرجان القومي للمسرح، وحاز على خمسة وهى أفضل ثاني عرض بالمهرجان، أفضل مخرج صاعد لمحمد عادل، أفضل مؤلف مسرحي لمحمد عادل، أفضل ممثلة صاعدة لبنى المنسي، وأفضل إضاءة أبو بكر الشريف، بالإضافة إلى ترشح ليلة مجدي لجائزة أفضل ممثلة دور ثان، وترشح معتز الأدهم لجائزة أفضل موسيقى.