آخر 15 ثانية.. عرض استثنائي يدين الإرهاب ويثبت أن المبدع لا يموت

آخر 15 ثانية.. عرض استثنائي يدين الإرهاب ويثبت أن المبدع لا يموت

العدد 790 صدر بتاريخ 17أكتوبر2022

يوم الجمعة الموافق 11 نوفمبر 2005 وقع حدث جلل هز العالم كله، هو انفجارات عمَان التي راح ضحيتها المخرج والمنتج العالمي العربي الأصل مصطفى العقاد وابنته ريما في يوم زفافها، للأسف وقت هذا الحدث كنت أسيرة أحزاني على ضحايا محرقة بني سويف والتجربة المريرة التي عيشتها حيث كنت أحد الناجين من هذه المحرقة، إلى أن جاءت الدورة 29 لمهرجان القاهرة التجريبي والتي انتهت فعالياتها مؤخرًا، حيث شاركت كندا بالعرض المسرحي الذي قدم على خشبة مسرح الجمهورية ويحمل عنوان (آخر 15 ثانية)، للمخرج الكندي مجدي أبو مطر، إنتاج  (إم تي سبيس) والذي يتناول هذا الحدث لأجد نفسي ليس أمام عرضًا مسرحيًا مميزًا فحسب، لكن أمام وقائع لابد من معرفة كافة تفاصيلها، بداية من السؤال الأهم من هو مصطفى العقاد ولماذا استهدفه الإرهاب؟
 والإجابة ملغزة جدًا فمصطفى العقاد أنتج واحدًا من أهم أفلام السينما العربية والعالمية هو فيلم الرسالة عام 1976، الملحمي الذي يحكي قصة نزول الإسلام وصور السنوات الأولى له وحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، هذا الفيلم الذي جعل عدد كبير من الأمريكان يعتنقون دين الإسلام، إذن هو رجل مسلم متدين، كما أنه أنتج فيلم اسد الصحراء عام 1981 الذي يتناول قصة كفاح المناضل الليبي عمر المختار الذي جسد شخصيته أنتوني كوين، فهو أيضًا مؤمن بقضية الحرية والنضال ضد أي مغتصب فهو وطني عروبي، وكان يستعد لإنتاج فيلم عن صلاح الدين الأيوبي وهو أيقونة من يرفعون راية الإسلام، ويوجدون لأنفسهم المبررات للقتل والدمار وهم من ارتكبوا هذه الجريمة الشنعاء.
إذن هناك لغز ومن خلال هذا العرض المسرحي وضع المخرج مجدي أبو مطر يده على هذا اللغز وفك طلاسمه، ألا وهو الخيط الدقيق الذي يفرق بين التدين والتطرف، كذلك دور الأسرة فقد جعل أسرة القاتل هي نفسها أسرة القتيل: حيث جسدت ندى حمصي السورية ( أم العقاد وجدة رواد )، وجسدت بام باتيل الهندية الكندية ( ريما ابنة العقاد وساجدة زوجة الإرهابي رواد )، بو باردوس المجرية الكندية ( باتريسا زوجة العقاد الأولى، أم ريما وأم الإرهابي رواد)، وخلق حوارًا متخيلاً بين القاتل والقتيل ليتبين لنا كيف يتولد الإرهاب والأفكار الهدامة في ظل أسرة بسيطة، هي نفسها التي تنجب إبنًا بارًا مثقفًا هو مصطفى العقاد، وجسد شخصيته الفنان اللبناني بديع ابو شقرا، كما جسد  تريفور كوب الكندي ( رواد الإرهابي العراقي الذي فجر الفندق وقتل العقاد وابنته) فتلقيان الأفكار سواء كانت الإيجابية أو السلبية ينبع من الأسرة أولاً، والأسر في كلتا الأحوال تنشأ أبناءها على التدين الفطري ثم يلتقط تجار الدمار وصانعي الإرهاب الأسود من لديه الاستعداد للسير في هذا الاتجاه على أمل الفوز بالجنة وحوريات العين، ففي النهاية القاتل والقتيل ضحايا الأفكار الهدامة.  
على مستوى الفكرة، فقد تناول العرض موضوع الإرهاب من خلال قصة مصطفى العقاد منذ ولادته حتى لحظة وفاته، كما حكى قصة القاتل الذي قام بتفجير نفسه.
معتمدًا على حوار فلسفي شديد الثراء والعمق، كذلك السرد الذي قام به كل فريق التمثيل، معتمدًا علي تقنية الفلاش باك التي أوجدت مساحات من الكوميديا على الرغم من قتامة القصة وبشاعة الحدث، معتمدًا على المونتاج وكأنه أراد أن يقول لو أن مصطفى العقاد هو الذي أخرج هذا العرض سيكون هكذا، فالسينما تعمل على مستويين: مستوى السرد الذي يتناول النهاية ثم يعود للبداية، ثم لمنتصف الأحداث، مع تحويل الحوار المتخيل إلى حكي للسيرة الذاتية، ثم العودة مرة أخرى لحكي افراد الأسرة وهكذا، المستوى الثاني هو ما يدور من أحداث على الشاشة السينمائية التي تقع في عمق المسرح.
فلعب المخرج بالكلمة والصورة والتقنيات السينمائية، ولم يكتف بذلك فاكتملت عناصر السينوغرافيا بقطع الملابس المعلقة في العمق، وهي ما تبقى ممن رحلوا وشاهدة على كل التفاصيل وتلطخت بالدماء تارة واشتعلت بها النيران تارة أخرى وهي في ذات الوقت الشاشة السينمائية نفسها.
    وفي اختياره للمثلين أيضًا نجده يسلك الطريق نفسه الذي سلكه العقاد في اختيار أبطال فيلم الرسالة حيث جمع الممثلين من جنسيات متعددة، فجاء بهم من سوريا وكندا والعراق ليؤكد أن العقاد لم يمت ببقاء فنه وأفكاره، وفي الوقت نفسه يثبت أن العالم كله يدين الإرهاب ويرفضه وليس العرب فقط.
لقد غزل المخرج الراحل مجدي أبو مطر بهذا العرض قطعة فنية شديدة الثراء، جمعت بين ألوان متعددة من الأفكار غير التقليدية واللعب بالتقنيات المسرحية والسينمائية معًا وآداء ممثلين قادرين على التوحد مع الشخصيات التي يقدمونها والانتقال من شخصية إلى أخرى ليقدموا مباراة تمثيلية ودرس عملي في فنون الآداء الحركي والتمثيلي والرقص والغناء، بل والاعتماد على المستويات المختلفة للصوت وتوظيفها حسب ما يتطلبه الموقف، خاصة ندا حمصي، والتأكيد طوال الوقت أنه عمل لمصطفى العقاد لا عنه فحسب.
(آخر 15 ثانية) ليس عرضًا تجريبيًا فحسب، لكنه عرضًا -من وجهة نظري- يصلح لأن يطلق عليه عبر نوعية لما يتضمه من أفكار ورؤى جديدة ربما لم تطرح من قبل.


نور الهدى عبد المنعم