«الساعة الأخيرة» الإنسانية بكل تناقضاتها من دون أحكام مطلقة

«الساعة الأخيرة» الإنسانية بكل تناقضاتها من دون أحكام مطلقة

العدد 571 صدر بتاريخ 6أغسطس2018

حين يتناول عرض مسرحي القصف الذرّي على هيروشيما وناجازاكي الذي شنته الولايات المتحدة ضد الإمبراطورية اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1945، من خلال شاشة تلفزيونية، وكذلك الحوارات التي وضحت تفاصيل أبشع جريمة عرفها التاريخ وهي استخدام قنابل نووية لضرب اليابان بسبب رفض رئيس وزرائها سوزوكي تنفيذ إعلان مؤتمر بوتسدام، وكان نصه أن تستسلم اليابان استسلاما كاملا بدون أي شروط، وتجاهله المهلة التي حدَّدها الإعلان. وبموجب الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس هاري ترومان، قامت الولايات المتحدة بإطلاق السلاح النووي الذي أطلقوا عليه عملية (الولد الصغير) على مدينة هيروشيما (يوم الاثنين 27 شعبان عام 1364ه الموافق 6 أغسطس عام 1945م). ثم تلاها إطلاق قنبلة (الرجل البدين) على مدينة ناجازاكي في التاسع من شهر أغسطس. وكانت هذه الهجمات هي الوحيدة التي تمت باستخدام الأسلحة النووية في تاريخ الحرب.
ويظل المتلقي ملتصقا بمقعده دون حراك متابعا لهذه التفاصيل والأحداث من دون ملل، فلا بد أن يكون وراء ذلك نص محكم كتبه عيسى جمال الدين، ومخرج يمتلك رؤية وخبرة وتاريخا مسرحيا يشهد على عبقريته هو ناصر عبد المنعم الذي قدم لنا وجبة تاريخية فنية وإنسانية بعناصر وأدوات بسيطة جدا من دون تقعر ولا بهرجة، بدأها باختيار العناصر التمثيلية وتوظيفها كل في موضعه، وإذا حاولنا تخيل ممثل آخر بديل عن أحد الممثلين الذين شاركوا في العرض لم نستطع، ثم تكنيك الديكور للفنان محمد هاشم - الذي صمم الملابس أيضا - الذي اعتمد فيه على مستويين الأول يمثل المنزل والثاني عبارة عن مرتفعات غير متساوية يتم فيها استدعاء شخصيات من الماضي ويفصل بينهما ستار من التل، وتدور فيه كل أحداث الماضي، أما منزل ولسن توماس فقد فصل بينه والجمهور في بداية العرض ستارة مماثلة للتعبير عن العزلة التي يعيش فيها، هذه العزلة لم يخترقها سوى سام الذي يحيا في نفس زمن العرض وكذلك الزوجة التي تمثل موقف كل امرأة سواء زوجة أو أم أو أخت من هذه الجريمة الشنعاء في حق الإنسانية، وأخيرا سالي التي تعبر عن موقف الشعب الياباني من هذه الجريمة والمستمر عبر كل الأزمان.
قتلت القنابل ما يصل إلى مائة وأربعين ألف شخص في هيروشيما، وثمانين ألفا في ناجازاكي بحلول نهاية عام 1945، حيث مات ما يقرب من نصف هذا الرقم في نفس اليوم الذي تمت فيه التفجيرات. ومن بين هؤلاء، مات 15: 20 ? متأثرين بالجروح أو بسبب آثار الحروق، والصدمات، والحروق الإشعاعية، يضاعفها الأمراض، وسوء التغذية والتسمم الإشعاعي. ومنذ ذلك الحين، توفي عدد كبير بسبب سرطان الدم (231 حالة) والسرطانات الصلبة (334 حالة)، تأتي نتيجة التعرض للإشعاعات المنبثقة من القنابل. وكانت معظم الوفيات من المدنيين في المدينتين؛ مما اضطر اليابان أن تعلن استسلامها لقوات الحلفاء. حيث وقعت وثيقة الاستسلام في الثاني من شهر سبتمبر، مما أنهى الحرب في المحيط الهادي رسميا، ومن ثم نهاية الحرب العالمية الثانية. كما وقعت ألمانيا وثيقة الاستسلام في السابع من مايو، مما أنهى الحرب في أوروبا. وجعلت التفجيرات اليابان تعتمد المبادئ الثلاثة غير النووية بعد الحرب، التي تمنع الأمة من التسلح النووي.
ورغم هذه الخسائر الفادحة واللإنسانية نجد الجمهور متعاطفا مع الطيار توماس ولسن الذي قاد الطائرة وألقى بالقنبلة على شعب أعزل لم يقترف ذنبا، ويبكي معه متأثرا بندمه ووحدته وما أصابه من أمراض في أيامه الأخيرة، وبنفس القدر من التعاطف يبكي مع سالي الكفيفة التي اعتقدت أن توماس ملاكا وسوف يعيد لها بصرها متأثرة بصوت الانفجار الذي سمعته والضوء الشديد الذي استطاع أن يخترق حدود فقد البصر، فيبكي مع بكائها حين تعلم بحقيقة الأمر وأن ما اعتقدت أنه ملاك ما هو إلا مجرم أثيم.
تناقض عجيب وضعنا فيه المخرج أن نتعاطف ونبكي مع القاتل ومع القتيل معا، لا شك أنها مباراة تمثيلية أداها ببراعة فائقة كل المشاركين فيها؛ معتز السويفي الذي ظهر في مشهدين صغيرين في بداية العرض ونهايته التي كانت فارقة فهي المرة الأولى التي لا ينتهي فيها العرض بموت البطل ليأتي من يصلي عليه ويتعاطف معه ويكمل القصة التي لم تنتهِ بموت البطل لأننا ما زلنا نحيا فيها حتى هذه اللحظة، قدم معتز شخصية سام التي عبر من خلالها عن موقف الشعب الأمريكي المعتدل من توماس ولسن والمتفهم لموقفه بعد وفاته، لأنه عانى في حياته من الوحدة وكراهية الناس له التي لم تتحمل حتى رؤية تمثاله الذي نقل من أشهر الميادين إلى حديقة منزله ثم أجبروه جيرانه على نقله إلى الداخل. محمد دياب الأب السكير الذي قتل غريمه وتسبب في موت زوجته وقُتل على يد ابنه الطفل الذي لم يتجاوز عامه السادس، ثم شخصية القائد الأمريكي من دون خلط بين الشخصيتين، نائل علي (شارل سويل) غريم توماس في كل شيء، الذي عاش نفس التجربة وتجرع مرارتها ومات قبل أن يصل إلى الدواء وهي نفس نهاية توماس. نورهان أبو سريع مدرسة الطفل توماس، ثم الزوجة والأم كريستين التي ترحل بطفلها والتي ظهرت لأول مرة بنضوج واضح جدا في طبيعة الشخصية التي تقدمها فلم تعد الطفلة أو البنت الصغيرة، وإنما زوجة وأم وهي شخصيات جديدة عليها، وكذلك نضوج الأداء الذي أكد توقعاتنا بميلاد نجمة مع أدوارها الأولى ومن المؤكد أننا سنراها في أعمال قادمة وقد أصبحت أكثر نضوجا. محمود الزيات في شخصية جديدة أداها باحترافية عالية كعادته، علمية جادة (أوبن هايمر) صاحب فكرة استخراج اليورانيوم من الطبيعة وبعد أن نجحت فكرته وجاء وقت التنفيذ رفض وقال نحن من نزرع الكراهية بين الشعوب، لكنه استسلم في النهاية. محمد حسيب أجاد في أدائه لدوري «القائد» و«هندرسون» مدير المدرسة. سامية عاطف الأم إينونا وسالي اليابانية التي أدته ببراعة واقتدار. وأخيرا بطل العمل النجم الكبير شريف صبحي الذي يتم اكتشافه من جديد مع كل عمل يقدمه.
رقصة شريف ونورهان التي أدياها ببراعة ورشاقة وحالة جميلة من الرومانسية والحب، وكذلك شخصية سام التي يجسدها الفنان معتز السويفي بمرح وخفة ظل، خففا من ثقل المعلومات والمصطلحات العلمية التي تخللت العرض.
عوامل أخرى عملت على نجاح العرض: المادة السينمائية للفنان حازم مصطفى، الموسيقى التي أعدها أحمد حامد، الإضاءة الهادئة لطارق عليان ومحمد عشري.
عدة أسئلة نطرحها على أنفسنا بعد مشاهدة هذا العرض: لماذا وما المقصود من تبرير الجريمة والتعاطف مع الجاني والمجني عليه في الوقت ذاته؟ مواجهة أمريكا بأبشع جريمة حدثت في التاريخ، أم التعاطف مع اليابان؟
إنها الإنسانية بكل تناقضاتها والنفس البشرية بما تحمل من خير وشر من دون أحكام مطلقة، هكذا رأيت العرض ومن المؤكد أن كثيرا غيري لهم آراء مختلفة، لكننا اتفقنا جميعا على الاستمتاع بعرض مسرحي مكتمل البناء.


نور الهدى عبد المنعم