العدد 846 صدر بتاريخ 13نوفمبر2023
كما هو معروف فإن نظرية التلقي في الأدب عموما تعتمد مفهوم القارئ،لأنها تسعى إلى إعادة تقييم دور هذا الأخير،والتركيز على العلاقة القائمة بينه وبين العمل الأدبي المدروس. النص عنصر متحول مما لاشك فيه إذن.
وعملية القراءة النقدية لها مرحلتين: مرحلة استجماع المعنى ومرحلة الدلالة التي تمثل مرحلة الاستيعاب الايجاب للمعنى بواسطة القارئ كمتلقي أو للنص المسرحي قبل عرضها غالبا.
إن أية قراءة نقترحها نموذجا لمقاربة النص المسرحي ينبغي أن تتلاءم إلى حد كبير مع المفاهيم والتصورات التي تصدر عنها التنظيرات المسرحية الحديثة.كما أن فعل القراءة هو الذي يخرج العمل من حالة الإمكان إلى حالة الإنجاز. والنص المسرحي فعل تخييلي يقيد تشكيل الواقع المعيش استنادا إلى رؤية فنية دراماتورجية تعكس المنظور الفلسفي للمؤلف.
فبناء معنى النص المسرحي لا يتحقق لها بعد تدخل ومشاركة القارئ الذي يعد بنية تجريبية موجودة بشكل مسبق في هذا النص الذي يضم عملية تجريبية موجودة بشكل مسبق داخل عوالمه النصية.
ولا ننسى أن عملية القارئ لها اتجاهين: من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص. هو القارئ إذن، الذي يتلقى النص الذي أضيفت عليه أبعادا جديدة قد لا يكون لها وجود في مخيلته التي تتلقى العمل ورقيا قبل تلقيه مشهديا في غوص للخطاب المسرحي المتنوع.
إن الخطاب المسرحي هو خطاب فني مفارق،حيث هو انتاج أدبي وعرض متحقق في الآن ذاته،غير إن هذا التداخل أصبح اليوم مسألة متجاوزة،خصوصا وأن الممارسة المسرحية الحديثة قد أعادت الاعتبار للنص المسرحي واعتبرته المنطلق بغض النظر عن عملية التدوين أو الطبع أو النشر.
إن الخطاب المسرحي في بعديه النصي والركحي يعتبر مجالا يصعب على المقاربات والقراءات النقدية مهما بلغت نضجها النظري والمنهجي والتطبيقي رصده وتحليله. وسنركز على البعد النصي في أعمال بعينها ما دام العرض المشهدي له سمة ثابتة: الغموض. هل كتب النص الدرامي حصريا من أجل عرض ما.
سنحاول التطرق هنا إلى ثلاث نصوص مسرحية للكاتب محمد زيطان في بعدها الرمزي وتشكيلاتها الجمالية وملامسة خطابها المسرحي الذكي. فمن يستطيع أن يضمن النتيجة؟ما المسرح؟هل هو نتيجة؟هل هو الكفاءة في إصابة قلب وذهن كل متفرج على انفراد؟نتحدث عن نوع ما من تقنيات الرسالة.
يتحدث أرثور كوستلر في كتابه «المشي أثناء النوم» ويبرهن على أن كل فعل إبداعي سواء في العلم أو في الفن أو في الدين يتم من خلال الرجوع التمهيدي إلى الوراء إلى ذلك هي عملية:(Reculer pour mieux sauter ) المستوى الأكثر بدائية: الرجوع إلى الوراء للقفز بشكل أفضل. نفي أو انفصال، تهييء للقفز نحو النتيجة يسمي كوستلر هذه اللحظة،ما قبل شروط الحالة الإبداعية.
يحدد بعض الكتاب المعاصرين ماهية العمل من أجل النص والعمل مع النص ويفرقون بين كل عملية دراماتورجية مقتنعين بما سماه البعض ب: «دراماتورجيا القارىء» والذي يشارك في الكتابة بشكل ما.
يؤكد الكاتب محمد زيطان بأن: «الدراماتورجيا لا ينبغي أن تنزاح على البعد الفكري والجمالي وإلى الطرح الدرامي العميق. فما المقصود بالدراماتورجيا؟ الدراماتورجيا هي كتابة نص جديد...نص يتحقق مشهديا.
هي فعل مسرحي بدأت إرهاصاته في أعمال كل من «بريشت» و«كانتور»ـ و«هاينر موللر» و«ولفغانغ فاينس» وآخرين ممن يتمتعون بـ«ذهنية دراماتورجية» على حسب تعبير الناقد الفرنسي «برنار دوت».وهي ذهنية تنبني على العمل الميداني والانخراط الفعلي في التجربة المسرحية لملامسة هواجس كل من الممثل والسينوغراف والمخرج جميعهم. وعلى استيعاب الإكراهات التي تفرضها أفضية العرض وطبيعة المتلقي على المنجز المسرحي سينوغرافيا وإخراجيا. ذهنية تتطلب خبرة بكواليس المسرح،وفهم لأجواء ما قبل العرض وأثناء العرض وبعده.
محمد زيطان هو كاتب من مواليد 1978 من مدينة شفشاون، والذي دخل المسرح من بابه الواسع في المشهد الشفشاوني الزاخر وقتها. وفكرة الغوص في نصوصه منبعها هو تعرفي على كتاباته وهو في أول اقتباس لنص المذكرات الشيطانية الذي شكل طفرة فنية في المسرح الشمالي والمغربي والعربي وقتها. له الكثير من الأعمال المسرحية والأدبية،آخرها عرض مقال افتتاحي الذي ألفه وأخرجه مؤخرا. يعمل مكونا بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين جهة الدار البيضاء-سطات فرع الجديدة، وحاصل على شهادة الدكتوراة في تيمة المسرح في سياق العولمة الثقافية: دراسة تحولات الفرجة المسرحية بالمغرب. سنة 2015.
والأعمال المختارة هي ثلاثة وهي على التوالي:
سيدة المتوسط والذي نشر سنة 2011،ومقال افتتاحي وهو نص نشر سنة 2019،وأخيرا نص إكليل الجبال الريفية الذي صدر في 2013 بسنوات متباعدة لتنقل التطور الدراماتورجي لكاتبنا الشاب عبر مساره المسرحي الذي بدأه ممثلا واستمر فيه كاتبا ومخرجا.
وهنا سنناقش التيمات التي ناقشتها النصوص وما نراه في تشكيل فني جمالي لكل نص على حدة. بحيث أن كل نص تميز بتيمة أو تقنية فنية مختلفة اقتضتها ظروف الركح أو الرؤيا الأدبية للكاتب.
سيدة المتوسط: للصمت طعم الضجيج أحيانا.
الصمت هو عبارة عن غياب كامل للصوت،أو جزئي لمنابع الصوت. غياب الصوت إذن لا يعني بالضرورة أنه ليس هناك تواصل. هو وسيلة لتقييم الرسالة التي يطمح الفنان أو المبدع أن يوصلها.
الصمت يأتي مع التردد. وله وجوه عديدة: صمت صريح وصمت خفي.،هو استثمار بألا تقول الشخصية أكثر من الكلام الذي لا يكشف النوايا بل يخفيها. أما الصمت في الدراما له معنى درامي تنطوي عليه عناصر العمل المسرحي،حيث تصبح الصيغ الحوارية مع نوع الصمت شكلا هاما لتجسيد التصادم،ولحظة إشارية للفعل والموقف والإرادة. هو لغة لها خصائصها التعبيرية على مستوى الأدب في جميع أجناسه،وعلى مستوى الفنون في خصائص بنائها. الدراما من أكثر الأجناس التي تحتاج إلى الكلام،والصمت لغة نصية يمكن أن تفعل لغة الدراما.
فلغة المسرح لا تقتصر على الوحدات اللغوية الصوتية المنطوقة فحسب،بل الاهتمام بالإشارات وفترات الصمت. إذ الصمت في المسرح فضاء لاستقراء المسكوت عنه.
مقاطع الصمت بالنص:
بالمشهد الرابع: السيدة الحرة: أحب هدأة الليل وهذا الجبل-صمت- الكهل يغني بصوت خفيض.(ص:41)
المشهد الرابع:
السيدة الحرة:-بعد صمت قصير-قد قررت الخروج بنفسي إلى القتال..(ص:43)
الفصل الثالث: المشهد الأول:
غابرييل: -بعد صمت مهيب- عذرا أيها الدراج.. كتابك لم يجد سبيله إلى السيدة الحرة،لكن اطمئن سأموت وهو في مأمن عن الماطاموروس ورجاله..عله يأتي يوم يكتشف أحدهم مخبأه..(ص:52)
فيشهد بعبقرية صاحبك القرطبي-بعد صمت-تدخل مرجانة/الط يف تغني بصوت عذب.(ص:53)
يوظف الكاتب الصمت كإستراتيجية لتوليد المعاني بنصه،باعتبار النص الحديث فضاء خصب للإستراتجية الخطاب الضمني لإشباع حاجة ولوج العمق في الشخوص الزاخرة بالتضمنيات. ليحضر الصمت كما أشرت أعلاه،حتى بدا لي وكأنه شخصية ما تشارك في البناء الدرامي. هو فاصلة لحوارات له معنى درامي لتجسيد التصادم بين الضفتين ولحظة إشارية للفعل والموقف والإرادة. حيث تعددت مدة الصمت بين (صمت) و(صمت قصير)،و(صمت مهيب).وجاء كعلامة من عناصر البناء اللغوي التعبيري والحواري بين حوارات تكون فيها الجمل الملفوظة لا تعبر بشكل كاف أو محملة بالقوة والتأمل.الصمت حضر لشارك في بناء المسرحية وعناصرها وبناء علاقتها. وجاء إلى جانب الكلام كاستثمار لما لا تقوله الشخصيات وما لم تسمح به الحوارات القصيرة التي فرضتها طبيعة النص وهذا شكل من أشكال وعي زيطان بخصائص المسرح المعاصر الذي يتعامل مع الصمت لتوليد المعنى وهو قاطرة مفيدة تبرز قدرة المسرح على الالتقاط من جوهر التجربة البشرية ما هو غير منظور فيسلط عليه الضوء ليصبح وجودا بارزا ومؤثرا ويأخذ بعدا فلسفيا تجريبيا.كما لا ننسى تأثر الكاتب بالكاتب الإسباني غارسيا لوركا الذي كان سباقا إلى استعمال لغة الصمت في أعماله.
الصمت لا يوجد... في الخشبة يحدث روحي،وقادر على ملامسة الناس أكثر من أي كلمة كما قال مارسيل مارسو.
مقال افتتاحي:الشعر والآخر لتحرير السقوط الحر لأبطال من ورق.
أما نص مقال افتتاحي الصادر عن مسرح المدينة الصغيرة سنة 2019 في إطار توطين فرقة مسرح المدينة لمدينة مشرع بلقصيري لموسم 2019 بدعم من وزارة الثقافة والشباب والرياضة عن مطبعة الخليج العربي بتطوان.
فلقد استغل شعر فرنسي:للشاعر جاك بريفير Jacques Prevert (1900-1977). شاعر وكاتب.تميز بأسلوبه البسيط التلقائي وما عرف بالرتابة الماكرة. كتب أفلام أهمها:أفطال الفردوس،أحدب نوتردام.وبعد انتشار البنيوية الشكلانية في الشعر الفرنسي،عرف عودة للشعر الغنائي.
نعرف جيدا أن هناك علاقة تكاملية بين الشعر والمسرح:كل واحد مكمل للأخر ويضيف له ما يضيف من الجماليات ومتعة الحضور.للشعر له القدرة على الإدهاش ولفت الانتباه.كما أن فعل الممثل مثل الصفة عند الشاعر،إن لم يبث الحياة،يقتل.والشعر هو صراع الكلمات مع معانيها يقوم الممثل بالفعل من خلال نفي الفعل.
مقاطع الشعر بالنص:
البدء بمقطع من قصيدة الأوراق الميتة. وبالصفحات التالية:ص:18 -ص:96 .
نسجل أن لللغة الأجنبية حضورا لافتا.وحضورا ملحوظا لألفاظ ألمانية.
والمسرح ارتبط بالشعر منذ بداياته،وهما حصانان من دم جنية كما صرخ جان كوكتو الكاتب الفرنسي ذات دهشة إبداعية.وحتى لو تحرر المسرح من الشعر مع ثورة الحداثة وصار النثر هو الطاغي فالعلاقة لم تنقطع بينهما.
إن لحظة التقاء الشعر مع المسرح لحظة خاصة عند كاتبنا يتخلى فيها كل منهما عن بعض سماته ليتجاوزا حدودهما الموروثة،فيتخلى النص الدرامي عن كثافته وانشغاله بالخارج،متيحا للأوهام والتخيلات مستعيرا أوهاما لها قوة التجسيد وواقعا جديدا مليئا بالشراسة والمفاجأة التي تستعار من الشعر.كما في نصوص شكسبير وموليير وغيرهما.
العلاقة بين الثقافات تأخذ مجموعة من الأشكال ويعد الاتصال والتداخل والتماس من أهم أوجه هذه العلاقة،حيث تتداخل الثقافات فيما بينهما في تفاعل وتبادل،ينبني على الحوار والتواصل الفكري الذي يحقق التفاهم والتقدم وبناء العمران البشري،فيما يعود بالنفع على المجتمع وسيرورة تطوره.بالنص ملامح لما يسمى ب:»مثاقفة». وهي فعل حتمي لأن من المستحيل أن تعيش الثقافة مغلقة،مادام الأمر يتعلق بالإنسان وما يحيط به،من هنا يصعب عليها أن تعيش ضمن نظام لغوي ورمزي بمعزل عن العالم وتحولاته الفكرية والعلمية والأدبية.
إكليل الجبال الريفية:الرقص بطل قد يكمل ما أغلفه الحوار.
أما إكليل الجبال الريفية فهو نص حاصل على جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب،الطبعة الأولى 2013،عن مطبعة عكاظ الجديدة بالرباط.
في حين عرف عالم إكليل الجبال الريفية توظيفا شيقا للرقص.
مقاطع الرقص بالنص:
«المشهد الثالث:
(يأخذ يدها ويرقصان رقصة الفالس) الماركيزة وسلفستري.
الماركيزة:(وهي ترقص دائما)
سلفستري:(وهو يراقصها)
(ينتهي سلفستري والماركيزة من الرقص فيصفق الباقي لهما)
المشهج السابع:
...وحدهما الجنرال سلفستري والماركيزة يرقصان في غير انسجام،يتوقف سلفستري بينما تتابع الماركيزة الرقص بحركات اعتباطية بلهاء.»
الرقص هو نوع من فن الأداء يتألف من سلسلات مختارة إراديا من حركات الجسم،كما نقرأ في موقع إيكيبيديا.
في حين الرقص الدرامي هو نمط من الفن المسرحي الذي يركن إلى انسجام التشكيل الحركي تماشيا والإيقاع الموسيقي لرسم صورة جمالية في وعي المتلقي.
هو من الفنون الانسانية الأولى التي عبرت عن فكر وعقل ونفسية الإنسان قبل اختراع الكتابة واللغة.هو اللغة الأولى التي تكلم بها الإنسان،بتعبير بأعضائه وجسده قبل النطق،حيث يأتي الرقص ملازما للموسيقى أو مقدما لها.بها عبر عن انفعالاته ومشاعره.رقص الإنسان لإفراغ طاقته،وتجسيد بطولاته،واحتفالا بقنص أو نصر أو بسبب الغريزة التي حركته...
هو وسيلة لإثبات الحضور المشع للجسد مادام الرقص قرين للجسد ولا يتحقق إلا به.اهتمام طبيعي بلغة الجسد والتكوين الحركي كأسلوب مستقل له معاني عديدة بالنص المعني.وسبق أن درس النقاد أهمية التعبير الجسدي كوسيلة هامة للتواصل ساهم في التطور الدرامي لتطور الأحداث.
كما أن فن الرقص أو الأداء الحركي الراقص الذي يمتلك القدرة على التعبير الدلالي في توصيل الأفكار والأحاسيس والحالات،والذي ينشأ في الفضاء المسرحي ويتحدد بواسطة الجسد المؤدي سواء أكان راقصا أم ممثلا أو مؤديا،فهو نوع مسرحي يمتلك كافة شروطه الدرامية باعتبار أن الرقص أو الحركة يمتلك بعدا تأسيسيا مقترنا بظهور المسرح،وسببا أساسيا في قيامه.ويحيلنا إلى تصميم الرقصات كفن خالص ومغاير كمجال إبداعي يتداخل مع طابع درامي مما جعل البعض يعتبر الحركة في المسرح أصبحت أقرب من الرقص.
ختاما هذه القراءة المرئية من المتلقي لفعل الصمت والشعر والرقص لا تأتي من فراغ يقرر ما هو وجود علاقة بين المؤدي والمشاهد يحكمها الوعي والتجربة.
كما النص الدرامي يعزز خصوصية اللغة المسرحية التي تجاوز به،ومن خلال نظام اللغة الذي عرف منذ دي سوسير الذي كان ينظر إلى الظاهرة اللغوية على أنها تتشكل من عنصرين يشكلان قطبي التواصل:المرسل والمتلقي.ويضاف إلى ذلك الخطاب الذي يصاغ على أساس وضع متعارف عليه بين طرفي الخطاب،فالخطاب اللغوي في الخطاب المسرحي يكرس تمظهرات خطابية متعددة،فهو يستعير أشكالا لغوية غير لسانية تتفاعل مع اللفظ المنطوق لتشكل بذلك علامات تميزها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى.