رحلة الفرقة المصرية الأولى إلى تونس

رحلة الفرقة المصرية الأولى إلى تونس

العدد 746 صدر بتاريخ 13ديسمبر2021

مرت حوالي خمسة عشر سنة لم تزر فيها أية فرقة مسرحية مصرية تونس لأسباب كثيرة أهمها، قيام الحرب العالمية الثانية، وقيام الكيان الصهيوني باحتلال فلسطين .. إلخ هذه الأحداث التاريخية والسياسية. وفي منتصف عام 1949 بدأت الصحف تتحدث عن استعداد الفرقة الحكومية المصرية زيارة تونس، والمقصود بها الفرقة القومية، التي كان اسمها في هذه الفترة «الفرقة المصرية». فجريدة «البلاغ» أخبرتنا أن أحد متعهدي الحفلات في تونس اتفق مع الفرقة المصرية على إقامة موسم تمثيلي في تونس من خلال عرض أربع عشرة حفلة تمثل فيها مسرحيات، منها: «مجنون ليلى، كليوباترا، تاجر البندقية، الناصر، حواء الخالدة، الوطن، الجزاء الحق، طيف الشباب». وفي خبر آخر نشرت الجريدة نفسها أن الحكومة الفرنسية معنية كثيراً بأمر هذ الاتفاق، لذلك «قررت منح الفرقة المصرية مليونين من الفرنكات بما يوازي 2250 جنيهاً مصرياً».
وبكل أسف تعرضت الفرقة إلى مشاكل إدارية ومادية عديدة في هذه الفترة، وتغيرت إدارتها لتصبح في يد «يوسف وهبي»، وبالتالي تغيرت أسماء المسرحيات، وتغير أعضاء الفرقة، وتم تقسيمهم إلى جزء سيسافر وآخر سيبقى .. إلخ. وزادت الأمور سوءاً بأن موعد السفر إلى تونس، كان غريباً وهو شهر يناير 1950، وهو موسم الشتاء للمسرح المصري، والمعتاد أن الفرق تسافر في الصيف!! حتى المسرحيات التي ستعرضها الفرقة في تونس خضعت إلى رقابة الاستعمار الفرنسي!! فقد نشرت مجلة «الصباح» تحت عنوان «سفير فرنسا في مصر يقابل يوسف وهبي»، قائلة: «طلب سفير فرنسا في مصر إلى يوسف بك وهبي أن يتفضل بزيارته، ليعرض عليه برنامج المسرحيات التي ستمثلها الفرقة المصرية في الرحلة. واستبعد سفير فرنسا مسرحيتي «الصحراء» و«الاستعباد»، وهما المسرحيتان اللتان تحفلان بمواقف الوطنية، وتحض على ثورة عرب شمال أفريقيا ضد الاستعمار. وستمثل بقية مسرحيات رمسيس المعروفة «كأولاد الفقراء»، و«أولاد الشوارع»، وهي مسرحيات محلية، قد لا تهم جمهور شمال أفريقيا».
تفاصيل الرحلة
وصلت الفرقة إلى تونس، وأرسل مديرها «يوسف وهبي» رسالة إلى مجلة «الأستوديو» في أواخر يناير 1950، نشرتها المجلة تحت عنوان «الفرقة المصرية في تونس بقلم يوسف وهبي»، قال فيها: «عزيزي رئيس تحرير مجلة «الأستوديو»، أثلج صدري ما كتبتموه عن الفرقة المصرية بمناسبة رحلتها التي قامت بها إلى تونس، وهذا ليس بجديد على غيرتكم نحو النهضة الفنية المصرية، وما يجب أن يكون من روابط قوية بين فرقنا وبين الأقطار العربية الشقيقة. وحقاً أن مثل هذه الرحلات أمر لا بد منه للفرقة المصرية خاصة، وجميع الفرق عامة لكي تقوم برسالتها الفنية على الوجه الأكمل. وأن النجاح العظيم الذي لقيته فرقتنا في تونس الشقيقة يعطينا الدليل القوي على مبلغ ما للفن المصري في هذه البلاد من محبة عظمى وتقدير لا مثيل له، وما للممثلين المصريين وما للممثلات المصريات في هذه البلاد من إعجاب قد يعجز القلم عن وصفه. نعم أنني عندما قمت مع فرقتي رمسيس قبل الآن برحلاتي الأولى لمست هذا الشعور الصادق؛ ولكن في هذه المرة رأيت أن الشعور ازداد وتضاعف على مر الأعوام. كنت أحب أن تكون معنا عندما تُرفع الستار يومياً، لكي ترى كيف أقبلت هذه الآلاف لمشاهدة فرقة مصرية وممثلين من المصريين. لقد دوى تصفيقهم واستمر إلى حد أن الدموع انهمرت فرحاً لهذا الاستقبال العظيم الذي لا يمكن أن يكون وليد شيء إلا الإخلاص والوفاء من قطر شقيق إلى شعب شقيق. لقد امتلأت المقاصير بأرقى الطبقات من الشعب ومن كبار رجال الهيئة الحاكمة. وبعد كل فصل من الفصول كانوا يسرعون إلى الكواليس لتحيتنا وللتعبير بمختلف الوسائل عن حبهم وتقديرهم وإعجابهم! إن الفرقة المصرية لأول مرة تسافر إلى تونس، وهي في الواقع لأول مرة تُستقبل استقبالاً يجب أن تسجله صفحات الفن الحديث بماء من ذهب. ثق يا عزيزي بأننا سنقوم برسالتنا ونتمّها في هذه البلاد على أتم ما يكون. وأستطيع أن أقول لك بإيمان صادق: «تحيا مصر» فهذا هو الهتاف اليومي نسمعه عندما تسدل الستار».
ونشرت جريدتا «البلاغ» و«البصير» معلومات عن الفرقة في تونس، منها أن الفرقة حظيت بمقابلة باي تونس في قصره، ومنح بعض أعضائها نياشين وأوسمة متنوعة. وعرضت الفرقة خمسة عروض من مسرحياتها في سوسة وصفاقس. أما عروض مدينة تونس فقد كانت منافذ بيع التذاكر تُغلق قبل بداية تمثيلها، ومنها مسرحيات: راسبوتين، وكرسي الاعتراف، وأولاد الفقراء، والطفلين، والحاكم بأمر الله. وأقام الجنرال «شيخ المدينة» ورئيس بلدية تونس حفلة شاي في قصره بمنطقة مرسى تكريماً لأعضاء الفرقة.
والجدير بالذكر أن أي نيشان يمنحه باي تونس، كان معه وثيقة النيشان أي براءته، وهذا هو نص براءة نيشان الفنان «فؤاد فهيم»: «من عبد الله سبحانه المتوكل عليه المفوض جميع الأمور إليه «محمد الأمين باشا» باي صاحب المملكة التونسية إلى الأجلّ السيد «فؤاد فهيم» ممثل الفرقة القومية المصرية. أما بعد فإنه بمقتضى مطلب وزيرنا للشؤون الخارجية، لما لكم من الشأن ألبسانكم هذا النيشان المطرز باسمنا، وهو من الصنف الرابع من «نيشان الافتخار» في رسمنا، فألبسه بالهناء والعافية. وكتب بسراية المملكة. في سنة 1950».

مهمة زكي طليمات
كانت مفاجأة عندما قرأت في جريدة «البصير» خبراً منشوراً في آخر يوم من يناير 1950، جاء فيه أن باي تونس منح «يوسف وهبي بك والأستاذ زكي طليمات درجة كومندور لنيشان الافتخار»! والمفاجأة كانت في ذكر زكي طليمات، كونه أحد أفراد الفرقة!! حيث إنني لم أجد أي خبر عنه ضمن نشاط الفرقة في تونس إلا هذا الخبر المتعلق بالنيشان!! وعندما تتبعث الموضوع، وجدت مجلة «الأستوديو» في أوائل فبراير نشرت كلمة عنوانها «الأستاذ زكي طليمات ورحلة الفرقة إلى تونس»، علمت منها أن زكي طليمات لم يرد السفر مع الفرقة، لولا تدخل البعض بإقناعه بوجوب سفره مع الفرقة بصفته المدير الفني لها، كما تم تفويضه «بإلقاء عدة محاضرات عن الفن المصري في بلاد شمال أفريقيا ليحيط شعوبها بالحركة الأدبية والفنية في مصر، وبالسياسة الإنشائية التي تأخذ بها الحكومة المصرية لترقية فن التمثيل ورفع مستوى العاملين فيه. كما سيعمل على تيسير استقدام بعض شباب شمال أفريقيا للالتحاق بالمعهد العالي لفن التمثيل العربي حتى يؤدي المعهد رسالته، وهي نشر الثقافة الفنية المسرحية بين الشعوب العربية». ومهام زكي طليمات في هذه الرحلة، سنرجئ الحديث عنها وعن تفاصيلها، بعدما ننتهي من الحديث عن الفرقة المصرية، لأن وقفتنا مع زكي طليمات ودوره في تونس ستطول بعض الشيء!

مصر في تونس
في منتصف فبراير 1950، أرسل «يوسف وهبي» رسالة جديدة إلى مجلة «الأستوديو»، التي نشرتها تحت عنوان «مصر في تونس»، قال فيها: «مصر في تونس هذا هو التعبير الذي يجب أن أقوله لأعطي فكرة عن رحلتنا. فإن مصر الآن يتردد اسمها على لسان كل وطني وأجنبي في القطر الشقيق وأريد أن أتحدث عن نجاحنا الأدبي والمادي فأقول: إنه لم يحدث في تاريخ أية فرقة فنية أن زارت تونس ونفذت جميع تذاكر حفلاتها في اليوم التالي من الافتتاح. وقد حدث هذا حينما قدمنا «راسبوتين» ففوجئنا بالتذاكر تباع في السوق السوداء، ووصل سعر التذكرة إلى ستة أضعاف. وأول ما أسجله هو أدب الشعب التونسي، وقوة إدراك الجمهور وذوقه الفني الرائع وحسن إصغائه إلى حد جعلني أسائل نفسي: هل أنا أمام جمهور في لندن أو نيويورك أو أرقى مسارح العالم؟! أنه يلقانا بالترحيب يسوده الأدب وعدم الإزعاج والفوضى، لدرجة أننا كنا نغادر الفندق فنشاهد الآلاف في انتظارنا يقفون على بعد عشرة أمتار منا، ولا يتزاحمون ولا يتراكضون ويكتفون بتحية حماسية عن بُعد دون أن يحاول أحد منهم الاقتراب من السيارة. وأقسم أنني أفاخر بأن هؤلاء عرب. أما الطبقة المثقفة وهم كثيرون، فهم من سعة المدارك إلى حد يثير الدهشة مع تواضع بديع وهدوء رزين. ولأول مرة في تاريخ تونس يتكرم صاحب العظمة باي تونس فيحضر التمثيل في مسرح البلدية في حفلة نهارية، وقد طلب رواية «أولاد الفقراء» بالذات وقال عنها بعد الفصل الثاني إنها مفخرة من مفاخر التأليف، فأجابه العميد الفرنسي أنها تصح أن تكون رواية عالمية. وقد سجلت جريدة «الأكتوالينيه» الفرنسية السينمائية حضور «الباي» وبعض مناظر الرواية بالسينما كحدث تاريخي، لعرضه في جميع دور السينما. وبودي أن أقول لحضرات من يهاجمون الفرقة المصرية ورسالتها القومية، أن يسألوا ماذا صنعت في تونس ويعرفوا مدى تأثير الدعاية الأدبية التي قدمتها الفرقة لمصر برحلتها تلك. فإن مصر اليوم على كل لسان في تونس، وسوف تترك فيها أثراً لا يُمحى».
هجوم سببه النجاح
إشارة يوسف وهبي لهجوم البعض على عروض الفرقة في تونس، كشفت عنه مجلة «الصباح»، عندما نشرت كلمة عنوانها «الصحف الفرنسية تهاجم الفرقة المصرية»!! علمنا منها أن بعض الصحف الفرنسية قالت إن المسرحيات التي قدمتها الفرقة عبارة عن مقتبسات عن مسرحيات فرنسية، وأن الفرقة ليست الفرقة المصرية بل هي فرقة يوسف وهبي بدليل أنها لم تقدم إلا مسرحيات يوسف وهبي «راسبوتين» و«كرسي الاعتراف» و«أولاد الفقراء» و«بيومي أفندي» ... إلخ!! وعلقت مجلة «الصباح» على هذا الهجوم بقولها: «إن هذه الحملة التي شنتها الصحف الفرنسية مفتعلة إزاء مظاهر التكريم والحفاوة التي لاقتها الفرقة».
وأمام ذلك صرّح يوسف وهبي بأقوال كثيرة – بعد عودة الفرقة من رحلتها – منها ما نشره في مجلة «الأستوديو» - في إبريل 1950 - قائلاً: بعد عودتي من هذه الرحلة المباركة أفاخر أكثر من قبل بأنني عربي، بل أتباهى بهذه العروبة مزهواً رافع الرأس وأنا مطمئن على أن العربي مازال كما كنا نقرأ عنه في كتب التاريخ والعصر الذهبي. لقد صادفت شعباً كريماً عظيماً نبيلاً سامي الخلق معتزاً بجنسه متباهياً بأصله، لم ينس ولن ينسى أنه انحدر من صلب أولئك الأبطال الذين أناروا على العالم بمدنيتهم، وأفاضوا على الدنيا بعلومهم. وفي كل خطوة، وفي كل لحظة وفي كل مناسبة ازداد يقيني بأن هذا الشعب العظيم قد جعل مصر قبلته ووضع فيها أمله واعترف بزعامتها، وأحب مليكها [الملك فاروق] حباً سيطر على كل شعوره وإحساسه. لقد كرمنا الملوك والزعماء والوجهاء وقادة الفكر. لقد التقينا بعلماء من فطاحل رجال العلم ونوابغ الاقتصاد وآمنا أننا في أشد الحاجة إلى التعاون الفكري والثقافي مع أبناء العمومة. أولئك الذين مازالوا حتى اليوم متمسكين بفضيلة الإسلام، وقد تغلغلت الأخلاق الكريمة في نفوسهم، وأن في هذا التعاون الخير العميم للعروبة بل ولمصر. قل للزعماء وأولي الأمر في مصر أن اتجهوا شمالاً فهناك في تونس وفي الجزائر وخلف جبال الأطلس تعيش أمة من أرقى الأمم العربية، أمة ساهرة على الأخلاق، أمة كريمة نبيلة.
وبعد أيام صرّح يوسف وهبي بأمور كان الرأي العام يجهلها أثناء وجود الفرقة في بلاد المغرب العربي، وعندما عاد إلى مصر كشف النقاب عنها في مجلة «الصباح»، قائلاً: إن النجاح الذي صادفناه في رحلة الفرقة المصرية إلى شمال أفريقيا يعتبر غزواً لهذه البلاد بمعناه الصحيح، ولو أن الهيئات الرسمية في الدولة أرادت أن تحقق لمصر دعاية تكلفها آلاف الجنيهات لما استطاعت أن تحصل على النتيجة التي حصلنا عليها! ويؤسفني أن أصرح بأننا بينما كنا نحصل على هذا الكسب المشرف لبلادنا، كنا نلاقي اللوم والتأنيب من المراجع الرسمية هنا، وهي المراجع المسئولة عن المسرح المصري! فبينما كنا في غمار ذلك النجاح كنت أتلقى برقيات تتعجلني العودة وقطع الرحلة وبتر هذا النجاح! بل تلقيت برقيات فيها تأنيب صريح على عدم عودتنا! فقد كنت كمن يحارب في ميدان وظهره مكشوف، ذلك لأن صفوفنا الفنية لا تزال ترسف في أغلال الحقد والدسائس والمؤامرات. لقد أحنق البعض أن ننجح فراحوا يكيدون لنا ويدسون لنا، ويهمني أن ألفت أنظار إخواني الصحفيين إلى أن الصحف المصرية ممنوعة من دخول شمال أفريقيا! وأن الاستعمار في أراضي الأشقاء العزاز، يحاول أن يفصل إخواننا عن المحيط العربي! وكان إخواننا أهل المغرب يتلهفون على مسرحياتنا كأنموذج من نماذج المسرح ونماذج اللغة التي يبغي الاستعمار القضاء على وشائجها! يحب أهل شمال أفريقيا الأفلام المصرية الجدية الرزينة ذات الفكرة والموضوع والهدف الاجتماعي، وينفرون من الأفلام الرخيصة المبتذلة. إن إخواننا هناك يفخرون بأفلامنا الاجتماعية المهذبة ويفاخرون الفرنسيين بها، ويقولون لهم: انظروا، هذا هو الفيلم العربي، هذا هو فيلمنا! ويشمئز الإخوان هناك من الكلمات الفرنسية الدخيلة التي قد ترد عفواً في سياق حوار فيلم من أفلامنا، ويقولون: إن لكم مطلق حريتكم في الكلام بلغتكم العربية العزيزة فلماذا تفرضون على أنفسكم استعمال لغة الغير؟ إنهم يتلهفون على قراءة كتب العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد أمين، ولكن الاستعمار يرى من سياسته أن يقطع الصلة بينهم وبين ما يمت إلى الثقافة العربية! عليكم أيها الإخوان الصحفيون دعوة حكومتنا للعمل على تداول صحفنا وكتبنا وأفلامنا ومسرحياتنا بسهولة ويسر، وإلا فادعوا الحكومة إلى تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، فلا يكون في أسواقنا كتب أو صحف فرنسية أو ثقافية فرنسية أو ما إلى ذلك.


سيد علي إسماعيل