«فريدا» من رحم الآلام تولدت الموهبة

«فريدا»  من رحم الآلام تولدت الموهبة

العدد 839 صدر بتاريخ 25سبتمبر2023

في إطار الدورة الثلاثون من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي وعلى هامش المسابقة قدم على مسرح الجمهورية العرض المسرحي الراقص فريدا تصميم وإخراج سالي أحمد. 
 العرض عبارة عن سيرة ذاتية للفنانة التشكيلية المكسيكية ماغدالينا كارمن فريدا كاهلو وشهرتها فريدا كاهلو (1907 – 1954)، والتي زادت شهرتها بعد وفاتها وأصبحت إحدى أكثر الفنانين شهرة في القرن العشرين، والتي تولدت موهبتها من رحم الآلام التي مرت بها في حياتها فقد رسمت مائة واثنين وخمسون لوحة فنية تقريباً من بينها خمسون لوحة ذاتية، فقد اشتهرت برسم البورتريهات  الذاتية واستخدامها لنمط الفن الشعبي، وقد أصيبت فريدا وهي في السادسة من عمرها بشلل الأطفال في إحدى قدميها، ونتج عنه عرج في مشيها، ترك أثراً نفسياً وكان سببا في ارتدائها للفساتين الطويلة وجوارب من الصوف صيفاً أو شتاءً. تعرضت فريدا في حياتها للكثير من العمليات الجراحية، ومرت في حياتها ببعض المشكلات، وتغلبت على أحزانها وآلامها وخيبات أملها بالرسم وتكاد لوحاتها تنطق بمعاناتها المستدامة. تزوجت فريدا من رسام الجداريات دييغوا ريفيرا سنة 1929م ولكنها طلقت سنة 1939م بسبب خيانته المتعددة لها، وعاد وتزوجا مرة أخرى حتى وفاتها المنية سنة 1954م. 
عاشت فريدا حياتها المعذبة الممزقة بين المرض الذي ينهش جسدها، وخيانة زوجها ريفيرا لها على الرغم من حبها الشديد له. كانت من أمنيات فريدا أن تصبح أم، لكنه ونظراً لتأثير حادثة حدثت لها وهي ابنة الثامنة عشر سنة، أدت إلى عدم قدرتها على الإنجاب فكان رحمها يلفظ وجود أي جنين حيث أنها تعرضت للإجهاض مرتان. هربت فريدا من عالمها الواقعي المعاش إلى عالم الخيال بالرسم، وعبرت بلوحاتها عن الواقع المرير والقدر وتجربتها في الألم والمعاناة، فقد ظهر صراعها النفسي جلياً من خلال لوحاتها لتتفوق على واقعها المؤلم، فقد كانت ترسم لوحاتها بعد أن تعيش في فكرتها وجدانياً.
 اختارت المخرجة سالي أحمد أهم المحطات في حياة فريدا لتعرضها للمشاهد باستخدام التعبير الحركي، ويستكمل المشهد بعرض لوحات فنية رسمتها فريدا على ثلاث شاشات عرض، وضعت إحداهما في عمق المسرح، والثانية والثالثة على جانبي يسار ويمين المسرح، ووضع أمام شاشة العمق سلمان ملتحمان، ويشكل أعلى قمة السلمان منصة عرض، شكلت مكان حادثة فريدا التي كانت مع صديقها اليخاندرو على متن حافلة وهي في الثامنة عشر من العمر واصطدمت الحافلة  بالترام، نتج عن ذلك دخول سيخ حديدي في فخذها وخرج من الناحية الأخرى، وتركت الحادثة كسور في العمود الفقري والحوض جعلها طريحة الفراش لمدة عام، وشكل أسفل السلمان تجويفاً استخدام كمكان للقاء الجسدي وممارسة الحب بين فريدا وريفيرا، وفي نفس المكان مَارَسَ ريفيرا الحب مع أخريات، وقد لف حول السلمان قماش أبيض شفاف يشكل سلويت للمتلقي، وقد شق القماش من الوسط للدخول والخروج من وإلى التجويف، وهذه الفتحة كانت شبية بالمكان الطبيعي بجسد المرأة الذي  يخرج منه الطفل للحياة الدنيا. عرضت المخرجة الأحداث وفقاً للسياق التاريخي والموضوعي لشخصية فريدا وتجاربها وآلامها المزمنة.
يبدأ العرض برقصة مبهجة يرتدي فيها الراقصين الأزياء المزركشة، تعبر ألوانها عن البهجة والسعادة، وفي نهاية المشهد تصعد فريدا أعلى السلم وتسقط مع صوت ارتطام ليعبر عن حادثة التصادم التي حدثت لها. يوضح المشهد الثاني معاناتها وهي ملقاة على السرير، ويظهر على الشاشات شمس وقمر يتعاقبا في حركة دورانية تشير لمرور الزمن بتعاقب الليل والنهار، ثم تدخل بعض الفتيات مرتدين فساتين بألوان مختلفة (أحمر – أصفر – أزرق – أخضر) لترمز  بحلم فريدا بالألوان، وأنه ستخفف عنها مأساتها فوضعت لها والدتها فرشاً، وعلقت مرآة فوقها (نزلت من السوفيتا) لتستطيع رؤية وجهها دائما، لتبدأ في توثيق مشاعرها واحداث حياتها عبر الرسم، وقامت برسم لوحة لسيدة ترتدي روب بنفسجي ظهرت على الشاشات لحبيبها أليخاندرو الذي تركها وسافر إلى أوربا تحت ضغط من أسرته، بعد رقصة مع  برواز فارغ تضعه أمام وجهها وصدرها وتجمع الدموع في عينها حزناً بعد أن تركها حبيبها. نرى الأطباء يلتفون حول فريدا ممسكين برباط من الشاش ويلفونه حول جسدها ليرمز لوضع جسدها بالجبس لإصلاح الكسور التي خلفتها الحادثة، ويظهر على الشاشات شيش مغلق يخرج منه شعاع خافت من النور في تأكيد على التعلق بالأمل في الشفاء. مع مرور الزمن تجلس فريدا على كرسي متحرك، وينتهي المشهد بتحسن حالتها الصحية وتظهر تمسك بيدها عكاز وتقوم بعرض لوحاتها على ريفيرا الذي لا يهتم في بادئ الأمر، لكن لتميزها في الرسم يلتفت إليها ويعجب بها ويمارس معها الحب داخل تجويف السلمان (يظهر كل ما يحدث داخل التجويف على شكل سلويت)، ثم تظهر دون عكاز وترقص رقصة الحب وتظهر على شاشة الوسط صورة الزواج وهي ترتدي فستان أخضر وفوقه شال أحمر مما يؤكد على حبها للملابس المكسيكية فهي لم ترتدي ثوب زفاف أبيض، فقد كان ريفيرا يحب تمسكها بذلك، وظهر في الصورة واقفاً بجوارها ويرتدي ملابس زرقاء، وعلى شاشتي جانبي المسرح تظهر الورود. 
بعد الزواج والحب تظهر فريدا وريفيرا يقفا بعيدا عن بعضهما، وتظهر صورة على شاشة العمق لامرأة (تعبر عن موديل يرسمها الرسام) مضجعه على سرير ترتدي ملابس صفراء، ويظهر على شاشتي جانبي المسرح صورة لفريدا وأخرى لريفيرا مما يؤكد على حالات الخيانة المتعددة التي يقيمها ريفيرا مع النساء اللاتي يقوم برسمهن، ويستكمل المشهد بحركات راقصة تعبر عن المشادات والتشاحن بينهما ومحاولات ريفيرا احتواء الموقف، وينجح في محاولاته حيث تحبه فريدا ويستكملا مشوار الحياة.
تعرض الشاشات ثلاث لوحات لفريدا للتعبير على مدى حيرتها وحنينها وحبها وتعلقها بوطنها المكسيك، فقد سافرت مع زوجها ريفيرا إلى أمريكا وفرنسا ولكن قلبها كان معلقاً بالمكسيك، وتظهر على الشاشات لوحات  ثلاث فتيات ترتدي كلاً منهم فستان بلون مختلف، الأولى ترتدي اللون البرتقالي وتغطي الخضرة جزء من الفستان، والثانية بفستان مكسيكي أطلقت علي اللوحة أسم فستاني فهي غير متقبلة ملابس البلاد التي عاشت فيها، والثالثة ترتدى فستان روز وتسير على الحدود بين أمريكا والمكسيك، حيث الرسم يوضح أمريكا بالأدخنة المتصاعدة والملوثات الصناعية، والمكسيك التي تمثل بلد الثقافة والخضرة والحياة السعيدة، ومع عرض اللوحات على الشاشات نرى تعبير حركي لثلاث فتيات وفي نهاية التابلو تفرش الفتيات الأقمشة على الخشبة، والأقمشة مختلفة الألوان (أحمر – أخضر – أبيض) فهي تمثل ألوان علم المكسيك وتَضَجَعْ كل فتاة على قماشتها ويتم سحبها داخل الكالوس لتعبر على العودة لوطنها وتوحد الثلاث شخصيات لتصبح شخصية واحدة.
يظهر لنا مشهد لفريدا تنام على خشبة المسرح ويتدلى هلب من السوفيتا ويخرج من بين قدميها قماشة حمراء بلون الدم للتعبير عن حالتها النفسية السيئة فقد أجهضت، وأجهض حملها بأن تصبح أم، ويستكمل المشهد بعرض صورة على الشاشة لجنين داخل رحم الأم ويبدأ في التلاشي ببطء إلى أن يختفي تماماً. ثم تضاء صالة العرض ونسمع صوت موسيقى صادرة من العود (يجلس العازفين في لوج أعلى يمين خشبة المسرح) لتعبر المخرجة سالي أحمد عن رسالة العرض، فقد كتبت في كلمتها في بامفلت العرض «لا يجمعنا لغة ولا دين والثقافة، ولكن جمعتنا الإنسانية وهذا يكفي للشعور بمعاناتك التي تحولت إلى فناً فريداً منهما تجاوز الأزمنة وعبر الحدود وألهم الكثير من الفنانين في العالم، وجعلك أيقونة للمرأة والفن التشكيلي والمكسيك. فريدا لك في نفسي مكانة فريدا.»
ونري المخرجة تؤكد مقولتها بوجود مطربة أمام خشبة المسرح تغني بلغتنا العربية ثم تصعد على المسرح وتغني بالإسبانية، وتظهر في الشاشات صور للدموع وتتحول الدموع من قطرات لحجم أكبر (الكريستال الذي يعلق بنجف الإضاءة) ودمج ذلك مع حركات راقصة بملابس لامعة، وتعرض الشاشة لوحة لجسد غزالة بوجه إنسان يرشق بجسدها مسامير، وينتهي المشهد بأن الآخر يشعر بآلام وعذاب فريدا. يتجول بنا  العرض إلى مشهد خيانة جديدة لريفيرا لكن الخيانة هذه المرة مع أختها مما يسبب لفريدا جُرح نفسي عميق وتقرر مقاطعة أختها والانفصال عن زوجها على الرغم من محاولات ريفيرا المستمرة للعودة إليها، وتقرر التمرد على كل شيء كان يحبه فيها ريفيرا، ونسمع اغنية معبرة عن مأساتها،  وتتمرد فريدا على الوضع القائم وتقوم بقص شعرها وخلع الملابس المكسيكية، وتقرر تحدي نفسها قبل الجميع وتعيش مرحلة ذكورية باحتساء الخمور والسهر والرقص مع الشباب رقصات قوية انفعالية ويدخل على خشبة المسرح بعض الكراسي لتستخدم في التابلو الراقص وينتهي المشهد بلوحة تشكيلية وهي ترفع يدها اليمني في وجه المتلقي للتعبير عن صرخة مكتومة بداخلها. 
يشعر المتلقي الغير ملم بحكاية فريدا بأن الحكاية قد انتهت، وأن المشاهد المقدمة بعد المشهد السابق هي مشاهد زائدة على العرض، ولذلك أتمنى أن يكون مع هذه العروض المستلهمة من السير الذاتية شرح للحكاية، فالحكاية لم تنتهي بعد، وتنتقل بنا الأحداث لمحاولات ريفيرا العودة لفريدا لكنها ترفضه تماما مع عرض لوحة الفريدتين على شاشة العمق، واللوحة عبارة عن صورتين لفريدا، الأولى بزي تقليدي ملون كان يحبه زوجها ريفيرا وبقلب عارٍ مجروح، والصورة الأخرى ترتدي فيها رداء فيكتوريا أبيض، ويظهر فيها قلبها الدامي، ويصل بين القلبين وريد وبيدها اليسرى مقص وشريان مقطوع ينتهى بقطرات من الدماء، وقد رسمت فريدا الصورة بعد صدمتها بخيانة زوجها مع أختها وانفصالها عنه، وعبرت اللوحة عن الحالة النفسية وجرحها الذي ادمى قلبها.
يظهر على الشاشة علم الشيوعية وتحكي الاحداث الراقصة محاولة فريدا إقامة علاقة مع تروتسكي، وتظهر على الشاشات زهرة بيضاء لترمز بأنه يحدث شيء جديد في حياة فريدا، ولكنها فشلت في تلك العلاقة القصيرة، فتظهر الغيوم على الشاشة بتأثر حياتها، وعلى الرغم من ذلك حاول ريفيرا جاهدا التودد والتقرب لها، لكنها رفضته، وشكل هذا المشهد ومضة خاطفة في العرض، وليون تروتسكي كان الزعيم السوفيتي السابق والذي طلبت له فريدا وريفيرا حق اللجوء السياسي فقد كانا عضوان في الحزب الشيوعي، وكان تروتسكي وزوجته يعيشان في منزل فريدا وريفيرا. عندما قتل تروتسكي اتهمت فريدا وريفيرا بقتله لكن بعد فترة أعلن برأتهما.
يظهر السرير مرة أخري وتنام عليه فريدا ومن حولها الأطباء، وظهر على الشاشة لوحة تعبر عن آلامها ومعاناتها مع المرض، واللوحة عبارة عن وجه إنسان على جسد غزال مصاب بجروح قاتلة بالسهام، وفي خلفية اللوحة غابة من الأشجار الميتة والمكسورة، فقد عانت فريدا من غرغرينا أصابت قدمها التي كانت مصابة في السابق بشلل الأطفال واضطر الأطباء لبتر قدمها، وحاول الأطباء تركيب طرف صناعي لها لكنها قالت من أقوالها المشهورة «ما حاجتي لقدمين إن كان لي أجنحة أطير بها» فكان فن الرسم بحق أجنحة لها فلا داعي لوجود القدم. ظهرت فريدا تعيش على كرسي متحرك ودخل حياتها مرة أخرى ريفيرا بعد عملية البتر واتخذ قرار مرافقتها في المستشفى وتزوجا ليكملا معاً رحلة حياتها.
نرى فريدا على السرير مرة أخيرة ترسم لوحة تحيا الحياة (Viva la vida) نقشت على حز البطيخ، وتعرض على الشاشة فهي أخر لوحة رسمتها فريدا قبل أيام من وفاتها، واللوحة تظهر أنه بمجرد قطع قشرة البطيخ يظهر ما بداخلها من حياة تنبض بالألوان والحيوية وعند تذوقها تجد طعمها لذيذ  ولب البطيخ يرمز للصورة والخلود كما في الأساطير اليونانية، ثم تفارق الحياة وتسقط من يدها الفرشاة، ونشاهدها تقوم من السرير مرتدية فستان أبيض وتصعد السلم للانتقال إلى العالم الأخر، وينتهي العرض بمشهد عيد الموتى وهو احتفال مكسيكي ذات شهرة واسعة، يوافق يومي الأول والثاني من نوفمبر، وفيه  يتذكر المكسيكيون أسماء أقاربهم الذين فارقوا الحياة، وبذكر فريدا كاهلو فهي تعيش حياة أفضل حسب المعتقدات، ويرمز لعيد الموتى بالجماجم والزهور المكسيكية البرتقالي، وقد ظهر الراقصين مرتدين ملابس سوداء مرسوم علي الصدر القفص الصدري، ويوضع على الوجه ماسكات على شكل الجماجم، وتعزف الموسيقى المبهجة ويتناول فيها المحتفلون الطعام والشراب المفضل للمتوفيين بعد أن قدموها كقرابين، فمن المعتقدات عند زيارة قبور الموتى يقدم الطعام إليهم، وبعد الانتهاء من الزيارة تكون القيمة الروحية للطعام وما تبقي هو عبارة عن طعام فقد قيمته الغذائية.
كل الشكر لمن ساهم في خروج هذا العرض للنور(“شخصية فريدا: ريم أحمد، رشا الوكيل، رحمة عصام، حبيبة سيد، يمنى مسعد، مريم أسامة» – “ديجو ريفيرا: عمرو البطريق” – «أخت فريدا: بسنت إيهاب» –  “ تروتسكي: أحمد محمد” – «الفتيات: مرام حسني، نرمين محمد، ملك سيف، ماريا ممدوح، انجي عماد، كرمينا عصام، فرح أحمد، آية أحمد» – “الشباب: ميدو سمير، مينا ثابت، محمد علي، كريم أسامة، على يسري، محمد الجمل، مصطفى نصار، عبدالرحمن (هامانا)، شريف» – “غناء: سارة بايزيد” – “عود: محمد أبو زيد» –  “كاخون: وليد عبدالله» – “ماكياج: أحمد فكري، محمد أحمد فكري» – «ملابس: هالة حسن» – “ديكور: محمد عبدالرازق” –  «المدير المالي والإداري للفرقة: عمرو محمود عبد الفتاح” – «تصميم دعاية: مصطفى عوض»   –  “مدير الفرقة الفني: وليد عوني» – “مساعد مخرج: منصور محمد» – “مساعد مخرج تدريب: محمد مصطفي (كامبا)» – “مخرج منفذ: عمرو عاطف”    والعرض من تصميم وإخراج سالي أحمد التي ألقت الضوء على هذه الفنانة المكسيكية فريدا كاهلوا والتي أعتقد أن اغلب الجمهور 


جمال الفيشاوي