العدد 945 صدر بتاريخ 6أكتوبر2025
غادرت مسرح «السامر» فور مشاهدتى للعرض المسرحى «فاطمة الهوارى لا تصالح» للمخرج والمؤلف غنام غنام، فى الليلة الثانية من ليالى مهرجان إيزيس الدولى لمسرح المرأة فى دورته الثالثة.. وفى رأسى إجابة للسؤال الذى سيطر على قبيل العرض.. ما علاقة العرض بالمهرجان الذى يحمل طبيعة خاصة من أهمها أن تتداخل العروض بشكل مباشر مع (قضايا المرأة).. كما ألحت علىّ مقولة للفنان السريالى الأسبانى «سلفادور دالي» أخذت تتردد فى ذهنى بلا هوادة وهى: «لا يمكنك العثور على السلام عن طريق تفادى الحياة» الحياة عندى يعنى الفعل.. إذن؛ هو كذلك بالفعل.. فالكيانات التى تتجاهل الظلم الداخلى أو الحقوق المغتصبة التى تتعرض لها الشعوب فى سبيل الحصول على الراحة (المصطنعة)، لن تجد سلامها أبدا.. إذ أن السلام الحقيقى لا يمكنه أن يتجسد إلا بالعدل، لا بالنسيان أو الهروب أو المواءمة!
وبما أنه لا مجال للهروب فى قضيتنا الأبدية قضية الوطن الفلسطينى الحر مع الكيان المحتل الغاصب.. ستظل أبدا معلقة فى قلوبنا وحية فى صدورنا تدفع بها كلمتنا المقاومة ومسرحنا الغاضب.. ويكفيه إلقاء الحجارة المرة تلو الأخرى لتحرك ماءها الهادرأكثر وأكثر كى لا تصاب بالركود.. وحاشاها.
فى عرضه «فاطمة الهوارى لا تصالح» قدم لنا غنام غنام عملًا بسيطًا فى بنائه الدرامى الملتظم، خارجا هذه المرة عن منظومة المونودراما التى اعتادها مؤخرا.. (فالعرض يقوم على ثلاث شخصيات) رجلان وامرأة يقدمون حكاية الجروح الأزلية التى لا يمكن أن تشفى بالمصالحة الكاذبة!
يقف العرض معانقا خط النار والمقاومة المستدامة الذى خطه «غنام» صامدا ومؤكدا ومستكملا لرحلته الثلاثية السابقة «عائد إلى حيقا» «سأموت فى المنفى» و» بأم عينى 1948» إذ إنه لا يمكننا فصل هذه العروض عن بعضها البعض أبدا بأى حال من الأحوال من حيث الموضوع أو القضية.. فهى تُشكل فى مجموعها ملحمة مسرحية متكاملة تحكى أبجديات قصة الوجود الفلسطينى من لحظة الفاجعة إلى الموقف الأخلاقى الرافض عبر أسلوبه فى التوثيق للقضية الفلسطينية عبر المسرح.. كسلسلة متتابعة ومنطقية فى معالجة قضية الذاكرة والحق.
وتستند قصة المسرحية إلى أحداث حقيقية اكتملت فصولها بعد زيارة قام بها (المؤلف المخرج الممثل) نفسه إلى فلسطين وتدور أحداثها حول شخصية «فاطمة الهوارى بنت بلدة «ترشيحا» والتى ولدت عام 1930 وكانت بعمر الثامنة عشرة وتستعد لزفافها تحديدا عام 1948م حين قصفت المدينة من قبل القوات الإسرائيلية، هنا.. تهاوت الأحلام وتلاشت الآمال.. وفقدت فاطمة عائلتها بالكامل (الأب والأم والعمة والخالة)، ليس ذلك فحسب..بل أصيبت أيضا بالشلل، لتجد نفسها (عجوزا.. وحيدة ومُعاقة) وما زاد الأمر تعقيدا أن محاولات علاجها الكثيرة قوبلت بالرفض التام.. وتتصاعد الأحداث عندما يلتقى مصيرها بمصير الطيار الإسرائيلى (آبى ناتان) الذى أصبح لاحقًا داعية سلام. وهو من هو..؟ هو المجرم الحقيقى فى قضية قصف ترشيحا سابقا!
وفى عام 1995، وخلال محاضرة له فى الولايات المتحدة، يعترف الطيار بدوره فى قصف المدينة.. ويتصادف أن كان أحد أبناء ترشيحا حاضرًا، ليكشف للطيار عن حكاية فاطمة، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل طالبه بالاعتذار لها عما بدر منه فى حقها وحق أسرتها المنكوبة.. وبالفعل شمر الطيار عن ساعديه وذهب إلى منزل فاطمة ولكن مستخدما (الشو الإعلامى البروباجندا لزوم التزييف واستغلال القضية) برفقة قناة CNN معتذرًا. فما كان من فاطمة إلا ردها الحاسم بالرفض لأية تسوية.. صارخة فى وجهه عن جدوى الأسف الذى لن يعيد الأحبة أو يحرر الوطن من ربقة سارقيه.. وكانت المفاجأة بطلبها الواضح والصريح والصادم.. «أن تراه محبوسا على كرسى متحرك كما هى الآن»
وكأنما كان القدر على موعد مع فاطمة ليقدم لها صورة الانتقام المثلى أمام عينيها على طبق من ذهب حين يصاب الطيار بالشلل بل ويفقد النطق والحركة» ليذوق الهوان الذى أذاقه لفاطمة من قبل وترشيحا كلها.. وعندما كانت هناك بعض المحاولات للحصول على تعويض صحي.. مجرد تعويض صحى لا غير لفاطمة من الطيار، وجدوه مغبونا كسيحا على كرسى متحرك، لم تحزن فاطمة.. فقد كان ذلك بمثابة رد الاعتبار لها واستجابة من لدن الله لأمنيتها الوحيدة.. إذ رفضت أى تعويض أو مساعدة منه.. لأنها كانت تنتظر العدل الإلهى بالانتقام بالمثل.. وقد حدث أمام عينيها.. إنه الإيمان بعدالة السماء التى لا تعرقلها سبل التواطؤ ولا تقف أمامها المواءمات البشرية القاصرة.
من السيرة الذاتية إلى فاطمة.. الرمز الأنثوي!
انتقل المؤلف المخرج من الاعتماد على سيرته الذاتية المباشرة كمصدر مؤكد وموثق وشاهد عيان لتفاصيل القضية ولبها، إلى استخدام الرمز الأنثوى الصريح (فاطمة) كوعاء رمزى يحمل ثقل المأساة والرفض، مما يمنح القضية بُعدًا إنسانيًا أوسع وأكثر تركيزًا على قوة المرأة فى حفظ الذاكرة. و(الهواري) كدلالة واضحة على الأصالة والشموخ والحسب والنسب والعراقة.
ففى عروضه المونودرامية التى سبقت (فاطمة) كان يوثق للقضية؛ لهويتها؛ لتفاصيلها اليومية لهشاشة وضعف وبذاءة الاحتلال الذى كان يخور رغم تظاهره بالشجاعة والصمود.. لقد تحول من مسألة التوثيق الذاتي.. لاحظ كلمات مثل: (بأم عينى، سأموت، عائد) والتى تدل على المعاينة والمعايشة.. كل هذا تحول فى فاطمة إلى قفزة درامية مباشرة وعميقة وشاعرية اتسعت خريطتها الجسدية والإنسانية لتجمع فى عراها شخوصا وحيوات وتواريخ جديدة.
فاطمة تصرخ: لست ضحية، بل شاهدة!
وكأنها تقول بشموخها ولباسها الفلسطينى وشالها المزركش بألوان الصمود أنا فاطمة الهوارى، لست مجرد امرأة عربية فلسطينية تعرضت للظلم، بل أنا ذاكرة كاملة تمشى على الحياة/المسرح. إننى التجسيد الحى لكل شريف رفض وما زال يرفض أن يبيع كرامته أو يتنازل عن حقوقه وحقوق أمته. وقد اختتمت المسرحية بزيارتها لعدوها اللدود بعد سنوات تحديدا فى (2002) لتوقيع وثيقة اعتراف مقابل مساعدة طبية، لتجده مشلولًا عاجزًا. وتعلن هى (فاطمة الهوارى/رمز القضية ) انتصارها المبدئى، ليس تشفيًا، بل لإدراكها أن العدالة الإلهية قد قالت كلمتها الفصل.. أمامها كشاهدة وليست ضحية.
الرؤية الدرامية والإخراجية:
لقد آثرت هنا أن أجمع بين رؤيتى صناعة العرض.. االرؤية الدرامية (التأليف) والرؤية الإخراجية) بما تحويه من صورة بصرية بتنوعاتها المختلفة.. وذلك لأن غنام فنان عضوى فاعل (يكتب، يخرج ، يمثل وربما يقوم بتصميم الديكور بل بتنفيذه.. كذلك الملابس والإكسسوارات) لذا أعتقد أن الخطاب الفنى والفكرى له يتأسس على معالجة شاملة ومترابطة للقضية الفلسطينية، هذه المعالجة تتصف بالعمق والعاطفية فى آن.. وتتجاوز السرد إلى الموقف الدرامي. وهو ما يتجسد هنا فى فاطمة وما قبلها.. فنعود لنتأمل مرة أخرى.. فالسلسلة التى تضم «عائد إلى حيفا.. و»سأموت فى المنفى» الذى يجسد نتيجة المأساة، ناقلًا ألم الشتات والضياع الشخصى للمنفى (نفسه) ليتكاثر هو ويصبح صوتًا (جماعيًا) و»بأم عينى 1948»، التى تعد بمثابة اللحظة الجوهرية التى تُمثل الإمساك بجذر المأساة وأصلها، فنرى توظيف التوثيق وشهادة الشاهد الحى (هو نفسه) لإثبات الحقيقة التاريخية.. ثم «فاطمة الهوارى لا تصالح» الذى هو بين أيدينا، ويبدو كقرار أخلاقى اتخذ بعد مراحل مضنية من التفكير والمراودة، إذ يعلن رفض المصالحة التى لا ترتكن على العدل الكامل.
كرسى متحرك وذاكرة فولاذية!
ها هنا فى عرض مسرحية «فاطمة الهوارى لا تصالح»، يصبح كل من الجسد والغياب رمزين مركزيين.. ففاطمة الهوارى ليست إلا تجسيدا للذاكرة الجسدية والوطن الذى صار معاقا دون إرادته.. وما زال يحمل جرح نكبة 1948 فنراه (أي: الجسد) مكبوبا على كرسى متحرك.. ورغم ذلك ما يزال يقظا لديه القدرة على أن يقول لا فى وجه من قالوا نعم ببراعة.. ويرفض.. حتى لو كان هذا الرفض هو (أسف الطيار) الذى هو حق أصيل له.. إن هذا الرفض لـ «أسف» الطيار المدعى بمثابة الرفض الصريح للسلام المشروط المبنى على التعويض دون العدالة التامة.. العدالة العادلة!
أما رمزى، ذلك الرمز العميق.. (خطيبها الغائب الحاضر)، فيُمثل المستقبل والحياة التى سُرقت والأمل الذى اختطف. وكان ظهوره واختفاؤه فى العرض كشبح شاعرى له ألف مغزى ومغزى.. فتراه من وراء الستار رامز إلى الحق المسلوب تارة وإلى الجمال الخالد الذى لا يمكن لأى تسوية أن تُعيده تارة أخرى.. إن حضور رمزى (شبه الشفاف) لرمزى (الذى يمثل الحقيقة) فى غيابها ليؤكد موقف فاطمة من عدوها وكذلك على استحالة المصالحة المعيبة.. وفى مقابل هذا، نرى الطيار (الذى يمثل نموذج الاعتراف) (الناقص) أى الذى بلا قيمة فعلية.. حقيقية إنه مجرد كلمة (آسف) ومجرد (حروف ثلاثة) لا يمكن أن تكون بديلا عن إعادة الحق المسلوب ببجاحة.. لتأتى نهايته (مصابا بالشلل) مثلما تسبب لفاطمة تماما (ومواجهة كل منهما للآخر على كرسيه المتحرك.. هى فى عز وكبرياء وهو فى ذل وخضوع) لهو تجسيد رمزى لـ العدالة المطلقة التى لا يمكن إغفالها، والتى تصرخ فى وجه من يتاجرون بالكلمات.. والتأكيد على أن القضية مفتوحة ما تزال ولم تغلق بعد.. والذاكرة هى سلاح المقاومة الأول، وأى سلام يتجاهل توثيق الجريمة وألم الضحية هو استسلام وليس سلاما ومحكوما عليه بالفشل.
من المونودرامي.. إلى البوليفونى الديكودرامي!
كان حظى جيدا أن شاهدت وقرأت منظومة الأعمال السابقة على فاطمة الهواري.. وكانت كلها فى إطار الأداءً الفردى (مونودراما) بتقنياتها المختلفة مع سطوع المؤدى كحكوات. أما «فاطمة الهواري» فتعتمد على تعدد الأصوات (ممثلين متعددين)، مما سمح لغنّام بتفكيك الصراع إلى أبعاد مختلفة (الضحية، الجلاد، صوت المجتمع/الذاكرة)، ولا أكون مغالية إذا قلت أن العرض تحول إلى (مونودراما جماعية متعددة الأصوات) مع الحفاظ على البساطة فى البنية والتصور البصرى للمساحة المسرحية فلا يوجد عليها إلا كل ما هو ضرورى ويتم استخدامه.. فهو كمؤلف اعتمد يشكل كبير على اللغة الشعرية وبناء الحكاية على التناقضات الحادة (الجلاد مقابل الضحية) لخدمة الموقف الدرامى القاسى.. أو كما أراه خشنًا.. إذ ينضوى على سرد درامى لأحداث تاريخية وقعت بالفعل هذه الاحداث تحتاج إلى سرد معلوماتى حقيقى لتصبح بمثابة الوثيقة.. فالمسرح التوثيقى (الديكودراما) أكثر جفافًا من الدراما الاجتماعية وحتى العبثية.. فجاءت الحوارات قليلة ومكثفة، بلا زيادة بل فقط الجوهر الذى يوصل مشاعر الألم والقوة بميزان حساس اعتمد على اللغة الشاعرية خاصة فى حوارات ومونولوجات (رمزى)، كما تأثر كمخرج بالإطار الدرامى الذى أنتجه كمؤلف فوظف كل ما على المسرح بصريًا بدقة فلا مجال لـ(البحبحة والاستفاضة والبزخ) فهو سعى باقتدار للاقتصاد.. حتى لا يشتت انتباه الجمهور بعيدًا عن الممثلين حاملى القضية.. فالتركيز كله يجب أن يكون على حركاتهم، نظراتهم، صمتهم الذى يقول أكثر من الكلام.. هذه البساطة المحسوبة أطلقت القضية من المحلية إلى العالمية.. (فى أى زمان ومكان).. فها نحن نرى (الكرسى المتحرك والستار الفاصل ) كرمزين للعجز الذى يحاولون تجاوزه.
بين البريختية والديكودرامية
العرض فى مجمله ينتمى إلى المسرح السياسي/الوثائقى المعاصر.. أو كما أسماه غنام نفسه فى مقدمة نصه (المسرح الفرجوي)، مع استلهام واضح لأساليب المسرح الملحمى (البريختي) من خلال (كسر الجدار الرابع) فالممثلون فيما قبل البداية يُعرّفون بأنفسهم وبشخصياتهم ويخاطبون الجمهور مباشرة («ستكونون شهودًا على ما تعرفونه») وكذلك من خلال تداخل الأزمنة والشخصيات.. فالزمن مثلا ممتد من 1948 بل من لحظة مولد فاطمة 1930 وحتى لحظة العرض.. بالإضافة إلى أن اللاعب/ المؤدى، الواحد ينتقل بين حوارات الشخصيات دون فواصل، مما يؤكد فكرة أن الشخصيات فى شخص والشخص فى شخصيات”. كما أننى لاحظت عند قراءة النص وجدت أنه مكيّف للعرض المفتوح فهو لا يتضمن إشارات إخراجية محددة أو ملزمة، مما يعطى للمخرج فى أى مكان وزمان الحرية المطلقة فى بناء «بيت الحكاية المسرحية» كما يراها هو وحده وحسب معطياته.
ثلاثة ممثلين.. متلبسين بالقضية!
اختار المخرج مؤديين قادرين على التلون والتحول بين الأدوار المتعددة، حيث اتسما بالمرونة التى كانت مناسبة على كل المستويات.
فلم تكن فاطمة الهوارى سوى امرأة استثنائية مثلها مثل النساء الفلسطينيات تماما.. تلك اللائى تمتلكن عشرات الحكايا حتى وإن لم تستطعن إسبال الحكايا.. ولهذا جاء أداء رجاء بلمليح، لدور فاطمة استثنائيا معبرا بشكل كبير عن قيمية الشخصية ذاتها (لم تعن بالأداءات المختلفة فى فى الهيئة المتخيلة أو الحركة).. فقط ولكن اهتمامها كان (بفكرة فاطمة الفلسطينية التى تمثل الذاكرة والمبدأ والحكاية.. الماضى والحاضر والمستقبل) فتماهت مع كل هذه الأدوار متلبسة عمق الفكرة وقوة القضية) ظهر هذا واضحا فى تحولاتها الهائلة بين فاطمة الصبية (التى ترقص وتطرز) وفاطمة المسنة المشلولة (العنيدة على الكرسى المتحرك).. وكذلك المشهد الختامى (رقص فاطمة وهى تنهض عن الكرسى) والذى تعبر فيه بلمليح عن ذروة هذا التحول الجسدى الرمزى المتجدد. وإذا كانت رجاء جسد وقوام العرض فإن (أحمد العمري) هو قلبه وشغافه.. إذ قدم كلاهما تحولات الشخصيتين سواء النفسية أو الجسدية بشكل جيد.
فقدمت بلمليح فاطمة (مراهقة وعجوزا وقعيدة) وقدم العمرى مجموعة من الأدوار، أبرزها (دور الطيار الإسرائيلى آبى ناتان) والذى أداه بتحولاته النفسية والجسدية التى اتسمت بالحدة، وذلك إنما ليعكس حالة التناقض والرمزية فى الشخصية التى مرت بمراحل عدة أولها مرحلة الجلاد 1948 – 1995 والتى لم يظهر فيها فعليًا، لكن جسد الدور عبر الذاكرة المُحملة بالذنب عند فاطمة. وجاء صوته حادا عسكريًا باردًا آليًا أثناء إشارته لقصف ترشيحا.. ورغم غياب (العمرى) المادى (وقوفه فى منطقة مظلمة من المسرح) فإن حضوره كرمز للجريمة كان واضحًا.. أما التحول الثانى للشخصية والذى عبر عنه ببراعة فهى مرحلة تحوله من مجرم الظل إلى مجرم النور وذلك بظهوره كـ داعية للسلام.. ومحاولة الاعتذار واقتناص السماح من فاطمةعام.. 1995 وهنا تتجلى لحظة من لحظات التحول المهمة فى شخصيته وهى لحظة مواجهته مع فاطمة، إذ تظهر شخصيته المتلونة المتناقضة والمعقدة فى آن.. والتى أبدع العمرى فى أدائها وظهر كمن يرتدى مسوح المصلح الساعى للتكفير عن ذنبه، وفى ذات اللحظة نرى هذا السعى مغلفا بـ»غطرسة الاعتراف».. بمعنى أنه يتوقع (تكبرا) أن ينال عفو فاطمة مباشرة لحظة أن يعتذر!
وأجاد العمرى فى تلوين صوته بين اللهجة المهذبة وقت تقديمه للأسف، والارتباك والإحباط وقت رفضت فاطمة اعتذاره، ليكتشف المتلقى الفطن أن ما يسعى إليه ذلك المجرم ليست العدالة فى حد ذاتها (وإنما وفقا للأفكار الماكفيليلة النفعية البحتة) هى راحة ضميره.. ونأتى للتحول الأخير 2002 وهو حالة العجز بشكل جذرى.. إذ يصبح للطيار مشلولًا على كرسى متحرك، وهذا التحول ليس إلا انعكاسًا ماديًا للمأساة التى تسبب هو لفاطمة فيها.. وفى الأخير أرى أن قمة التحول الفكرى يتجسد فى تحول الطيار من ممثل للسلطة إلى رمز للعجز والخضوع للقدر.
أما شخصية (رمزى) خطيب فاطمة الذى لم تتزوجه، مع ظهوره واختفائه من وراء الستار والذى يتحدث شعرًا، وقام بأدائها (المؤلف ومخرج العرض) وأشدد على إعجابى بهذه الشخصية كتابة وأداء.. إذ إننى أراها تجسيدا (لرمز) المستقبل الضائع والحياة التى سُرقت من فاطمة بسبب نكبة 1948.. والذى كان من المفترض أن يكون زوجها، لكن إصابتها بالشلل حوّلت حياتها الطبيعية إلى زواج مؤجل من المأساة، حتى إن الكرسى المتحرك صار يرمز لهذا الواقع المؤلم. ومن هنا جاء أداء غنام لدور رمزى.. مغمورًا بالصوت الداخلى الذى لا يُرى جسد صاحبه بالكامل إنما يرى جوهره (فإخفاء الوجه) لم يستوجب إخفاء المشاعر وإظهار تجاعيد الصوت الذى تم تجسيده كعنصر هو الأهم على الإطلاق؛ فحرص غنام على أن يكون دافئًا.. عذبًا وحنونًا يلقى الشعر من أبعد نقطة فى روحه التى لم تتشوه. ليمثل الحب والحياة التى أوقفها الزمن عند العام 1948.
كما استطاع تجسيد هذه الشخصية (كطيف) وخلق كينونة خاصة بها تتمتع بإيقاعية عبر الكلمات الشاعرية الآسرة.. والرمزية المغرقة فى الحنين والتى تعكس المستقبل الجميل (المحتمل) الذى كان يمكن أن يكون، وليس الواقع المرير الذى حدث.. (الواقع الآني)
فنراه يقول بعدما تزغرد وقت ألبسها خاتم الخطوبة: (عاشقٌ يأتى من الحرب إلى يوم الزفافْ/ يرتدى بدلتَهُ الأولى/ ويدخلْ/ حلبة الرقص حصانًا/ من حماس وقرنفلْ/ وعلى حبل الزغاريد يُلاقى فاطمة/ وتُغنّى لهما/ كل أشجار المنافي/ ومناديل الحداد الناعمهْ).
وتصل ذروة الأداء بين (رمزى/ فاطمة) فى المشهد الختامى، عندما يمد رمزى المنديل لفاطمة. ولعل هذه اللحظة من أهم اللحظات مؤانسة وإنسانية.. تتجلى فيها لمسة الانعتاق الروحى حين نرى حركته المشتركة مع فاطمة فى الرقصة النهائية التى يستشعر الجمهور فيها بانتصار الذاكرة (فاطمة) والجمال (رمزي) على الشلل والعجز. إذ إنهما حينما يرقصان معها يحرر هو روحها من ثقل الكرسي.. وتحرره هى الأخرى من شبحيته ليصبح حقيقة تتجسد بالحواس.
وأبدع غنام فى أداء الدور (الشبحي) بظهوره من وراء الستار وصوته الذى يتحدث شعرًا.. مؤكدا أن الأداء ليس فقط بالوجه والملامح ولكن بالمشاعر والأحاسيس ودرجات الأداء المختلفة لمعانى (هنا والآن) ليقول لنا إن الحاضر (فاطمة) (مشلول) وأن الستار الذى يظهر من خلفه دوما يمثل الحاجز الفاصل بين ما كان يمكن أن يكون (الحياة مع رمزى) وما حدث فعلًا.. فرمزى هو صوت الحق الذى لا يقبل المساومة، مذكّرًا بأن ثمن الجريمة لم يكن فقط أرضًا، بل فقدان الحب والكرامة الإنسانية.. لذلك، نجد عندما يظهر الطيار معتذرًا، يصبح رمزى هو الدليل القاطع على أن لا اعتذار ولا تعويض مادى يمكن أن يعيد الجمال المسلوب.. ولعل هذا هو السبب الجوهرى وراء قرار فاطمة الحاسم: بألا.. «لا تصالح».. فالسلام لم ولن يكون استسلاما كما يريدون.. فى النهاية وكما سبق وأن استدعيت مقولة سلفادور دالى عن السلام والحياة فى المقدمة.. أرانى وبعد رحلتى المتأملة مع عالم فاطمة.. آمل أن أرى السلام الذى تمناه الفيلسوف الهندى «أوشو» حينما قال: «إن السلام ليس غياب القوة، ولكنه حضور الحب»! فهل تحدث المعجزة؟!