البقاء لمن يملك سلطة التأثير في «هاملت بالمقلوب»

البقاء لمن يملك سلطة التأثير في «هاملت بالمقلوب»

العدد 766 صدر بتاريخ 2مايو2022

السياسة والدين والجنس، ثالوث مقدس يخشى الناس الاقتراب منه لما فيه من إشكاليات لا يتقبلها الجميع، باعتباره كما يعتقدون تهديداً للقيم المجتمعية، وبطبيعة الحال فالواقع الذي نعيشه يثبت خطأ أعتقادهم هذا .
أكثر النقاط التي تميزت بها النصوص المسرحية للكاتب الإنجليزي شكسبير إنها تحتوي علي مادة خام للأفكار التي يمكن الاستلهام منها مهما مر عليها سنوات بل قرون لخلق عمل فني أخر، بجانب أن هذه الأفكار لا تختص بزمن أو مجتمع بعينه فيمكن تطويعها لتناسب أي عصر ومجتمع مما أكسب نصوصه الملمح العالمي الإنساني . فمسرحية هاملت بالمقلوب التي عرضت علي مسرح السلام/المسرح الحديث للمخرج مازن الغرباوي هي استلهام من النص المسرحي الشهير هاملت أمير الدنمارك المتضمنة من الناحية الحكائية لها: أن هاملت الشاب الذي عاد من إنجلترا بعد وفاة والده أكتشف أن هذه الوفاة ليست وفاة طبيعية كما أشاعوا و إنما هي جريمة قتل من تخطيط أمه و عمه اللذان تزوجا عقب الوفاة بوقت قصير فيسعى للانتقام منهما، وذلك الاكتشاف كان نتيجة ظهور شبح والده المقتول له والذي أخبره بما حدث، بينما هاملت بالمقلوب من تأليف سامح مهران تحكي عن هاملت الذي عاد من إنجلترا عقب وفاة والده ويريد ظاهرياً الأخذ بالثأر لمقتله ولكن في طيات ذلك الانتقام تكمن رغبته في اعتلاء الحكم بدلاً من عمه المتسبب في مقتل والده بالتخطيط مع أمه .
و هنا داخل نص و عرض هاملت بالمقلوب نجد أن رسم شخصية هاملت التي قام بدورها عمرو القاضي أختلف كثيراً عن النص الأصلي فنجده بالتوازي مع شخصية كلاوديوس التي قام بدورها أيمن الشيوي يعدان نموذج للحاكم السياسي الذي يعتلي حكمه علي مدار التاريخ شرقاً و غرباً بخلق معادلة يخلط فيها الدين بالجنس يتوسطهم السياسة لخلق نظام حكم يمكنه السيطرة من خلاله علي شؤون الدولة أو المملكة التي ينصب حاكماً أو ملكاً عليها .
فهاملت الذي أدعى الجنون / أدعوه الجنون في طيات رغبته الانتقام سار ضمن هذه المعادلة، حيث بإتقان شديد من الناحية الأدائية جعلنا نصدق عزوفه عن الشهوة الجنسية التي تمثلت في مشهد يعد الأجرأ علي مدار العرض وهو قطعة ديكور/أكسسوار علي شكل قدم ذهبت وتحدثت إليه بصوت أنثوي و حركات إيحائية ينمان عن الإغراء بأنه لا يمكن ألا ينجرف ناحيتها، حتى نكتشف زيف عزوفه هذا في مشهد مواجهته مع أوفيليا حبيبته التي قامت بدورها سمر جابر حيث حاول التقرب منها أولاً وما أن سنحت له الفرصة من ناحية أن يتقرب من عمه كي يكسب ثقته مما يسهل عليه انتقامه منه و من ناحية أخري الانتقام من أوفيليا بسبب علاقتها الغرامية مع عمه فأخذ من الناحية الجنسية مسلكاً يتوافق مع غرضه كما ذكرت أعلاه و راح يوشي كذباً بأن أوفيليا «تراوده عن نفسها» بعد أن قدم دليل عفته إلى عمه .
وكان هذا المسلك ما أتخذ منه كلاوديوس أيضاً ذريعة لإزاحة هاملت عن الحياة السياسية بعد أن وعده بخلافته سياسياً من خلال العنصر الأكثر وضوحاً للمعالجة المعاصرة للعمل و هو عنصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تم استخدام سلطة وسائل التواصل الاجتماعي من حيث تأثيرها على المجتمع و الرأي العام من خلال عرض مقاطع لنساء توثق من خلالها كذباً بأن رجال هاملت الحاكم المنتظر يتحرشون بهن ويسلبن شرفهن و ذلك يشكل خطراً علي البلاد فأتخذ ذلك كله المنحي الحقوقي المعني بالمرأة، و كانت تلك خطة وضعها كلاوديوس و الراهب بولونيوس الذي قام بدوره خالد محمود، الجدير بالذكر هنا في هذا المشهد هو الاستخدامات المتعددة على مستوى الديكور و الإضاءة لدكتور صبحي السيد حيث كان يتم عرض ما يتحدث به الممثلون مسلط ببروجيكتور علي قطع الديكور المثبتة علي خشبة المسرح مما أعطى أولاً إبهار بصري للجمهور من ناحية و من ناحية أخرى الصدى الذي يمكنه الانتشار في كل مكان من خلال هذه الوسائل التي تنتشر علي مقدمة المسرح من قبل الممثلين و وجودهم أيضاً في الخلفية و هو ما يشير إلى الفاعلية التي يمكن أن تحدثها هذه الوسائل من تأثير خارج حدود فضائها  -خارج الفضاء المسرحي-، 
وهذا العنصر أيضا تم استخدامه كسببية نعرف من خلالها أن سبب القطيعة بين هاملت وأوفيليا جاءت نتيجة معرفتها من خلالها عن نزواته في إنجلترا في مشهد غلب عليه قدر من المبالغة على مستوى التمثيل الذي راح يتسم بصراخ واستعراض للقدرة الصوتية والأدائية دون التركيز علي التنقل بين العديد من التحولات علي مستوي المشاعر التي من المفترض أن تتخذ موضع الصعود والهبوط والتلوين الصوتي كدلالة علي تغير هذه الحالات، وأيضاً جعل من الكلمات ومخارج الحروف غير واضحه في هذا المشهد وعدد من المشاهد التي أتسمت بصراخ في الأداء الصوتي. وبالعودة إلى الديكور يجدر الإشارة إلى أن العرض استخدم عدد هائل من الديكورات بداخله منها له توظيف درامي واضح و منها لم يكن ذات توظيف حيث تم استعراض القدرة الإخراجية في مزج العناصر المكونة للعرض المسرحي من ديكور و إضاءة و ملابس مروة عودة التي تنوعت بين القديم و المعاصر و دراما حركية و موسيقي لطارق مهران بشكل خدم العرض علي مستوي الصورة البصرية و الحالة الشعورية و ما أحدثته من تأثير إيجابي على الجمهور.
و إذا ذهبنا إلى ما يشير إليه أسم العرض نجد أنه بالضرورة و بالتبعية يتنافى مع أسم العمل الشكسبيري و ما يتضمنه هاملت من سمات شخصية، فهاملت شكسير كان متأرجحاً بين الفعل و اللافعل بين الثأر و التراجع نتيجة أحداث و ملابسات تخص النص و رسم شخصيته فيه،  بينما هاملت هنا بالمقلوب صاحب فعل من خلال التنقل بين العديد من التحولات في شخصيته الأدائية الظاهرية لنا و ليست الحقيقية، فهو منذ بداية شخص يرغب في السلطة و نجح بإقناعنا أنه أولاً مجنون و زاهد الحياة في مشهد القدم كما ذكرت أعلاه ثم يتبعه مشهد انتقامه من أوفيليا مروراً بمشهد الحاكم الذي يشغله رعاياه ويسهم في تنفيذ الأعمال الخيرية من خلال حوار استعراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى المشهد الذي كشف عن وجهه الحقيقي الطامح في السلطة في مشهد طغى عليه الظلام إلا من الكشافات التي وضعت أسفل وجهه من قبل أصدقائه حيت مكوثه علي الأرض بضحكة تنم عن زييف كل ما عرفناه عنه طوال العرض فانسحبت الأضواء من تحته كاسراً توقع المتلقي بشكل صادم فلا يثنيه شبح والده الذي قام به خالد الصاوي عن التراجع في مسعاه و لا نصح أصدقاءه له، وهذا يحيلنا إلى دلالة الجملة الشهيرة عن تلك الشخصية والتي تختلف وفقاً لرسم الشخصية في أعمال أخرى والتي وردت علي لسان القاضي في هاملت بالمقلوب «أكون أو لا أكون تلك هي المسألة» فهاملت شكسبير كما ذكرت كان صاحب لا فعل و ذلك  ما أثار تساؤله بعدما رأي جنود جيش فورتنبراس يذهبون تجاه أرض لن يجنو منها شئ و لكنهم مستعدين لذهاب أرواحهم تجاه قضية ربما يخسرون بها أرواحهم،  بالتوازي مع عزم لايرتس الانتقام ممن قتل والده مهما كلفه الأمر بينما هو يقف عاجزاً و لا يستطيع الانتقام لوالده المقتول،بينما هاملت في هاملت بالمقلوب هو صاحب فعل حقيقي كما ذكرت أعلاه، إذاً هناك فارق جوهري تتضمنه الشخصية في العملين، فليس كل هاملت أما يكون أو لا يكون .
لعب التأليف على تحويل هام أولاً على مستوى الشخصيات  متمثل في جعل بولونيوس راهب بدلاً من وزير لبيان و إيضاح تحالف السلطة السياسية مع الدينية كدرع واحد تجاه مصالحهم و ثانياً على مستوى العلاقات بجعل اوفيليا حبيبة لكلاوديوس كسببية أن لهاملت حق إلانتقام من الجميع و ليس هناك أحد يمكنه أن يقف أمام رغبته و جموحه السلطوي، يضعنا هذا كله بصدد التنافس من خلال اللعبة التي يقوم بها هاملت وكلاوديوس فراح كلاً منهما يلعب على الظهور أمام الرأي العام، فهاملت الذي يسعي زيفاً لتوطيد العلاقة بينه وبين أفراد المجتمع وكلاوديوس الذي يخشى ظاهرياً من بطش الحاكم المنتظر فيحيله للقضاء،  وهو ما يشير إلى التنافس بين قوي ليست متضاده أبداً كثنائية الخير والشر علي سبيل المثال بل صراع يتخذ شكل الجانب الواحد من الثنائية .


بسنت البغدادي