محاكمة واد من جنوة.. قراءة مسرحية مرتبكة

محاكمة واد من جنوة.. قراءة مسرحية مرتبكة

العدد 564 صدر بتاريخ 18يونيو2018

المسرح المصري له باع طويل مع المسرح الغنائي حيث السرد الدرامي من خلال الأغاني سواء الجماعية أو الفردية، وهناك تراث ضخم من العروض التي أبدعها الموسيقيون المصريون عبر أجياله المختلفة كسلامة حجازي، سيد درويش. يكاد يكون شكل المسرح الغنائي هو أول بذور تأسيس المسرح في العالم العربي، يرجع ذلك إلى سياق زمني وتاريخي مرت به مصر تحديدا أثناء الاحتلال البريطاني، ومن ثم أصبحت تسلية الجنود أمرا ضروريا؛ فتكونت فرق مسرحية أو تم استقبال فرق من الخارج من أجل هذا الأمر. سلامة حجازي يعد رائدا في المسرح الغنائي، وأضاف كل من بعده داخل هذا الاتجاه، لكن ظل شكل الاسكتشات الهزلية لفترة طويلة في تاريخ المسرح المصري وامتدت إلى علي الكسار وإلى أن اتخذت الكوميديا طابعها الخاص مع نجيب الريحاني، من بعده فؤاد المهندس، نهايةً بالأنماط الجديدة الحالية التي تعتمد على الدمج بين الاسكتشات الهزلية أو الكوميدية والشكل الغنائي؛ الذي سار في دربه تجربة “مسرح مصر” الآن. كأن مرور الزمن لم يضف تطوره الإيجابي على المسرح المصري وما زلنا عالقين في الصورة الأولى التي تعرفنا من خلالها على المسرح. أو أن البنية الثقافية الخاصة بالجمهور المصري تقف على أرضية مشتركة مع هذا النمط المسرحي رغم تلون أشكاله وأطروحاته المتقلصة، لكن أشكال السلطة المتمرسة على المصنفات الفنية - التي يجوز أن تصبح من داخل المسرحيين أنفسهم - رسخت رفض استقبال وقلة جماهيرية الأنماط الأخرى.
الدافع وراء تلك المقدمة وجود الكثير من العروض المطروحة في مسرح الثقافة الجماهيرية ونوادي المسرح أيضا يجدون في ذلك القالب المسرحي استسهالا لتقديم تجربتهم المسرحية، والاعتماد على هذا القالب حتى لو كانت البنية الدرامية للعرض شديدة الجدية والحساسية مع الواقع وفي حاجة لمجهود لطرحها، كما حدث مع العرض المسرحي المقدم في المهرجان الختامي لفرق الأقاليم من فرقة البحيرة القومية (محاكمة واد من جنوة) عن نص (إيزابيلا وثلاث سفن ومحتال) من نموذج المسرح الإيطالي داريو فو، دراماتورج العرض دكتور سيد الإمام، إخراج أحمد عبد الجليل.
صُنع فضاء العرض بالأساس من عالم النص المكتوب، خاصة التعامل مع نصوص داريو فو التي حققت نموذج المسرح السياسي الشعبي الذي سعى له الكثير من المسرحيين في العالم. فضاء مليء بالألوان من خلال الملابس والديكور المكون من ثلاثة مجسمات كبيرة تتشابه مع تماثيل للآلهة. شخصيات في حركة مستمرة وتنتمي إلى كوميديا ديلارتي التي تعد أحد أشكال المسرح الشعبي في العصور الوسطى. ذلك المزج بين المسرح الشعبي وشخصيات كوميديا ديلارتي والمسرح الملحمي أيضا، ما كان يرفع لافتة المخرج طوال العرض. والسعي لتحقيق النموذج داريو فو تحول إلى شكل هزلي غنائي وخطابي سطحي. حيث ارتكز العرض على صراع الدين والعلم خاصة أثناء سيطرة الكنيسة في أوروبا واكتشاف كريستوفر كولومبوس للعالم الجديد. من هنا يأتي اسم العرض (محاكمة واد من جنوة) حيث إن جنوة مدينة إيطالية أتى منها كريستوفر كولومبوس وأثناء خطواته لتحقيق رحلته إلى اكتشاف العالم الجديد تلاقى مع ملكة إسبانيا إيزابيلا وزوجها فرديناندو ومن ثم تعرض للمحاكمة.
اقتنص العرض الفترة الزمنية المرتبطة بانحدار أوروبا نتيجة هيمنة الكنيسة آنذاك ويقابله تقدم العرب في عدة مجالات. وتحولت إلى فرصة إلى إقحام واقعنا الحالي داخل هذا الزمن، قد يتشابه في هيمنة الخطاب الديني ولكن لم يواجه العرض الجمهور بأي دين يتحدث عنه، وبالتالي اهتز في أطروحته داخل صراع الدين والعلم لأنه معترف ضمنيا بصلاح هذا الدين بين سطور العرض وفي نفس اللحظة يؤمن بأن العلم في إمكانه كسر سلطة الدين. وعلى الجانب الآخر جسد شخصية كريستوفر كولومبوس في شخصية مهرج المتقارب مع أرليكينو في صورة المخلص والنبي لهذا الشعب أي صنع من العلم لاهوت. العرض لم يحدد موقفه من الأساس بين أطراف الصراع سواء بالعلم أو الدين وتشتت داخل أحداث فرعية جاءت مُقحمة وغير متجانسة مع أطروحة العرض، كأن نعيش داخل العرض فترات ملل البحارين أثناء رحلتهم مع كريستوفر كولومبوس وحيرتهم في المشهد الغنائي في تناول الجمبري والسمك أم تناول الأكلات الشعبية! وهناك صراع أزلي لم نمسك خيوطه من خلال العرض وتائه بين تطويل الأحداث وعدم وضوح المفاهيم.
ينتهي هذا الصراع الأزلي من وجهة نظر العرض بالخطابية وبعد دخولنا في عوالم كثيرة، يتم تلخيص العرض في كلمات واضحة وخطابية، كأن كل الزمن الماضي مع العرض مر عبثا للتسلية وأملا في الضحك. خطابة تعلي من التضخم في الذات الجماعية مليئة بالشيفونية والتعصب المتعالي كوننا عربا في زمن ما، كنا أكثر تقدما من الغرب. اكتشاف العرب لأسرار الكون في حين لم يكن هناك تحديد من مكتشف هذه الأسرار هل المصري القديم على حسب ما قيل في بداية العرض، أم أنها اكتشافات من المفكرين العرب. واستكمالا للتصور المثالي في نهاية العرض ظهر الطفل/ الأمل في زي أسود. وإذا نظرنا إلى هذه الدلالة سيميولوجيا هل سترمز إلى استمرار هيمنة الدين حيث الزي الأسود الذي يتشابه مع ملابس كهنة الدين أم فقدان الأمل؟!
ارتبك العرض في طرح أطروحته وفي تنفيذها مسرحيا حيث طرق على باب المسرح السياسي الشعبي الخاص بداريو فو، وطرق على باب المسرح الغنائي المتقارب مع الاسكتشات الكوميدية. والرغبة في تقديم وجبة متكاملة الشكل والقيمة، فقدت اللعبة المسرحية زهوها.


سمر هادي