تلك الليلة تشريح للفساد الطبقي في المجتمع

تلك الليلة تشريح للفساد الطبقي في المجتمع

العدد 543 صدر بتاريخ 22يناير2018

تمضي بنا الأيام وتكثر الذكريات، وقد ننسى أحداثا كثيرة مهمة في حياتنا أو نتناساها عمدا لأنها قد تشكل لنا إزعاجا أو تهديدا لاستقرار الحياة، لكن أشباح الماضي قد لا تتركنا بل تظل أخطاؤنا الماضية تطاردنا مهما عدت عليها من سنون، أو تنزل بنا العقاب الدنيوي في وقت متأخر طالما أهملناها ظنا منا بأنها لا أهمية لها. ومن هنا سطر المؤلف والمخرج محمد عبد الخالق خيوط فكرته وبنى رؤيته في عرض مسرحية (تلك الليلة) التي تعرض على مسرح مركز الهناجر للفنون.
يبدأ العرض في جو عتيق وكئيب يتكون منظره من صالون قديم مترب متهالك نستكشفه من خلال إضاءة صفراء خافتة، ورجل مسن (أشرف) يحكي لنا ما حدث منذ أعوام مضت، فندخل أحداث العرض بكتنيك الاسترجاع (الفلاش باك) فيتذكر أشرف يوم أن قام بدعوة مجموعة من أصدقائه القدامى الذين كانت تجمعهم معا صداقة قوية منذ أيام الشباب، حيث دعاهم للاجتماع معا في الشاليه الخاص به في منطقة العجمي، فيصل كل منهم على حدة وجميعهم شخصيات مرموقة ومشهورة في المجتمع؛ الشيخ (فاضل) أحد مشايخ الإعلام والفضائيات، و(فكري) مستشار بالسلك القضائي، و(حسن) مطرب مشهور، ثم (حاتم) ضابط الشرطة، حيث يتعجب الجميع من دعوته لهم جميعا في هذا المكان منذ أن تفرقوا كل في طريق مستقبله وعمله وحياته الخاصة، فيكشف لهم سر الدعوة حيث يذكرهم بليلة قضوها معا منذ عشرين عاما في نفس ذلك الشاليه بعد تخرجهم من الجامعة وقضوا سهرتهم بشرب الخمر وتعاطي المخدرات حتى أتتهم (حبيبة) الخادمة وقاموا جميعا بمعاشرتها جنسيا، فيخبرهم أشرف الذي يمثل الفرع الأرستقراطي الغني ابن الذوات بينهم بأن تلك الفتاة قد حملت وأنجبت طفلة من تلك الليلة وقد أصيبت الطفلة بمرض في الكبد، وتحتاج الأم لمعرفة من منهم والد تلك الطفلة التي صارت شابة الآن، فيعترضون جميعا ويحاولون التهرب من الأمر إلا أن حضور السيدة (حبيبة) بنفسها بالاتفاق مع أشرف كان مفاجئا لهم، فعرضوا عليها المال مقابل كتمان الموضوع إلا أنها رفضت لأنها لا تريد معرفة الأب من أجل المال فهي تعمل راقصة وتملك من المال الكثير، لكن الابنة ستجري عملية جراحية وتحتاج للأب كي يعطيها فصا من كبده كي تعيش، حيث أعلن الأطباء عدم صلاحية كبد الأم لها، يثور الجميع ضد أشرف خصوصا عندما يعلمون أنه كان على علم بكل هذا وأنه متواطئ مع السيدة لدعوتهم في الشاليه لا سيما عندما يخبرهم أنه قد أجرى تحليل (DNA) وقد تأكد أنه ليس والد الفتاة، ويطلبان من الجميع إجراء نفس التحليل لمعرفة الأب لإنقاذ الفتاة، فيرفضون جميعهم وتضطر (حبيبة) لتهديدهم بفضحهم أمام المجتمع وأسرهم ويكتشفون أنها قامت بتسجيل هذا اللقاء بالصوت بالموبايل فلا يجدون سبيلا سوى قتلها رغما عن أشرف الذي عجز عن إنقاذها بل ويقتلون أيضا سائق التاكسي المسكين الذي شاهد الجريمة عن طريق الصدفة حتى يخفون جريمتهم كاملة. ويظل يعيش أشرف عاجزا بين جدران الشاليه حتى يطعن في السن، يجتر وحيدا أحزانه في النهاية مرددا: (تلك الأحداث المبنية بقلوب ميتة حية لن يمحوها النسيان تلك الأشياء لن يهزمها خرف الشيخوخة تلك الليلة لن يمحوها إلا الموت أين ملائكة الموت مني أين ملائكة الموت منهم أين ملائكة الموت شهود الليلة).
نحن أمام رؤية واقعية بل طبيعية أيضا حاول من خلالها المخرج تشريح بعض فئات المجتمع وكشف الزيف الذي يختبئ خلفه كثير من رموز المجتمع والأشخاص الصاعدون في أعلى الهرم الطبقي، فيقوم بتشريح المجتمع مبينا أنه مجتمع مفكك ومهترئ من الداخل وأن ما يبدو عليه من ظاهره اللامع ليس إلا بريقا يخفي خلفه أمراضا اجتماعية في نفوس أفراده وفسادا أخلاقيا كبيرا، ويعرض لنا ذلك من خلال عدة نماذج منها رجل الدين المشهور في قنوات التلفاز الذي يوجه الناس وينصحهم ويفتي لهم بالحلال والحرام لكنه في حقيقته مزواج ومخادع كما أنه في الأساس هنا يحمل خطيئة كبيرة تتمثل في شرب الخمر والزنا في شبابه وإذا كان نسيها أو استبعدها من تاريخه بمرور الزمن إلا أنها طاردته بعد عشرين عاما وعليه الآن أن يثبت صدق توبته ونقاء سريرته التي يتظاهر بها أمام الناس غير أنه يكشف عن العكس تماما بل يزيدها بالمساهمة في ارتكاب جريمتي قتل لإخفاء الجريمة الماضية. ثم نجد ذلك المستشار رجل القانون الذي يحكم بين الناس بالعدل ويقيم القسط في المجتمع وهو يمثل سلطة عليا يفترض فيه النزاهة والحيادية والحق ومراعاة الله والضمير في كل أفعاله لكنه عندما يصل العدل إلى شخصه يتهرب منه ولا يحققه، وكذلك ضابط الشرطة حيث يوجه العرض مجموعة من الانتقادات لفئة ضباط الشرطة على لسان أبطال العمل حول تفشي الوسائط والمجاملات واستغلال السلطة والنفوذ في المصالح الشخصية، كما يوجه العرض انتقادا للمطرب المشهور الذي يقدم أشكالا سيئة من الفن الرديء التي تهدم المجتمع وتفسد العقول مقابل الشهرة والمال، وكل هؤلاء يمثلون الطبقة المتوسطة بعدد من فئاتها كنموذج لفساد واهتراء تلك الطبقة، ونرى في المقابل نموذجين يمثلان الطبقة الأدنى وهما سائق التاكسي الأجرة الذي قام بتوصيل الشيخ للشاليه، هو يحلم بحياة أفضل وارتقاء في مستوى المعيشة ويقوم بخدمة من هم أعلى منه، في كشف من المؤلف بأن الأدنى دائما هو خادم للطبقة الأعلى منه، لكنه يواجه باحتقار ومعاملة سيئة ومتدنية من الجميع لا سيما ضابط الشرطة الذي يحاول تطبيق ما يعتقد أنه حس أمني عليه مبرزا (بارانويا) العظمة والعقد النفسية التي تصيب ضباط الشرطة فتؤدي بهم للتعالي على أفراد الشعب وسوء معاملتهم اختباء خلف مناصبهم. أما النموذج الثاني للطبقة الأدنى فهي تلك الخادمة التي استحلها الجميع وهي مجرد فتاة فقيرة تبحث عن لقمة العيش، ثم تركوها في مهب الحياة لتواجه صراعاتها وحدها حتى صارت راقصة وإن وصلت لمرحلة كبيرة من الغنى الفاحش كما ذكرت في حوارها معهم، ثم يتخلون جميعا عنها وعن بنتها المريضة التي هي ابنة أحدهم حتى يتخلصوا منها تماما هي والسائق، في إشارة إلى أن تلك الفئة الفقيرة في المجتمع لا مكان لها للعيش في تلك الغابة الكبيرة، وأن ما يحدث في المجتمع الآن من غلاء وارتقاء لفئات معينة وسيطرتها على مقدرات الحياة، من شأنه القضاء على تلك الفئات المهمشة في المجتمع ابتداء باتساع القيم الطبقية السيئة. ثم نأتي (لأشرف) ذلك النموذج الذي يمثل الأرستقراطية السلبية حيث إنه رغم المثالية التي يحاول إظهارها ومحاولته مساعدة الخادمة ووقوفه بجوارها في محنتها، كما كان يدافع عن السائق في مواجهة ضابط الشرطة، فإنه يحمل أيضا نفس الخطيئة ولم يستطع أن يغير شيئا من الأمر فهو في الحقيقة عاجز كما ظهر من عكازه الذي يتعكز عليه طوال العرض، وبالطبع فإن هذا العجز الظاهري ينطوي على عجز داخلي في الفعل موضحا طبقة ليس لها فاعلية في المجتمع سوى أنها طبقة مستهلكة فقط، تعيش وتشتري وتنفق ببذخ لكن ليس بيدها أي فعل إيجابي تجاه بقية فئات المجتمع.
عمل المؤلف، وهو نفسه المخرج، على توظيف أسلوب الاسترجاع لبعض اللقطات من داخل العمل عدة مرات لكسر حدة كلاسيكية التناول الدرامي، لكن ذلك لم يقلل من رتابة النص والعرض. كما حاول الممثلون أيضا تخفيف المبالغة في تلك التقليدية بإلقاء بعض النكات الخفيفة التي جاءت تقليدية أيضا.
قام المخرج بتوظيف ديكور واقعي، صممه د. سمير شاهين، يمثل عدة مستويات، الأول به صالون قديم عتيق مترب، الثاني يحتوي على معظم الأحداث في بهو داخل الشاليه ذي جدران عالية تشبه جدران السجن في أعلاها فتحات تشبه القضبان، فيبرز لنا ذلك القيد الذي يعيشه هذا الأرستقراطي في ذلك المكان المنعزل عن العالم وعن بقية المجتمع، أما المستوى الثالث فهو غرفة نوم منعزلة عالية لم يكن لوجودها في الديكور أي داع. اعتمد المخرج على موسيقى مسجلة مع عزف حي للترومبيت قام به العازف وائل سعد أضفى تأثيرا سمعيا جيدا، ومؤثرات صوتية واقعية لصوت البحر والموج لبيان المناخ الخارجي للشاليه على شاطئ البحر تأكيدا لطبيعية التناول الدرامي, كما كانت الإضاءة لمدحت عزيز أيضا واقعية عبارة عن إنارة معبرة عن طبيعة المكان. وكان اختيار المخرج لمجموعة الممثلين مناسبا لكل منهم في دوره وإن كان الأداء التمثيلي غلبت عليه المبالغة في الكلاسيكية خصوصا للمستشار فكري والشيخ فاضل، لكن استطاع كل منهم توصيل إحساس الشخصية التي يؤديها، فقام بدور السائق سيد عبد الخالق وكان أداؤه منضبطا وجيدا مع الشخصية، الضابط (حاتم) محمد نديم الذي كان تلقائيا في أدائه، الشيخ (فاضل) سعيد مصطفى تميز بخفة الظل، (حبيبة) هايدي عبد الخالق أجادت في تجسيد معالم الشخصية بموهبة وخبرة، الفنان (حسن) إبراهيم غريب كان مناسبا في دور المطرب الشعبي، المستشار (فكري) شريف أبو وهيب كان محاولته لانتزاع الضحكات بتقليده لأداء الراحل عباس فارس يحسب ضده كممثل، صاحب المنزل (أشرف) أشرف سرحان الذي نجح في أداء دوره ببساطة ويسر يحسبان له.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏