العدد 599 صدر بتاريخ 18فبراير2019
ضمن مهرجان الاكتفاء الذاتي قدم لطلاب كلية الألسن جامعة عين شمس عرض “أول من رأى الشمس”، ودون السعى لمقدمات تشويقية عن العرض، فقد تكفل (محمد عبد الرحيم) المسئول عن دعاية العرض، مهمة التشويق والترقب وجمع أكبر عدد من الجمهور المتابع وغير المتابع للمهرجان عبر فكرة مبتكرة تمثلت في وضع ملصقات للبحث عن مواطنين مفقودين من يوغسلافيا، على جدران وعواميد كلية الألسن، وهو يعتبر المستوى الأول من مستويات الحقيقة والوهم الذي يغلف العرض.. فمن ناحية، يعود العرض إلى وقائع قديمة تعود لعام تتمثل في اختفاء عدد من المواطنين في دولة يوغسلافيا إثر الحرب الأهلية. ومن ناحية أخرى، فالعرض يعود إلى اللحظة الراهنة التي يقدم فيها فريق مسرح كلية الألسن عرض “أول من رأى الشمس” عن هؤلاء المفقودين، أن الفكرة الدعائية للعرض جعلت اللعبة المسرحية والوهم حقيقة للمتلقي، بل جعلته مشاركا في رحلة البحث عن المفقودين مع أهاليهم قديما، ليفاجئنا العرض بأنه يرينا حالة المفقودين وليس حالة مفتقديهم وأهاليهم.
أما عن المستوى الثاني من الحقيقة والوهم، فيرتبط بدراما العرض، حيث نكتشف مع تلاحق المشاهد أن هؤلاء المفقودين اكتشفوا مخبأهم الذي هو قبو أحد المنازل أو على الأدق شخصية (نيكولاس) الذي كان يمثل قائد المجموعة التي التحفت بالقبو كمخبأ لهم، هو من اكتشف المكان، ولكن يمر على وجودهم خمسة أعوام دون أن يعرفوا بأحداث العالم الخارجي، خمسة أعوام لم يروا بها الشمس وهو سبب بديهي لتسمية النص بـ”أول من رأى الشمس”، إلى جانب أن الشمس والنور يحملان معنى دلاليا تعبيريا المقصود به الحقيقة، فخلال وجودهم بالقبو لا يصل إلى مسامعهم من القادة السياسيين - عبر صوت إذاعة راديو - سوى كلمات تعينهم وتصبرهم ولا يكتشفوا أنه شريط مسجل ليظلوا مختفين، وأن الحقيقة هي أن الحرب انتهت منذ زمن.
وخلال هذا الزخم والتضارب ومحاولة فهم سبب وجود هذه الشخصيات في هذا المكان، الذي وضحه الديكور - عمل أحمد فتحي - على أنه مأوى مكان مهجور ليس به حياة آدامية، يوجد سلم يصل من يصعد عليه لباب الخروج للحقيقة والسكينة التي بالخارج وعدم وجود حرب، ولكن لم يكن هناك داعٍ لوجود شباك ضمن الديكور، فإحدى عبارات العرض كانت أنهم لم يروا الشمس، ولكن القضية أنه لم يقتصر الأمر على عدم رؤيتهم لها بل بشعورهم بها ودفئها في حالة قطع تواصلهم مع العالم الخارجي، ولكن المميز في الديكور أنه على الرغم من وجوب تصويره لحالة فقر المفقودين وعجزهم، فإنه لم يكن مسرحا فقيرا وأعطانا صورة شبه كاملة لما يعيشونه، فحتى وسيلة الإضاءة للقبو كانت لمبات صفراء متدلية للإنارة، لذا لم تطفأ على مدار العرض، وهو ما يأخذنا للحديث عن الإضاءة التي نظن أنها توقفت عند وجود هذه اللمبات، عندما لا نرى ألوان أخرى تعبر عن المشاعر أثناء الحوار بين الشخصيات أو حتى المونولوجات، ولكن التركيز مع انبعاث الضوء وتركيزه على شخص يعلم الحقيقة كالسكير جوربش وتخفيف حدة الإضاءة الصفراء في أوقات أخرى كان يعبر عن مضمون العرض الذي يحاور كل إنسان ولا يقتصر على حادثة وحرب يوغسلافيا التي تعود لعام 1979، فيجعلنا نخرج من العرض نطرح على أنفسنا عدة أسئلة، من ضمنها: هل إذا عرفنا حقيقة بعض الأمور في حياتنا سنتقبلها أم نرفضها؟ وهل محاولتنا لعدم الإقرار بالحقائق مبرر لتصديق الوهم؟ كمن (يكدب الكدبة ويصدقها)، وهل يمكننا التسامح مع من أخفى الحقيقة لحدتها؟ الكثير والكثير من الأسئلة، وليست فقط بسبب حقيقة انتهاء الحرب المخفاة عن المفقودين، ولكن لتباين الشخصيات فمنهم من كان يعلم الحقيقة لاستطاعته على الخروج والدخول للقبو كجوربش السكير الذي يمكن أن تتعاطف وتبرر سكره بأنه وسيلة هروبه من الحقائق التي يعلمها ولا يستطيع البوح بها، حتى إنه يعلم حقيقة موت ابن لوالدين معذبين مختبئين مع البقية داخل القبو، ولكنه في حواره مع القائد (نيكولاس) يقول له: “الأمل الذي في أعينهم أهم من الحقيقة”، ويكمل له بأنه إذا حاول إخبارهم لن يصدقوه وسيظلوا متمسكين بأمل وجوده.
أما عن ثاني الشخصيات التي كانت تعلم الحقيقة، فهي فتاة ولكن سبب عدم إخبارها هو استغلالها هي والمنظومة التابعة لها لهؤلاء المفقودين ولإنتاجهم للمتفجرات اليدوية الصنع، حتى إن تشييع البلبلة وفض سكينتهم وانتظارهم بوجود خائن بينهم، وهو ما نعتبره حبكة العرض، كي تتبدد الحقائق بين الشخصيات وليس فقط حقيقة انتهاء الحرب ولكن حقيقة خيانة الحبيبة، وصعوبة وجود الحب، وحقيقة تجريد وضعهم للرتب، مثل وجود جندي وجندية (نينو) يناديها رئيسها باسم مذكر ويرفض محاولاتها لتذكرها أنها أنثى.
وبالحديث عن الجندية (نينو) يجب الإشادة بأداء الممثلين والتزامهم وتصديقهم للحالة، والجدير بالذكر أن رغم صعوبة وقع الحقيقة على المتفرج وعلى الشخصيات التي بداخل الدراما أيضا، فإن مخرج العرض (فادي أيمن) يخفف من هذا الوقع من خلال الكوميديا، وهو إذا ما بحثنا أصوله فهو الفعل الذي يلجأ إليه الإنسان وبالأخص المصري عند وشعوره بضيقه، وبهذا كان من الممكن تقليل المونولوجات بمجرد وصول الفكرة للمتلقي، فالاستغراق في الكوميديا والمونولوج كاد من الممكن أن يصيب المتلقي بالملل لولا روح الفريق وانغماسهم في الحالة.
وكي يؤصل المخرج فكرته عن وجود عالمين، عالم الشخصيات التي تصدق وهم استمرار الحرب حتى وإن عرفت الحقيقة ومنهم من يخشى الاقتراب منها، وبهذا يترك مساحة خشبة المسرح بأكملها لتمثلهم وتكون مكانهم، والعالم الخارجي، فتكون الشخصيات التي بالعالم الخارجي خارج الخشبة على جانبي المسرح بجانب الجمهور مسلط عليهم بؤرة ضوئية، وهو ما لا يتكرر كثيرا تركيزا مع المفقودين وعالمهم وليس العالم الخارجي فإما يكون أصحاب المنزل أو القادة المستغلين الذين يخفوا الحقيقة عمدا.