المعجنة دعوة لبناء الإنسان

المعجنة دعوة لبناء الإنسان

العدد 588 صدر بتاريخ 1ديسمبر2018

على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي فإن الإنسان ينحرف بسلوكه ليقترب من سلوك الحيوانات وللأسف ينعكس ذلك على شريحة من الشعب المصري، فنحن جزء من العالم، وقد اتبعت هذه الشريحة هذا السلوك لتدني مستويات الثقافة والتعليم، وكذلك المستوى الاقتصادي. وحيث إن الفن مرآة المجتمع فتقدم فرقة المسرح القومي بقيادة الفنان القدير يوسف إسماعيل، العرض المسرحي «المعجنة». فكلمة المعجنة يطلقها العامة للدلالة على ماكينة عجن مدخلات كافة المخبوزات، ولكن بلغة الشارع والعوام من الناس تطلق كلمة المعجنة على كل شيء رديء، فمثلا في الأحياء الشعبية نجد المشاجرات التي تمتلئ بالتكسير والدماء أو شرب المسكرات والمخدرات في أفراحهم يقولون «دي كانت معجنة». واسم المسرحية «المعجنة» يدل على حالة أسرة تعيش تحت سقف واحد يسود بينها الكره والتفكك وسلوكهم شبيه بالحيوانات.
يتكون العرض المسرحي من فصلين، فقبل افتتاح الستارة عن الفصل الأول نسمع موسيقى أغنية أم كلثوم بدلا من الدقات الثلاث على خشبة المسرح لتهيئة المتلقي لبداية العرض، وتفتح الستار لنعلم أن الموسيقى صادرة من مذياع، وبمرور الأحداث يتعرف المتلقي على العلاقات بين شخوص العرض نسجها المؤلف في بناء درامي أرسطي (بداية ووسط ونهاية) عن طريق الحوار الذي يستكمل بالأغاني والاستعراضات، فيتضح الصراع بين الأسرة الواحدة، فهم شريحة من المجتمع سيطر عليها الجهل والبخل لنعلم أن الأب هو صاحب المال والمسيطر والبخيل على أولاده، فنجد الابن يأتي بامرأة والبنت تأتي برجل داخل منزل والدهما لإشباع غريزتيهما، فالبنت تحلم بلبس فستان وطرحة، وعشيقة الابن تحلم برجل تعيش في ظله، على الرغم من علم الأبناء أنهم لم يتزوجوا لأنهم لا يملكون المال فالموارد المادية سيطر عليها والدهم فهو يجعلهم يعيشون معه بإطعامهم الطعام وليس أي شيء آخر ولا يهمه إذا أخذوا الفتات من المال خلسة من ورائه، فذلك أفضل من جلبة عمال يطالبونه بحقوقهم، وكذلك بخله على زوجته التي تركت له المنزل وذلك بعد الكثير من التنازل وتركه يعاملها معاملة سيئة وتفشل في إصلاحه وفي تربية أولادها فتترك البيت وتذهب للعمل كخادمة عند رجل يدعى الحلواني ذو سمعة طيبة ماتت زوجته ويطلب منها تربية ابنته. وفي صدمة أولى للمتلقي يتزوج الأب من هدية التي دخلت منزله لتكون عشيقة لابنه، فعلى الرغم من احتياجه للمرأة ينتهز الفرصة ويتزوجها نكاية في ابنه ليكسر أنفه وينتقم منه. كذلك يتضح لنا ما يعاني منه مجتمعنا الذكوري فرغم أن الابن فعل ما فعلته أخته وجاء كل منهما بطرف ثانٍ يمارس معه الرذيلة في منزل والده، يرفض فعلة أخته وكذلك الأب رغم خطأه، وينتهي الفصل الأول بموت الأب.
ويبدأ الفصل الثاني باستدعاء الأسرة لدجال ليمارس الشعوذة والسحر، يطلقون عليه لقب شيخ، ليدلهم على مكان أموال الأب. وفي صدمة ثانية للمتلقي نجد العرض المسرحي يأخذ منحنى بعيدا عن تفكيره، فنسمع صوت فرقة وخدعة باستخدام الفيديو بروجيكتور مع الإضاءة وماكينة الدخان يصعد لنا من داخل فتحة يمين خشبة المسرح رجل يرتدي ملابس فرعونية نعلم أنه أحد الفراعنة ونرى جنوده تنتشر في المكان ويعجب الفرعون بحكاية ويطلق عليها اسم نفرتاري ويلبسها ملابس فرعونية ويطلب منها أن تذهب معه لتعيش ملكة بدلا من عيشتها ذليلة، ولكن يطلب منها كل أفراد الأسرة عدم الذهاب ويعترف كل منهم بخطأه في لحظة تطهر، ولكن تذهب حكاية مع الفرعون لأن كل أملها في الحياة هي أن ترتدي فستانا وطرحة وتتزوج وتعيش في كنف رجل وتستدعي الأسرة ضابطا (رمز الأمن) وطبيبا (رمز العلم) ويتم إنقاذها وتنتهي الأحداث بأغنية «أنت المدد» لعلي الحجار.
وعندما نتعرض لتحليل النص المسرحي نلاحظ تدني لغة الحوار، فهي مقصودة فشخصيات المسرحية من طبقة متدنية لأن المؤلف حرص بقدر الاستطاعة على محاولة التخفيف. كذلك نجد تكرار المعلومة بأكثر من طريقة مثل الغناء والاستعراض على سبيل المثال للتأكيد على المعلومة ورسم البهجة والبسمة وعدم إحساس المتلقي بالملل.
وفي الفصل الثاني بعد ظهور الفرعون تشعر بالمتعة في الفرجة والارتقاء بالحوار، فيقول الفرعون «أنتم متعرفوش قيمة البيت اللي أنتم طول عمركم عايشين فيه. البيت ده عاش فيه ناس كريمة وأسر عريقة، جيتوا أنتم صبغتوه بالسواد ملتوه بالحقد والطمع والكره والأنانية، وأديكم على خدكم في انتظار المعجزة، لو مبقاش فيه طمع وحقد وكره كانت الدنيا اتصلح حالها وبقينا أحسن من كده بكتير» في دلالة واضحة ونداء لكل المصريين أن يتحلوا بالأخلاق والبعد عن التدني وأن يعملوا ويسود الحب بينهم. وكذلك قول الطفلة تحفة لحكاية «بلاش تعالجي مشكلاتك بالهروب يا حكاية» فلا بد من مواجهة المشكلات والتغلب عليها وعدم الرجوع للماضي، وأن يعيش الإنسان حاضره فهو المدد كما قال علي الحجار في أغنيته التي ينتهي بها العرض المسرحي.
ومن خلال العرض نجد أن المخرج أحمد رجب أمسك بجميع أدواته المسرحية ابتداء من النص الذي كتبه الدكتور سامح مهران ليجعل المتلقي يتابع العرض دون ملل وبمتعة بصرية وابتسامة على شفتيه.
وعن سنوجرافيا العرض للدكتور صبحي السيد نجده صمم الإضاءة بحرفية شديدة تعبر عن كل تفصيلة من تفاصيل العرض، فنجده يستخدم إضاءة خافتة عندما يذهب أبطال العرض للنوم وإضاءة عالية عند استيقاظه وكذلك استخدامه لبؤر ضوئية تسلط على الممثلين لكشف حالتهم النفسية مثل تسليطه لدش إضاءة على مفتاح أثناء غنائه «يا دماغي يا مضروبة بطوبة وعمالة تزن». كذلك استخدامه للستائر ليعرض عليها باستخدام فيديو بروجيكتور أشكالا غير واضحة المعالم، وكذلك إضاءة حمراء للدلالة على السحر والشعوذة، وكذلك الخدع في البانيو قبل خروج الفرعون.
أما الديكور فنجده قد استغل جزءا في عمق المسرح وجانبي الكواليس لبناء منزل مكون من طابقين: سفلي به غرفتا نوم يظهر أمام المتلقي وجود سرير بعمدان في كل غرفة، ومطبخ وحمام على يمين المسرح، وعلى اليسار يوجد باب المنزل كما يوجد سلم خشبي للصعود للطابق العلوي الذي يوجد به ستارة وراءها مكان يعبر عن غرف لا تظهر أمام المتلقي ويوجد شباكان بمشربيات، وبعد ظهور الفرعون يفتح السلم الخشبي ويصبح له مكانان للصعود يمثلان شكل الهرم مع الغرفة العلوية ليشكل الحفرة داخل الهرم التي تسقط فيها حكاية، ويوجد كنبه أنتريه توضع في الفراغ أمام الغرف للدلالة على غرفة جلوس تحركت على المسرح في أكثر من موضع.
وإذا تحدثنا عن الملابس فهي ملابس معاصرة ولكن بعد دخول الفرعون نجده يرتدي الملابس الفرعونية وبعض مساعديه الذي استخدمهم المخرج كراقصي استعراض، وكذلك اختياره لملابس مناسبة لجنود الفرعون واستخدام إكسسوارات لهم عبارة عن كرابيك فهي سلاح مناسب لهم، كذلك استخدم بعض الإكسسوارات الحديثة مثل الطبلية والقلة وقد برع المخرج في توظيفها.
أما الاستعراضات والأغاني والموسيقى والمؤثرات الصوتية فكانت مكملة للحدث الدرامي لتكتمل الصورة وإمتاع المتلقي. ويحسب للمخرج أحمد رجب والملحن أحمد حمدي رؤوف وأشعار طارق علي، أن يقوم الممثلون بالغناء فكانوا كالمحترفين. وعلى الرغم من ذلك فإن الملحن قد وقع في مصيدة التقاط بعض المازورات في بعض الأغاني من أغان سابقة مثل أغنية «أبويا مات» و»عجبا بكلامك حركني» وكذلك أغنية الطفلة «حادي بادي»، وقد تغلب على ذلك الموزع الموسيقي محمد حمدي بتوزيع حديث.
ولو تحدثنا عن الأداء التمثيلي فنجد ناصر شاهين يقوم بأداء دورين مختلفين تماما (عبده الأب - الفرعون) وهذا مجهود كبير لا يستطيع أداءه إلا ممثل متمكن من أدواته وقدراته كممثل. ومروان عزب المخلص والمحب لعمله الذي يتحرك برشاقة على المسرح في دور (مفتاح)، ومحمد العزيزي قد أدى دور (الشيخ الدجال) بنعومة شديدة، وأجادت كل من إيمان رجائي في دور (هدية) وأسماء عمرو في دور (حكاية) وهايدي عبد الخالق في دور (انشراح) ومريم إسلام في دور (تحفة) ومحمد فاروق في دور (سمير) وعمر المختار (الضابط) ومحمد أبو يوسف (الدكتور).
وبشكل عام نستطيع القول إن العرض المسرحي «المعحنة» وصل مضمونه بإشراك المتلقي بأن يفكر فيما يدور حوله دون شعارات وخطب رنانة أو وعظ في إطار كوميديا استعراضية غنائية.
ولا يفوتنا أن العرض المسرحي تقدمه فرقة المسرح القومي، فهذا العرض بعيد عن هوية فرقة المسرح القومي، وعلى الرغم من ذلك يحسب للفنان القدير يوسف إسماعيل مدير المسرح والفنان القدير إسماعيل مختار رئيس البيت الفني للمسرح ورئيس قطاع الإنتاج الثقافي المخرج القدير خالد جلال والفنانة العالمية معالي وزير الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم، الموافقه على ظهور العرض للنور، فقد قدم المسرح القومي سابقا عرض «أهلا يا بكوات» وحدث لغط بأنه بعيد عن هوية القومي وحقق نجاحا كبيرا، كذلك إعطاء فرصة وضخ دماء جديدة في شرايين الحياة الفنية بإعطاء فرص لصناعة نجوم جديدة. والسؤال الأهم: هل يعطل المسرح القومي حتى يجهز نصا يتفق وهوية القومي؟ كما أننا نفقد هذه النوعية من العروض، فلا بد من تحية المؤلف الدكتور سامح مهران، وأحمد رجب الذي انتقل من مخرج مسرحي إلى أهم المخرجين المسرحيين.
بالحب وبالثقافة والفنون والجهد والعمل تبنى الأوطان ويحيا الإنسان.


جمال الفيشاوي