حتشبسوت.. «أنا وأنا الأنثوية» التحضر الفني وحضارة الفن

حتشبسوت..  «أنا وأنا الأنثوية» التحضر الفني وحضارة الفن

العدد 832 صدر بتاريخ 7أغسطس2023

هل جربت التصفيق بكفي قلبك أو بجناحي رمشيك من فرط الاندهاش والإعجاب لأن يديك منشغلتان بتصوير الملكة حتشبسوت وهي تتشظى وتلتئم تحت زخات الموسيقى وكإن حتحور أعادت خلقها من جديد حقا ونفخت فيها من أنثويتها وتمردها وعنفوانها وسطوتها ولكن هذه المرة فوق خشبة المسرح؟! 
ربما الاقتراب من الكمال الفني هو هوس كل مبدع ولكن ماذا يحدث حينما يستطيع المبدع الاقتراب من هذا الكمال وخصوصا إن كان الإبداع مرتبطا بحقبة زمنية لم يرها المبدع وربما مازال ما وصلنا عنها يحتمل كل شيء حتى وإن كان نفي الحدث ذاته.. ربما استطاع المبدع أن يتوصل لحالة من الإسقاط النجمي وأخرج روحه من جسده مطلقها تجوب العوالم عبر السفر في الزمكان لتصل إلى مبتغاها أو ربما عاشت روحه قديما في هذا العصر وتعلمت كل فنونه وعلومه وحلت في جسد جديد في عصر أحدث لتعيد إنتاج هاته الفنون لتطلعنا على بعض من سرها أعتقد أن هذا ما فعلته كريمة بدير في عرضها الراقص حتشبسوت عبر لوحات كيروجرافية تمت صياغتها بعناية ربما لم تكن وفق إرادتها لأن روحها هي من كانت تهندس هذه العملية الدقيقة كما رأتها منذ آلاف السنين بحركات تصدقها تماما أنها تنتمي لهذه الفترة في بعض اللحظات حينما كنت أستحضر روحي القديمة كنت أراني هناك بين المعابد وفي بلاط الملك أحضر صراع حتشبسوت مع الكهنة للوصول للحكم وبناء المعابد والمسلات والتوسع الحربي والعلاقات الخارجية حتى صراعها مع تحتمس الثالث وإن كان لا يتوافق مع رؤيتي وإعجابي بشخصية الملك المصري المهم ولكني دائما أرى أن الفن ليس دوره التأريخ الدقيق ولكنه ربما يسمو لفكرة الإمتاع حتى وإن كان الإمتاع فقط عبر إحكام الصنعة الفنية.
بدأت كريمة بدير عرضها بخلق حلقة وصل بين الآن والماضي من خلال راوية الأحداث -رجوى حامد- التي بدت ولأول وهلة إنها استحضارا حيا لروح حتشبسوت في عصرنا الحديث امرأة لا تستطيع تصنيف بيئتها أهي صعيدية أم من الشمال وهذا كان ذكاءً من المخرجة لتخلق حالة التماس بين حتشبسوت وكل أنثى مصرية لتصبح كل أنثى حتشبسوتا في حد ذاتها -والمقصود من صرف حتشبسوت بالتنوين هنا إسقاط الأعجمية عنها وخلق حالة من الحميمية- ربما كانت أمي حتشبسوتا، حتى اختيار الشاعر محمد الزناتي مؤلف الصياغة الدرامية والناريشن للعرض للهجة المكتوب بها ما يحكى على لسان الراوية لا تستطيع أيضا الجزم لمن تنتمي هذه اللهجة هل للجنوبيين أم الشماليين واختياره للتعليق الصوتي فوق اللوحات الراقصة أن يكون بالفصحى خلق حالة من الجلال وكان موفقا جدا في جعل الحوار موقعا بأن يعتمد على قافية ثابتة يرجع لها ويركن إليها كلما انتهى معه وصفا أو تعليقا على الحدث كما كانت المخرجة مع معد تراك الموسيقى موفقين في اختيار موسيقات متسقة تماما مع روح الحضارة المصرية القديمة في كل لوحة من اللوحات حتى استخدامها لآلات أعتقد البعض أنها حديثة ونسوا أو تناسوا أن مصر القديمة هي من خلقت الموسيقى وخلقت الآلات الموسيقية في الوقت الذي كانت موسيقى الكون أصوات العصافير وعواء الرياح في الخلاء كما نسوا أو تناسوا أن مصر القديمة بنت أهرامات وصروح ومعجزات مازال العالم عاجزا عن فهمها إلى الآن رغم التطور الذي وصلنا له حينما علت وجوههم علامات الاندهاش في لوحتي الرقص بالبلاليص والتحطيب مصر من بدأت الوجود وبعدها جاء كل شيء.
اعتمد ديكور العرض اعتمادا رئيسا على حالة ثابتة الشمس في المنتصف -الإله رع- شاهدا على كل ما يحدث من طقس حتحور -إلهة السماء والحب والجمال والأمومة والسعادة والموسيقى والخصوبة- وحورياتها في لوحة مهيبة اعتمدت على حركات حادة وحاسمة وكأن الإلهة حتحور ابنه رب الأرباب رع تصلي لإبيها حتى يأذن لها بمعجزة ربما ستدهش من يراها وتتسبب في صراع عظيم وهي خلق إنثى بشرية تشبهها في صفاتها تماما لتكون انعكاسا لها على الأرض مرورا بتحدي الكهنة وتحايلها بذكاء على رفضهم صعود امرأة للحكم وإن كنت أستبعد أن يكون حدث ذلك في زمن حتشبسوت فكيف لقوم عبدوا الأنثى -إيزيس ونفتيس وحتحور وغيرهن- أن يرفضوها ملكة متوجة على العرش مرورا ببناء الدولة وتوسعاتها جنوبا وشمالا حتى صراعها مع تحتمس الثالث ونهاية عصرها ولكنه ليس نهايتها لأنها خالدة خلود البشرية كل هذا ورع شاهدا في منتصف المسرح وفي كل لوحة استخدم مهندس الديكور موتيفات يتم التشكيل من خلالها المنظر من خلال تشكيل الراقصين أنفسهم بها معابد أو أبنية أو نزول موتيفات ومجسمات من «السكك» العلوية للتعبير عن دراما اللوحة المعروضة كما اتسمت الملابس بتنوع الألوان وإبهارها وتناسقها على حد سواء والتي جاءت بشكل متقن تماما كأن من حاكها للعرض هو مصمم أزياء الملكة حتشبسوت نفسه.
استطاعت كريمة بدير مخرجة عرض حتشبسوت تشكيل حركات غاية في الاحترافية والصعوبة من خلال أجساد راقصين عالميين اتسمت حركتهم بالمرونة والليونة والدقة وكان تسكين الأدوار لكل راقصة وراقص موفقا لدرجة أنك تشعر أنهم حقيقيون مصريون قدماء يعيشون في مصر القديمة على ضفاف نيل حتحور وأشعة رع العظيم حتى رغم اعتراض البعض على ذقن تحتمس الثالث والتي جاءت طويلة على عكس ما تم تصويره على جدران المعابد وكأن المصريين بدون ذقون أو شوارب في المطلق حتى وإن كانت رغبة الممثل هي عدم حلاقة ذقنه لأي سبب من الأسباب ولكنها لم تكن مزعجة -بالنسبة لي على الأقل- وربما رسخت لفكرة الذكورية التي مورست على حتشبسوت فكان جليا طوال الوقت أن كريمة بدير تصنع عرضا نسويا بجدارة تنتصر فيه للأنثى ضد ذكورية المجتمع ووجدت في شخصية حتشبسوت ضالتها وكيف لا تكون وهي الملكة التي بنت مصر وحكمتها واستطاعت أن تحفر على جدران معابدها اسما ناطح أسماء الملوك الرجال وربما تفوق على الكثيرين منهم فيما تركته وراءها من منجز حضاري عظيم وكيف لا تنتصر كريمة بدير للأنثى وروحها عاشت قديما على ضفاف النيل ربما كانت تسكن حتشبسوت أو حتحور نفسها كيف لا تنتصر للأنثى وهي حفيدة شعب عبد الأنثى وقدسها.


ناظم نور الدين