البحث عن إنسانية البندقية في روسيا

البحث عن إنسانية البندقية في روسيا

العدد 606 صدر بتاريخ 8أبريل2019

عندما تندلع الحرب، تطل أسئلة كثيرة برؤوسها.. من نحارب؟ ولماذا؟ وكيف؟ والأخطر من كل ذلك إلى متى سوف نحارب؟ لا أحد يحارب إلى الأبد، وسواء انتهت الحربُ بالنصر أو الهزيمة أو السلام، فهي حتما ستنتهي.
عندما تندلع الحرب تسقط الابتسامات من على الوجوه، وتتجهم الملامح، ويحتد الخطاب، ويعتري المرء حالة من البرودة والصلافة وتموت الرحمة، وتفوح رائحة الدم.
تكشف إضاءة العرض المسرحي «تريفوجا» المسرح في مستويين، أحدهما يعج بالفوضى وبه كرسي واحد وهو غارق أغلب الوقت في الظلام، وعندما نكون فيه، فنحن حتما في عقل بتروف بكامل فوضاه، وتشعب ذكرياته.
أما المستوى الآخر فهو مرتفع قليلا ويأخذ زاوية مائلة، تستقر عليه منضدة كبيرة وعدة كراسي وبعض أجهزة الاستقبال والإرسال العسكري.
تدور الأحداث خلال المستويين بالتوازي، في إطار الكشف عن شخصية «بيتروف»، العالم الفيزيائي الذي ودع حياته المدنية في ظروف الحرب، وصار واحدا ممن يحملون السلاح. وتتناول الأحداث حياته الأسرية مع ابنته وزوجته، وعلاقته بزملائه في الكتيبة. هذا التناول اتسم بالميلودرامية، سواء على مستوى الأداء المبالغ في إبراز العواطف والأشجان من قبل الزوجة أو بيتروف. ويمكن وصف هذه الزاوية في بناء تاريخ للشخصيات بـ«الاستهلاك الدرامي»، حيث تصطبغ الأحداث بما يمكن تسميته بـ«الخلطة المصرية» التي تظهر عند تناول سيرةَ شخصية، بطرحها بأحادية شديدة، فهي إما أن تكون ذات نيات طيبة حتى المثالية، كما رأينا حالة «بيتروف»، وإما أن تكون شريرة حد أنها متغطرسة وقذرة وشيطانية مطلقة، كما رأينا النموذج العسكري المتمثل في ضباط الكتيبة والقيادة العليا، من زاوية لا تحمل أية إنسانية وعلى استعداد لتدمير العالم فقط من أجل حفظ الهيبة العسكرية. هذا النوع من الدراما مُستهلك، لأنه قائم فقط على صراع المُثل.
لا ينفك المسرحيون عن الولع بتقديم قصص الحرب وحياة الجنود في الثكنات، ولكن ما هو مثير للتساؤل هو لأي مدى يلجأ مؤلف مُحمّل بثقافة وبتاريخ معين إلى تنحية هذا التاريخ وهذه الثقافة، واللجوء إلى ثقافة أخرى والنهل منها ليقدم أفكاره ورؤاه؟ هناك إصرار منذ عنوان النص وحتى أسماء الشخصيات وملابسهم على تقديم الواقع السوفياتي، وليس واقع الحرب، والإشارة لحقبة زمنية محددة؛ وهي الحرب الباردة مع الولايات المتحدة كما أوضح سياق الحوار في أكثر من موضع، مما يجرد العرض من كونه يسعى لقيم إنسانية، إلا إذا اعتبرنا الإسقاط الدلالي هنا كأحد جوانب العرض الرمزي. وهو ما يثير شكوك الأصالة إذ لم يقدم لنا النص مبررا قويا. ويضع المؤلف المسرحي في قفص الاتهام بتخليه عن دوره الرئيسي، وهو خلق عوالم جديدة على المسرح، إلى مجرد مستهلك يعيد إنتاج عوالم مُستعارة.
يطرح العرض صراع المثل والواقع، ولعل بكارة الطرح الدرامي لم تمنعنا من الاستمتاع به، ما عدا بعض الأمور. «بيتروف» المدني الذي ارتدى الحُلة العسكرية هو طوال الوقت يتلعثم في الكلام ويسير بطريقة توضح عاهته، ليصبح الواقع المثالي القائم على المبادئ والفناء في تقديم الخير الذي جاء منه، أمام الجميع كاللطخة في جبين هذا الواقع الأليم داخل مقر «القيادة المركزية للأسلحة النووية»، ولأن المخرج أراد أن يكون الأداء واقعيا، أغفل دلالات هذا الأداء، فتعامل مع مستواه السطحي «الميلودرامي» الذي يستلب منا التعاطف، وأهمل توضيح الفجوة بين المدنية والعسكرية، لكن برزت نتوءات من هذه الفجوة عبر مناطق من الحوار، فعندما يرفض «بيتروف» تنفيذ الأوامر العسكرية باستخدام الأسلحة النووية لينقذ العالم، تتضح المأساة.. هل أنا خائن لأنني أنقذت العالم؟ ويجيبه أحدهم ليست مهمتك إنقاذ العالم، مهمتك هي تنفيذ الأوامر العسكرية وفقط.
لا يمكن إغفال دور الإضاءة المربكة التي وضعتنا داخل عقل «بيتروف» واستطاعت تقسيم المسرح بين واقعه وخيالاته، عكس الموسيقى التي كانت شجنية أكثر من الداعي وأغرقت العرض في ميلودرامية نحن في غنى عنها، الأسوأ أن تنعكس هذه الميلودرامية على أداء الممثلين، فنجد مبالغات أحيانا في التعبير عن آلامهم أو غضبهم، أو نجد فتورا مضاعفا أحدثه الأداء «المولوتوني» عند بعض الشخصيات.
من يملكون القدرة على التفكير ورسم العالم، دائما؛ إما في السجون أو خارج مقر القيادة، وهو ما يلقي بسؤال ضمني: ما هو مصير العالم إذا حكمه حفنة من المعاتيه؟ هذا السؤال الذي لا ينبت سوى في الربع الأخير من العرض؛ ينقذ النص من تهالكه ورتابته ومشاهده النمطية التي مهد بها لهذا الصراع، والتي لو تغافل عنها أو أسقطها المؤلف ما كان سيختل شيء.


محمد علام