العدد 827 صدر بتاريخ 3يوليو2023
ضمن عروض المهرجان الإقليمى لنوادى المسرح بإقليم وسط الصعيد قدمت فرقة نادى قصر ثقافة أسيوط العرض المسرحى المتميز “صندوق سوناتا” عن نص “سوناتا الروح والجسد” للشاعرة والكاتبة المسرحية “مروة فاروق” دراماتورج وإخراج الشابة الموهوبة “مادونا هانى» ومؤلفة النص “مروة فاروق” هى واحدة من كاتبات المسرح القلائل فى الصعيد، والكتابة لديها ليست مجرد تسلية، أو إلهاء لوقت فراغ فهى كاتبة جادة وواعية بدور الكاتبة، ولديها مشروعها الثقافى الذى تعمل عليه منذ بدأت الكتابة وفق رؤيتها الواضحة والمتبلورة لكل من يقرأ أو يشاهد منتجها الإبداعي سواء على المستوى الشعرى أو الكتابة المسرحية، فهى شاعرة قبل أن تكتب للمسرح، وربما ما لا يعرفه كثيرون أنها موسيقية بالأساس، بل وتقوم بتدريس الموسيقى فى المدارس.. نحن إذن أمام حالة فنية متعددة الجوانب الفنية، أما مشروعها الذى تتبناه عبر كتاباتها المختلفة فهو رفع صوت الحرية والتحرر من كل القيم والتقاليد المجتمعية البالية، لا سيما التى تحاصر الفتيات والسيدات فى المجتمع الصعيدى على وجه التحديد ، وهو الآمر الذى نجد صداه فى كل اعمالها سواء الشعرية أوالمسرحية ، وهى هنا فى نصها “ سوناتا الروح والجسد “الذى أصبح صندوق “سوناتا “ فى العرض لا زالت تبحث عن الحرية فى مواجهة التقاليد البالية ، ومن اللافت فى هذا النص أن نجد البطل المحاصر بتلك التقاليد ذكراً وليس انثى، وهو الأمر الذى لا يتعارض مع المشروع العام للكاتبة “مروة فاروق” بل يؤكده فإذا كان الذكر محاصراً بالتقاليد المجتمعية المحيطة ويعانى منها فما بالنا بمعاناة الأنثى من تلك التقاليد فى نفس المجتمع وهى التى لا تمتلك نفس هوامش الحرية المتاحة للذكر فى هذا المجتمع.. إذن فلا تعارض فى الآمر بل نجد الكاتبة تمشى حثيثا على نفس خطى مشروعها المنذورة له .
وتتلقف المخرجة الشابة “مادونا هانى “ هذا النص بما يحمله من معطيات ليكون اول أعمالها الإخراجية والذى تشارك به فى المهرجان الإقليمى لنوادى المسرح بوسط الصعيد ليصبح صندوق “سوناتا” اسم نص العرض بديلاً عن “سوناتا الروح والجسد” اسم النص المكتوب ، وفى نص العرض يتحول بطله الذكر إلى انثى، وليس فى ذلك ما يتعارض مع رؤية المؤلفة بل يعمق من القضية المطروحة ذاتها، فإذا كان البطل الذكر يعانى من تلك التقاليد البالية وهو الممنوح ـ كذكر فى ذلك المجتمع ـ بعض هوامش من الحرية فما بالنا من معاناة الأنثى وهى المحرومة قصرا من هوامش الحرية تلك الممنوحة للذكر . فكيف تكون معاناتها من نفس التقاليد البالية فى ذات المجتمع؟ بالتأكيد معاناة الأنثى أشد وطأة ، ونعتقد أن هذا ما دفع بالمخرجة لتحويل الذكر إلى أنثى فى عرضها، وربما لتشير إلى أن الحرية تجاه التقاليد القديمة هى حرية منقوصة ويعانى منها الذكور والإناث على السواء وإن تفاوتت الدرجات... فنحن فى العرض أمام فتاة شابة «هى» تعانى من سطوة التسلط الأسرى، وذلك الصراع دائم التجدد بين الأجيال، فوالدتها ووالدها يعارضان حب إبنتهما لشاب معتقده الدينى مغاير لعقيدتها كما كانت الأم تعارض لعبهما سويا منذ أن كانا أطفالا، ومع تلك المعارضة تبدأ شخصية الفتاة بإعادة التشكل وتعرف أن عليها أن تختار.. إما الإنصياع لأوامر الأسرة لا سيما الأم التى تنحاز للأعراف الإجتماعية والدينية أو أن تنصاع وراء ما يختاره قلبها وفطرتها الإنسانية، لتجد نفسها فى النهاية منحازة لما تمليه التقاليد والأعراف والأسرة راضخة لما رأته الأم زوجا مناسبا لها وهو ابن عمتها، فالمؤلفة هنا رغم أنها تسعى وراء طلب الحرية لكنها تعى جيدا أن الحرية فى مجتمعاتنا ليست حرية مطلقة وإنما هى حرية لا تخرج عن حدود العرف والتقاليد التى تحاربها
هى : أنا عاوزاك تتحرر مش تتجرد من كل قيمة عرفتها
فالكاتبة هنا تؤكد على وعيها الكامل بالفارق الكبير بين التحرر والتجرد، وهى تريد لشخصيتها أن تتحرر دون أن تتجرد من القيم الأصيلة لعدم الخروج عن الأنساق القيمية للمجتمع... وحين تعبر “الفتاة” عن رغبتها فى الإلتحاق بالمعهد العالى للسينما لولعها الشديد بهذا الفن السينمائى لا تجد سوى معارضة والدتها وكذلك خالها ـ الذى أصبح مسؤولا عنها بعد وفاة والدها ـ لتلك الرغبة، وهو الأمر الذى يأخذ قدرا من الوقت حتى تتخذ القرار بالتقديم فى معهد السينما لتذهب وتجد نفسها جاءت بعد فوات مدة التقديم المسموح بها، ولا تسطيع أن تحقق واحدا آخر من أحلامها بسبب حريتها المسلوبة، والمرة الوحيدة التى يتاح لها فيها الإختيار (بعد أن يتم المزج بين الشخصيتين المنشطرتين هو، هى) يكون إختيار مسلوب فيه الإرادة ولا يمتلك حريته كاملة إذ قد ضاع الوقت والإغراءات تسلب الإرادة فبعد أن يصبح مسؤولا حكوميا يعرض عليه رئيسه كتابة التقارير الرقابية عما يكتبه البعض فى مقابل الترقى الوظيفى والإجتماعى أيضا بالزواج من إبنة رئيسه وبإرادة مسلوبة ينحاز للتطلعات فيتورط بتقاريره فى غلق أكثر من جريدة، وخنق أكثر من فكرة متخليا عن أحلامه الحقيقية القديمة فى بناء بيت، ويعيش مع زوجة لم يخترها وعائلة لم يسعد بتكوينها أو إنتسابه إليها فأخذ يهرب منا معظم الوقت ما استطاع إلى ذلك سبيلا حتى تضج الزوجة من الأمر وتحذره وتذكره بحصوله على ما لم يكن يحلم به من زوجة وأولاد وعائلة، كما تذكره ألا تسول له نفسه بأن يظن أن وفاة والدها وسيد نعمته سيضعفها, وتلقى عليه بقنبلتها الأخيرة بأنها ستفارقه وتتركه لوحدته وآثار الزمن قد ظهرت عليه فجأةعليه من شيب وصحة متدهورة، دون أن تنجح إستجداءاته لها بعدم تركه مخبرة إياة بفوات الأوات ويرقصان رقصة أخيرة معبرة عن مفارقة الحياة.
لنكتشف أننا مع هذا العرض أمام رحلة حياة كاملة لشخص ما منذ لحظة ولادته وحتى مفارقته للحياة ويؤكد لنا العرض ببساطة على أن يتحمل كل منا نتائج خياراته التى يختارها بكل حرية حتى لو كانت خياراته تلك تحت ضغوط تفقده بعض من الحرية فى الإختيار.. والمخرجة «مادونا هانى» بذكاء شديد تاتقط هذا الخيط وتركز عليه، وبذكاء أشد تؤكد على تساوى بين الجنسين فى هذا الأمر فتحرص فى الأداء الحركى لممثليها على إلتصاق “هو وهى” منذ لحظة الميلاد ومعظم الوقت حتى النهاية ثم الإنشطار للتعبير عن أكثر من دلالة واضحة المغزى، ولتؤكد المخرجة أيضا باختيارها لهذا الموضوع على إنحيازها ـمنذ عملها الأول كمخرجة ـ لإقتحام الواقع والتشابك مع قضاياه لا سيما ما يتماس منها مع بيئتها الجغرافية والمجتمعية المحلية واٌقليمية... إننا إذن أمام مخرجة واعية تحمل هموما وقضايا جادة ترغب فى طرحها عبر مهاراتها المسرحية، ولأنها ممثلة بالأساس فقد إهتمت بكل تفاصيل الآداء التميلى، وعرفت كيف تتعامل مع ممثليها لخلق عرض متماسك ومتزن وجاد فيما يطرحه، كما عرفت أن تخلق صورة جمالية عبر تشكيلاتها لحركة ممثليها المجتهدين، وعلى رأسهم الموهبة الفطرية” دميانة سمير”السهل الممتنع فى الآداء والحضور الطاغى، وإن كانت تحتاج بعض التدريب على وضوح مخارج الألفاظ، وشاركها “محمد لطفى” أداء رصين ومتزن دون تعقيد مع “كارولين عماد، مينا خيرى” بطاقتيهما الكوميدية المتفجرة وكذلك “محمد عبدالعال” الذى كان مفاجأة العرض فى آدائه الساخر والفانتازى لدور “دوللى»، ولا يقل عنهم فى الموهبة بأدائه الأنيق “يس رأفت” إننا إجمالا أمام عرض راق يؤكد على خصب المواهب وثرائها بصعيد مصر