المتفائل.. وقت التشاؤم

المتفائل.. وقت التشاؤم

العدد 624 صدر بتاريخ 12أغسطس2019

يعجبني في المخرج إسلام إمام جرأته في اختيار موضوعات درامية طموحة في الإنتاج والمنهج والشكل الفني، وهو يعي أنه يجتهد وقد ينجح وقد يخفق عند الجمهور والنقاد، لكن ما هو واثق منه أنه يبحث ويجرب ويقدم إطارا مسرحيا جديدا في الصورة المسرحية والسينوغرافيا والأداء التمثيلي. من قبل ذهب إسلام إمام للكوميديا دي لارتي واستفاد من تلك المدرسة الفنية القديمة المتجددة في فنون الكتابة والأداء التمثيلي، ثم طور فنون العرائس والأراجوز الشعبي بتحويلها للأداء البشري مع مجموعة مجتهدة من الممثلين كما شاهدنا في مسرحيتي “رجالة وستات” في مسرح الشباب واستمرت بنجاح لمواسم، ثم قدم بالهناجر مسرحية “اترك أنفي من فضلك” عن عدة نصوص من الكوميديا من إعداده ليؤكد على رؤيته الساخرة في طرح أغرب وأقرب العلاقات بين البشر.
اليوم يعود لنا إسلام إمام بنص روائي عالمي راسخ منذ القرن الثامن عشر لكاتب وفيلسوف مؤثر في الفكر الإنساني هو فولتير “كانديد أو التفاؤل” نص طويل يصل إلى ثلاثين فصلا يعد من النصوص الأدبية الشهيرة لكاتبه، ويحمل أفكاره الفلسفية والدينية والسياسية، وتلك كانت طريقة فولتير ليصل فكره بصور أقرب من الكتب الفلسفية التي كتبها. الرواية تدور حول شاب مسالم طيب هو كانديد ليس لحياته هدف سوى فتاته الجميلة ابنة الدوق خاله الذي تربى في قصره، ولكن لرفض الدوق هذا الحب يطرده من القصر فيهيم كانديد على وجهه في دنيا الحروب والصراعات تلك الدنيا التي لا يعرفها، ولكنه يجد نفسه طرفا في صراعاتها وهو الشخص الضعيف الفقير والأهم المسالم.
قام إسلام كمعد بتفريغ النص المسرحي من الجانب الديني والفلسفي العميق كما جاء في النص الروائي لفولتير، ولذا استغنى عن بعض الشخصيات مثل شقيق محبوبته والقس، واحتفظ بفكرة التفاؤل عند البطل كانديد رغم مشاق الرحلة. ليركز الحدث الدرامي على رحلة إنسان طيب في زمان شرور وحروب، تستغرق رحلة كانديد ما يقرب من ربع قرن ورحلة تدور في بلاد وأماكن بها من الأشرار أكثر من الأخيار، لكن وبفضل إيمانه ومبادئه التي تلقاها من معلمه الفيلسوف يستطيع التغلب على ما يواجه من صعاب، وتكون جائزته من بلاد الخير صناديق من ذهب يسعد بها أهل الجزيرة القاحلة وينقذهم من المجاعة والموت. والحقيقة، إن إعداد نص روائي طويل مثل “كانديد أو التفاؤل” جهد كبير، ولا شك من المخرج وما وضح من المسرحية تركيزة على خط رحلة كانديد من الطرد والتشرد إلى بر الأمان في جزيرة الخير، وهي رحلة اكتشاف الذات والحياة واختبار صحة تعاليم أستاذه معلم الفلسفة، وخاضت أسرة خاله الكونت رحلة مماثلة، ولكن لاكتشاف آخر وهو زيف عالمهم عالم القصور والثروة، فحين ضاعت ضاعوا في الحياة، ولم ينقذهم سوى لقائهم بكانديد وإنقاذه لهم. رؤية مثالية صاغها الفيلسوف الفرنسي فولتير منذ القرن الثامن عشر، وربما انتهت مع الزمن، ولكن - هذا كان من المناقشات التي أثارها العرض - بيني وبعض الأصدقاء ممن شاهدوا المسرحية معي، هل ما زلنا بحاجة إلى الأفكار المثالية والتذكير بالأخلاقيات والمبادئ مثل الخير والكرم ومساعدة المحتاج والإيثار وشجب النزاعات والحروب، الرأي عندي: نعم، ما زالت البشرية بحاجة للتذكير بقيمها. نعم، نحتاج للعودة لقيم الإنسان وفطرته الطيبة التي خلقه عليها الخلاق العظيم. لكن ما أوصل الإحساس بهذا الرفض أو التحفظ أن النص المعد تتبع رحلة البطل كانديد وساهم تغيير المنظر لكل مكان في الإحساس بفقدان التطور الدرامي، وأننا أمام حكاية وليس مسرحية، فكان لا بد من تفادي هذا والتأكيد على قوة الحدث المسرحي والاهتمام بجماليات الحوار الدرامي.
من خلال تبديل بلاد الرحلة/ المناظر المسرحية، برع مصمم المناظر حازم شبل في تصميمها، بدأ من قصر الخال/ مكان الصبا والطفولة لكانديد ثم خروجه من القصر وعبور بواباته، فكان منظرا جديدا يتكون من عدة بوابات، مشبع بحركة خروج البطل، وكأن عبور حواجز القصر هي ميلاد له من جديد. كما كان المنظر في مدينة السعادة بتفاصيله، حيث انتشرت الزهور والخضرة كدلالة على الرخاء والصفاء في تلك المدينة الذي اتسق مع ملابس ملكة المدينة وشعبها، من أبهى مشاهد المسرحية، وإن توقعت من حازم شبل، وهو مصمم مناظر شاطر وموهوب، بعض الحلول الفنية التي تساهم بساطة المنظر، ووضع المتفرج في سياق الرحلة الكونية للبطل بدون تفاصيل تغيير المنظر المسرحي وإراحة العين من الكتل الخشبية الضخمة على المسرح. وكما عودتنا مصممة الملابس الفنانة الكبيرة نعيمة عجمي بملابس تزيد جماليات الصورة المسرحية وتؤكد على البعد النفسي والدلالي للشخصيات، فارتدت الأميرة الشابة ووالدها الدوق ووالدتها الدوقة ملابس فاخرة في الخامة والتصميم، ثم بدأت ملابس الأميرة تتجه نحو البساطة في رحلة الضياع التي ذهبت بها بعد ضياع قصرها وأسرتها، في حين ساعدت ملابس الأستاذ أو المعلم على تأكيد وقار الشخصية وهيبتها. وأكدت نعيمة عجمي على خبرتها من خلال التنوع في الألوان والتصميم لملابس المجموعات في حرب البلغار ومجموعة الصيادين ومجموعة سكان بلاد الخير، فجعلت من المسرح لوحة فنية بديعة خاصة في تصميم ملابس ملكة بلاد الخير بدرجات اللون الأخضر وتاج الزهور الجميل الذي علا رأسها. أكمل جماليات الصورة مكياج إسلام عباس وإضاءة الفنان أبو بكر الشريف.
والحقيقة أكملت تصميمات الاستعراضات للفنان ضياء شفيق جماليات الصورة باعتمادها على موسيقى هشام جبر البسيطة، وألحانه الجميلة لكلمات الشاعر طارق علي في خطوة جديدة ربما طورها هشام جبر فنكسب موسيقيا موهوبا للمسرح العربي.
بذل الممثل المتميز سامح حسين جهدا واضحا في أداء شخصية كانديد بكل مراحلها ومشاعرها، فهذا دور مهم في مسرته الفنية سوف يذكر له لأنه يؤكد وصوله لمرحلة من النضج الفني كممثل قادر على أداء شخصيات عميقة في مسرحيات ذات إنتاج كبير في مسرحنا القومي العريق، ويمكن بعد عدة ليالٍ من العرض أن يتخلص الفنان سامح من الإرهاق الذي بدا عليه في ليلة العرض الأولى ويعطي لأدائه مزيدا من الحماس والحرارة.
جاء وجود الممثلة سهر الصايغ في دور الأميرة الحبيبة ليضيف إليها ولخبرتها الكثير، فقد تميزت بحضورها على المسرح وحيوية حركتها في التمثيل والرقص وخفة ظلها وهي مكسب حقيقي للمسرح بعد التلفزيون.
كان عنصر الخبرة ممثلا في العرض عبر أداء الكبار الفنان يوسف إسماعيل في دور الكونت خال كانديد بشخصيته الضعيفة أمام زوجته الفنانة سوسن ربيع التي شاركته تكامل الأداء، فكان الدور عودة جميلة لها في مرحلة النضج الفني الجميل الذي وصلت إليه. أسعدنا الفنان عزت زين بأدائه السلس في دور المعلم الفيلسوف فعلم الحكمة للبطل الشاب وأضاء بأفكاره له طريق التيه والضياع الذي كتب عليه وكان كانديد موصلا وناشرا تلك التعاليم الفلسفية والحكم في كل مكان وجد فيه فساعدته على تخطي الصعاب وتخطي الشرور.
لا شك أن ما جمع بين مجموعة شباب العرض والمخرج تناغم ناتج عن تكرار عملهم معا ونجاحهم في مسرحيات سابقة، فنجد آيات مجدي ملكة مملكة الخير ممثلة يبعث وجودها على المسرح طاقات من الإشراق والجمال وهي تؤدي دور الملكة بملابس رائعة. ضمت مجموعة جنود البلغار الممثل صاحب الوجه الكوميدي المميز تامر الكاشف فهو يؤدي ببساطة أصعب المواقف ويضحكك، وتناغم معه أحمد زكريا معروف ومصطفى سامي قائدهم، في حين يقدم أمجد الحجار دور قبطان المركب في أداء ساخر يصل للفارس بالكلمة والحركة وينشر البهجة، أيضا تميزت مجموعة سكان الجزيرة المجهولة بينهم الوجه الصاعد نانسي نبيل صاحبة الوهج الجميل في مسرح الجامعة.


سامية حبيب