التمثيل والأداء متعدد الوسائط(1)

التمثيل   والأداء متعدد الوسائط(1)

العدد 782 صدر بتاريخ 22أغسطس2022

النماذج والطرائق والممثل والوسيط :
     يتأمل هذا المقال كيف يمكن فهم عمل الممثل أو المؤدي بالإشارة إلى أفكار تعدد الوسائط. ويجب أن أشرح علي الفور أنني سوف أستخدم مصطلحي « الممثل Actor» و«المؤدي performer» بالتبادل، لأنني لا أهتم هنا بالفروق يمكن استخلاصها بين الممثلين الذين يؤدون الشخصيات والمؤدين الذين يقدمون شيئا آخر  غير الشخصية الخيالية. فالممثل والمؤدي هنا هما الشخصان اللذان ينقلان فعل الأداء الذي يهمنا أن نصفه بطريقة منهجية. ويجب أن أقول أيضا أن مثل هذا الوصف هو محاولة لنقل أفكار لارس اليستروم Lars Ellestrom حول نماذج وطرائق الوسائط إلى النظر في الأداء. والممثل بالطبع ليس وسيطا في طريقة الوسائط التي يؤدي من خلالها ( المسرح والسينما والدراما الإذاعية). ومع ذلك يملك الممثل وظيفة اتصالية يمكن توضيحها وفقا للمبادئ التي تتواصل من خلالها الوسائط. وهناك بعض التشابهات الاستثنائية بين هذا المشروع ومشروع مريم فييرا Miriam Vieira، والذي يوضح كيف تتقاطع العمارة كوسيط مع اعتبارات التجسيد والمنظور. وسوف أبحث فيما يلي كيف يمكننا أن نرى الممثل وفقا لوصف اليستروم باعتباره «الوسيط التقني للظهور the technical medium of display» وكيف أن هذه المسألة تتعلق دائما بادراك المتفرج. 
 ويقدم اليستروم حالته في مقال بعنوان «طرائق الوسائط: نموذج لفهم العلاقات بين الوسائطية The Modalities of Media: A model for understanding intermdial relations». ويوضح يورجن برون Jorgen Bruhn أن منهج اليستروم كان جديدا في تناوله بجدية لحقيقة أن كثير من رؤى كل من نظرية الوسائط media theory ودراسات ما بين الفنون interart studies تتوازى في مجال دراسات الوسائط المتعددة، وفي وضع مخطط يجمع المنظورات بين الوسائطية والمتعددة الوسائط في تحليل واحد لمجال الاتصال.  ففي الأساليب متعددة الوسائط تتنوع نماذج التواصل بشكل ملحوظ وتشمل، علي سبيل المثال، النصوص المكتوبة والصور المرئية والرسوم البيانية وأسلوب الطباعة وإيماءات الوجه والرأس. والمبدأ الأساسي هو الطبيعة التفاعلية للنماذج، وعملها كعناصر تواصلية ضمن عملية الدلالة. وكما يقترح جونتر كريس، «النموذج هو الذي يتشكل كمصدر معطى اجتماعيا وثقافيا لكي يصنع المعنى. وهذا يتوافق مع الاهتمامات البحثية بالوسائط والتوسيط، ويقدم عمل اليستروم توجها سيميوطيقيا (يهتم بصناعة المعنى) لتأمل البنيات التحتية للوسائط، والتي تتعرض هي نفسها لضغوط تاريخية ومواقف صناعية. وكما تلاحظ هيثر لوثرينجتون، «الوسائط والتوسيط معقدان للغاية في مشهد اتصالات اليوم. فمنتج الوسائط أو الوسيط موجود في المجال التاريخي الاجتماعي الثقافي علاوة علي المجال الحسي الإدراكي». كما تقترح أن نموذج اليستروم بين الوسائطي يقدم خصوصية تحليلية وتصنيفا مفيدا في فهم الاتصالات المعاصرة. 
 وفي بعض الأوساط، يسبق النموذج (باعتباره طريقة لفعل شيء ما أو شكل معين تتخذه كظاهرة أو حالة أو نشاط) الطريقة التي تصف الوسائل التي يمكن من خلالها رؤية النشاط/الظاهرة / الشيء للتعبير عن نموذجه. ورغم ذلك، فإننا نتوقف مع اليستروم، الذي بالنسبة له يجب أن تُنسب الطرائق ( التي يوجد منها أربعة) مفاهيميا قبل النماذج. فالطرائق والنماذج إذن يعملان بشكل متزامن داخل نسق اتصال أكبر مترابط. والصورة الاتصالية بالطبع هي الأساس (الذي تشكل وفقا للمعطى الثقافي عند كريس). ويؤكد هذا التناول الوظيفي علي دور المتلقي/ الواعي بين التوسيط ويقيد تشكيل الوسائط في المقام الأول. وكما يلخص اليستروم: هناك أربع طرائق للوسائط، وأربعة أنواع من صيغ الوسائط الأساسـية. ولكي يكتسـب شيء ما وظيفـة المنتج الوسائطي، فلا بد أن يكـون ماديـا علي نحـو ما، ويفهم علي أنـه مسـألة مادية أو ظاهرة. ومثـل هذا الوجـود المادي يجب أن يكـون حاضرا في المكان والزمان لكي يكون موجودا؛ ويحتاج أن يكون له نـوع الامـتداد الزمانـي المكاني. ويجـب أن يكـون مدركا بواسطة أحدى الحواس علي الأقل، وهذا يجعلنا نقول أن منتج الوسائط يجب أن يكون حسيا. وفي النهاية يجب أن يخلق المعنى من خلال العلامات، إذ يجـب أن يكون دلاليا .
وهذا يضيف إلى الطرائق المادية والزمانية المكانية والحسية والدلالية. فلا يمكن أن توجد منتجات الوسائط ولا أنواعهــا أن لم يكن لكل نوع صيغة (....) فطرائق الوسائط الأربعــة تشكل الهيكل الذي لا غنى عنه والذي تقوم عليه كل الوسائط.
ويتكون الهيكل من نوعين مختلفين من العظام (إن جاز لنا استخدام هذا المجاز). فالطرائق الثلاثة – المادي والزماني المكاني والحسي – هي طرائق قبل دلالية presemiotic، ذلك أنها لا تنشأ من الإدراك بل تصف بالأحرى الجوانب البنيوية التي سوف تؤثر في الإدراك. والطريقة الرابعة، وهي الطريقة الدلالية، يصفها اليستروم بأنها «الإطار لفهم التمثيل». وكل منتجات الوسائط دلالية، لأنه إذا كان التكوين الحسي مع الخصائص المادية والزمانية المكانية والحسية لا يمثل أي شيء، فليس له وظيفة اتصالية. إذن، فان الطرائق الأربعة تعمل دائما بشكل متبادل بطريقة ما في أي عملية توسيط، ويمكن وصف كل طريقة من خلال مجموعة فرعية من الأساليب. ويقترح اليستروم: «كل الوسائط متعددة الوسائط، ذلك أنه  يجب أن يكون لكل نوع صيغة واحد على الأقل. 
 يتم تقديم الطرائق والنماذج في شكل جدول في كتاب اليستروم الذي صدر بعنوان «الطريقة» Modality و«ما هي الطريقة» و«أهم أنواع الطريقة». فمثلا توصف الطريقة الحسية بأنها «الأفعال الذهنية والبدنية لفهم السطح المشترك للوسيط من خلال الإحساس بالملكات ويتم تقديم أهم أنواعها مثل الرؤية والسمع والحس والذوق والشم. ويسمح هذا التنظيم التخطيطي بمنظور وإجراء  ونقدي – يقوم الأول علي إدراك ملامح محددة وفروق ويفسر عمليات الوسائط باعتبارها مزيجا مستمرا للطرائق والنماذج. 
 وهذا النموذج موجه نحو التوضيح ويتعلق بالاتصال الذي هو نفسه، كما يلاحظ اليستروم، يدور دائما حول المضمون الإدراكي. وتمتزج الطرائق الأربعة داخل عمليات الوسائط الموجودة في قلب الدلالة، والمفهومة هنا في إطار التمثيل بمعناه الدلالي – أي كوسيلة للتعامل مع الإدراك من جانب المدرك، في مجال الإدراك. فنقطة الارتكاز هي الفعل التواصلي. والوسيط في مجال هذا التحليل فعال بقدر ما تسمح عمليته بما يسميه اليستروم «منتج الوسائط»، المميز بأنه المرحلة الوسيطة التي تساعد نقل المضمون الإدراكي من عقل المنتج إلى عقل المتلقي. وهذا إلى حد ما مجازي، كما يقول اليستروم، لأن النموذج لا يتصور خطا واحدا للانتقال من فرد إلى آخر بل إن إمكانية إنتاج عناصر متعددة تتلاقى في منتجات الوسائط المنقولة إلى عدة متلقين. وعي أي حال: 
منتج الوسائط هو كينونة مادية أو ظاهرة تساعد في الاتصال الإنساني المتبادل ... وربما يتحقق إما عن طريق مادة غيـر جسمية أو جسمية (ومن ضمنها المنبثقة مباشرة الجسم)، أو مزيج بين الاثنين (..) أجسام أخرى، كأجسام الممثلين، التي تستخدم كمنتجات وسائط .
ودعونا نبقى مع أجسام الممثلين، كما يقترح اليستروم، يحتاج منتج الوسائط أن يأتي إلى الوجود نوع من الظاهرة المادية المحسوسة – ويسمي مثل هذه الظواهر (بطريقة انتقاص طفيفة من الذات، مع ملاحظة الطبيعة المرهقة للمصطلح) «الوسائط التقنية لعرض التكوينات الحسية technical media of display of sensory configurations». والممثل هو أحد هؤلاء، لأنه يحقق المعيار الأساسي لوسيط العرض التقني – فهو يوسط التكوينات الحسية في سياق الاتصال؛ وينجز ويعرض الكيانات التي نفسها علي أنها منتجات الوسائط. 
 فكيف يمكن وصف الممثل كوسيط للاتصال ؟. ويمكننا أن نبدأ بتأمل الممثل كشخصية، وربما باعتباره النموذج السائد في الأداء التمثيلي، سواء في المسرح أو السينما أو التليفزيون أو الدراما الإذاعية، أو أنواع الأداء الأخرى مثل الظهور في الإعلانات أو أشكال الفيديو القصيرة علي الإنترنت. فجوانب الاتصال متعددة، بمعنى أنه يمكن اعتبار الممثل وسيلة تقنية تتكون من وسائط تقنية داخلية متعددة: صوت الممثل، وحضور المعلومات الدالة من خلال التغيرات الصوتية والنطق، وإيماءات الممثل، والتواصل من خلال القواعد الاجتماعية والثقافية والجمالية المكتسبة، وزي الممثل،، ولكن أيضا طريقة ارتداء عناصر الأزياء (زاوية مبهجة للقبعة، والترحيل المفرط للزي، وارتداء المحرج لرابطة العنق من جانب مراهق) وإيقاع الحركة والبعد الدلالي للمداخل والمخارج والأشياء ذات المناظر الخلابة وأشياء الممثلين الأخرى المرتبطة بالمشهد، وأي ارتباط مهم مع المتفرج – عن طريق الاتصال البصري أو الإيماءة أو التوجه المباشر. وإتباعا للسيميوطيقا المنسوبة إلى بيرس Peirce، يصف اليستروم هذه العناصر بشكل مختلف باعتبارها أيقونية iconic ومؤشراتية indexical ودلالية semiotic. ويمكن فهم جوانب المنظور الدلالي هذه باعتبارها منتجات الوسائط إذا أثرت في إدراك المتفرج. فالممثل يعمل داخل بنيات وعمليات الوسيط الذي يؤديه – ويمكن أن يكون سينما، أو مسرح، أو تليفزيون، وما إليها – والتي سوف تتكون هي نفسها من منتجات الوسائط التي تعتمد علي التنظيم الذي يقدمه النص والإخراج والإضاءة والإعداد والملامح الأخرى التي تساعد في بناء الوسيط. وبهذه الطريقة يكون الممثل نفسه وسيطا تقنيا مركبا، وإزاحة منتجات الوسائط عن طريق الإيماءات والكلام والحركة داخل منتج وسائطي أكبر ربما يشكل ما يسميه اليستروم «الكل الإدراكي الموحد one perceptual gestalt». وربما يكون هناك فروق يمكن استنتاجها بين ظهور الممثل في الموقف الحي أمام الجمهور الموجود، والممثل المعروض بشكل مباشر علي الشاشة للجمهور البعيد، والممثل في الموقف المسجل مسبقا، سواء من خلال التقنيات التناظرية أو الرقمية، والذي يتم الوصول إليه في أوقات مختلفة من جانب الجمهور. وفي إطار نموذج اليستروم، فإننا في مجال أنواع الوسائط المؤهلة المتميزة التي تعمل من خلال ترتيبات مختلفة قليلا لوسائط 
العرض التقنية. ورغم ذلك، لأغراضنا الحالية، أقترح أن نتأمل «الممثل/المؤدي» كوسيط تقني يتكون من وسائط اتصال تقنية داخلية متعددة وننتقل من هذا إلى طريقة وصف عمل الممثل ووظيفته. 
 فكيف نفهم أداء الممثل باعتباره ملمحا للتوسيط يمكن عزله داخل آلة توسيط أكبر ؟. ويدرس اليستروم سؤال ييتس Yeats : كيف يمكننا تمييز الراقص عن الرقص ؟. 
 من ناحية لا ينفصل الراقص عن الرقص، بمعنى أنهما نفس الكيان المادي الذي يشغل المكان والزمن الماديين. ومن الناحية الأخرى، هما شيئان مختلفان. ففي الوقت الذي يعمل فيه الراقص كوسيط تقني للعرض، فان الرقص هو وظيفة الجسم المادي. 
 وهذا يضعني أيضا في اعتبار التموجات الناتجة عن رمي حجر في بركة أو انعكاس مرآة في أخرى – مجموعة من التكرارات المترابطة التي تفصل الإدراك إلى طبقة للفعل، ليس فقط كمثال واحد فحسب بل أيضا كتركيبة يمكن أن توجد فيها الدلالة علي الجزء وكذلك الكل. وهذا يعطينا فكرة عن كيفية قراءة الأداء – إذ يمكننا أن نجد واسطته وتأثيره في شيء بسيط مثل التغير في حركة عين أو أصبع الممثل، والتغيرات المتعددة لمجموعة الممثلين داخل مشهد مستمر من التبادل البدني، والفاعلات متعددة الطبقات التي تتحقق عندما يؤكد الفيلم العلاقة بين الممثلين في الميزانسين الذي يلفت الانتباه إلى الصيغ الدلالية بينما يهبط السرد علي المتفرج في لحظة الوضوح والحيوية أو الإدراك المروع. وربما يعني هذا أن نقول أن أداء الممثل في ذاته سوف يسمح دائما بقراءة جزئية فقط ؛ لأنه لا يمكن أن يكون مكتفيا بذاته بل يتطلب بالضرورة تناغم سياقي مع الفيلم أو العرض المسرحي أو أي مجموعة ظروف أخرى يتم تقديم الأداء من خلالها. فلا يوجد أداء يخلو من الوسيط الذي يظهر من خلاله. وبعد قول هذا، ولأغراض هذه المقالة، يجب أن نبدأ من مكان ما، وجسم الممثل هو أفضل من أي مكان آخر. 
.......................................................................................
هذه المقالة هي افصل الثالث من كتاب « فيما وراء حدود الوسائط : العلاقات بين الوسائطية في الوسائط المتعددة Beyond Media Borders : Intermedial Relations among Multimodal media تقديم واعداد لارس اليستروم، والصادر عن دار نشر بالجراف 2021. 
أندي لافندر يعمل أستاذا للدراما والموسيقى في كلية Guildhall في لندن. 


ترجمة أحمد عبد الفتاح