يوسف وهبي بين الذكريات والملكية الفكرية

يوسف وهبي بين الذكريات والملكية الفكرية

العدد 738 صدر بتاريخ 18أكتوبر2021

على الرغم من أن زيارة فرقة رمسيس ليوسف وهبي إلى تونس لم تستغرق أكثر من أسبوعين عام 1927، إلا أن ما كُتب عنها بعد انتهائها، يفوق كثيراً ما كُتب عنها أثناء وجودها في تونس! فبعد عودة الفرقة بعشرة أشهر، وجدنا «قاسم وجدي» ينشر في مجلة «الستار» كلمة بعنوان «يوم في تونس .. أسرة رمسيس والسينما»، قال فيها: 
«سافرنا من تونس إلى صفاقس فوصلناها بعد ست ساعات في القطار. ومدينة صفاقس ككل مدن تونس تمتزج فيها المدنيتان الشرقية العتيقة والغربية الحديثة. وتصادف أن نزلنا في نفس الفندق الذي كان ينزل فيه بعض الممثلين والممثلات، أوفدتهم شركة باتيه السينماتوغرافية لتتمة تمثيل فصول فيلم كانوا قد بدأوا فيه في باريس، ولم نكن واثقين في بادئ الأمر إنهم ممثلون، ولكننا استطعنا أن نميزهم من بين السياح العديدين. الذين كانوا يملأون الفندق، بذلك الطابع الخاص الذي يلازم الفنان فيميزه عن الآخرين، وشعرنا بعاطفة جامحة تدفعنا إلى التعرف بهم، والتحدث إليهم، تلك العاطفة التي يحس بها الفنان نحو زميله مهما اختفت الجنسيات، وتباينت المواطن، فالفن كالأدب لا وطن له. كان من المقرر أن نبدأ التمثيل في نفس الليلة التي وصلنا فيها، ولكن وفداً من أعيان البلد وفضلائها تقدم إلى الأستاذ يوسف بك راجياً منه أن يؤجل التمثيل إلى اليوم التالي لأنهم مدعوون إلى «فرح» ابن أحد الأعيان ولا يستطيعون حسب العادات والتقاليد أن يتخلفوا عن الحضور، وهم في الوقت نفسه لا يريدون أن يحرموا أنفسهم من مشاهدة التمثيل فقبل يوسف بك رجاءهم، وكانت فرصة جميلة. فقد تعرفنا بهم وقضينا معهم سهرة ممتعة في صالة الفندق، سهرة مزدوجة من نوع «الفرنكوآراب»، تبودلت فيها الأغاني الأفرنجية، والموشحات الشرقية، واهتزت الأرض من حركات الشارلستون، ورددت الجوانب صدى صوت «الصاجات» ومرت الليلة على أحسن ما يكون. وفي اليوم التالي بدأنا التمثيل ودعوناهم للحضور، وفي نهاية «السواريه» وبينما كنا كلنا مجتمعين حول المائدة في الفندق، أعلن الأستاذ يوسف بك أن المدير الفني للشركة رجاه أن يسمح له ببعض ممثليه وممثلاته ليعاونوه في تأدية بعض الأدوار في الفيلم، وأن الباب مفتوح لمن يريد. وما كاد يعلن ذلك حتى تولتنا نشوة السرور والغبطة، ووددنا لو تشرق الشمس بأسرع ما تستطيع لنتمتع بما تصبو إليه نفوسنا من التمثيل في الفيلم!!».
إلى هنا انتهت مذكرات قاسم وجدي، ولكننا لم نعرف هل مثّل أفراد فرقة رمسيس في الفيلم الفرنسي الذي كانت الشركة تقوم بتصويره؟ أم أن هذه القصة مختلقة؟! ولماذا يؤلف قاسم وجدي هذه القصة وينشرها بعد عودة الفرقة بعشرة أشهر؟ ولماذا لم يثبتها أو ينفيها بقية أعضاء الفرقة؟! وهل هناك أحد هواة تاريخ السينما ويكون من جامعي الأفلام القديمة، يخبرنا عن فيلم فرنسي تم تصوير بعض مناظره في تونس عام 1927، وظهر فيه بعض أعضاء فرقة رمسيس، وربما كان فيه بعض الممثلين التونسيين، حتى ولو كان ظهور الممثلين العرب ظهوراً صامتا؟! ربما نجد الإجابة يوماً ما عن هذه القصة!!

ذكريات بعد 42 سنة
بعد مرور اثنتين وأربعين سنة من زيارة فرقة رمسيس إلى تونس - وبعد استقلال تونس من الاستعمار الفرنسي، وبعد قيام ثورة يوليو 1952 في مصر – قام يوسف وهبي بالحديث عن ذكريات حدثت له ولفرقته في تونس عام 1927، عندما زارها لأول مرة، ونشر هذا الذكريات في مجلة «صباح الخير» في ديسمبر 1969، قائلاً: «في سنة 1927 زرت مع فرقة رمسيس لأول مرة تونس الخضراء الشقيقة لأقدم عروضي المسرحية. وهناك قوبلت أنا وأفراد فرقتي بأكبر مظاهر الترحيب وكانت أول مسرحية افتتحنا بها على المسرح البلدي «انتقام المهراجا» الوطنية، وما أن انتهينا من تقديم المسرحية حتى تعالت الهتافات وغطت المسرح الورود والرياحين واندفعت الجماهير من شباب تونس الحبيبة ليعانقونا عناق الأخ للأخ والشقيق للشقيق. وكان لهذا التعاطف العربي الفياض أعظم وقع، فقد انهمرت دموعنا عندما شاهدنا دموعهم الفياضة تنهمر من مآقيهم، وغمرتنا عاطفة عارمة من السعادة والغبطة. وهال المستعمر الغاشم هذا التكريم والتآخي فأسرع المقيم الفرنسي وبعث مندوباً من قبله يهددني بإلغاء الرحلة وطردي من البلاد فوراً بتهمة إثارة النعرة العربية في ظرف أربع وعشرين ساعة. وكانت في نهاية المسرحية جملة ما زال يرددها المخضرمون من أبناء تونس، بدأت بقولي: «قالوا لنا إنكم سوف لا تفهمون لغتنا! فقلت عجباً، ألا يفهم الدم الدم، ألا تفهم الأم لغة طفلها قبل أن يهبه الله القدرة على الكلام». ولولا خشية المستعمر من حدوث انفجار وطني لشحنوني في أول باخرة، ولكنهم أجبروني أن أقطع عهداً بعدم تمثيل ما يثير الروح القومية».

يا تلحقوني يا ما تلحقونيش
إن كان يوسف وهبي زار تونس على رأس فرقته «رمسيس» عام 1927 لأول مرة، فهذا ليس معناه إنه لم يزرها مرة أخرى، بل زارها ولكن ليس على رأس فرقته «رمسيس» بل زارها أكثر من مرة على رأس «الفرقة المصرية» - وهي في الأصل «الفرقة القومية» - في أوائل خمسينيات القرن الماضي. وكانت من عادة يوسف وهبي أن يمثل مسرحياته، التي مثلها مع فرقته «رمسيس» حتى ولو كان على رأس الفرقة المصرية؛ لأن أغلب أعضاء الفرقة المصرية، هم في الأصل أعضاء فرقة رمسيس. وفي إحدى زيارات يوسف وهبي لتونس مثل مسرحية «يا تلحقوني يا ماتلحقونيش»، فشاهدها الفنان التونسي «محمد بن علي» الذي سنذكره كثيراً – فيما بعد – بوصفه صحافياً ومراسلاً لمجلة «الفن» المصرية في منتصف خمسينيات القرن العشرين، ولكنه في عام 1962 – وربما قبل ذلك – أصبح مؤلفاً وممثلاً مسرحياً وإذاعياً، هكذا كتب تعريفه على «ترويسة» أوراقه الرسمية، التي يكتب عليها خطاباته! وفي السادس عشر من أكتوبر 1962، أرسل خطاباً إلى الكاتب والمخرج المصري «فتوح نشاطي» جاء في ترويسة الخطاب «محمد بن علي مؤلف وممثل مسرحي وإذاعي، نهج بن عثمان زنقة الديار الجدد رقم 9 تونس»! أما نص الخطاب، فيقول فيه صاحبه:
«سيدي الفاضل المحترم الفنان الكبير الأستاذ فتوح نشاطي. أعطر تحية وأزكى سلام. وبعد أداء التحية اللائقة بجنابكم الرفيع نود من حضرتكم أن تحققوا لي هذه الرغبة ولكم الشكر سلفاً. سيدي الكريم، في إحدى رحلات الأستاذ يوسف وهبي إلى تونس قدم لنا من ضمن رواياته مسرحية «يا تلحقوني يا ما تلحقونيش» التي هي من تأليفكم وبما أن هاته الرواية نالت الإعجاب والتقدير من كافة أفراد الشعب التونسي رأيت من الأنسب أن أنقلها إلى اللغة التونسية الدارجة حتى تعم فائدتها، ولهذا سيدي فإني أود من حضرتكم أن ترخصولي في ترجمتها مع حفظ حقوقكم الأدبية في «جمعية حقوق المؤلفين» فإذا وافقتم على هذا فالمرجو من حضرتكم إرسال نسخة من المسرحية لنقدمها في هذا الموسم. وإذا لكم مسرحيات أخر فيا حبذا لو ترسلونهم مع مسرحية «يا تلحقوني يا ما تلحقونيش». وفي انتظار ما يرد منكم تقبل سيدي أعطر التحية وأزكي السلام من المخلص محمد بن علي».
هذا الخطاب يُعدّ دليلاً مهماً على العلاقات المسرحية بين مصر وتونس؛ لأنه يؤكد على أثر العروض المسرحية المصرية في نفوس الشعب التونسي، وذلك باعتراف أحد رموز المسرح التونسي! هذا بالإضافة إلى رغبة محمد بن علي على تونسة المسرح المصري باللهجة التونسية الدارجة، مما يدل على الارتباط الوثيق في العلاقات المسرحية بين مصر وتونس. وللأسف الشديد لم أصل إلى ردّ فتوح نشاطي، ولم أجد أية إشارة عن هذا الموضوع، ولكنني أستطيع أن أخمن نقطتين في رد فتوح نشاطي – وربما كان الرد حول هاتين النقطتين فقط – الأولى تتعلق بالمبلغ الذي طلبه فتوح وهو مبلغ كبير جداً، أكثر بكثير من ثلاثين جنيهاً! والنقطة الأخرى تتمثل في استفسار فتوح عن طبيعة «جمعية حقوق المؤلفين»! والذي يؤكد كلامي هذا، وجود خطاب آخر أرسلة «محمد بن علي» إلى فتوح نشاطي بعد شهرين تقريباً من خطابه الأول، وتحديداً في الثالث عشر من ديسمبر 1962، قال فيه:
«حضرة الفاضل المحترم الأستاذ الكبير فتوح نشاطي. أعطر التحية وأزكى السلام. سيدي الكريم، اتصلت بخطابكم الرقيق واستوعبت ما فيه ولهذا فإني أحيط علم سيادتكم بأن المبلغ الذي طلبته كثيراً. إذ لا يخفى عليكم إننا في تونس ليس لدينا سينما ولا تليفزيون، إنما يوجد إذاعة وفرق تمثيلية هاوية، وهناك فرقة محترفة لا تشتري الروايات. ولذا فإنني لا أستطيع أن أدفع لكم إلا 30 جنيهاً فقط لا غير. وأما «جمعية حقوق المؤلفين»، فهي يا سيدي الفاضل شركة عالمية ومقرها الرسمي باريس وعندها فروع في جميع أنحاء العالم منها تونس، بحيث لو روايتك مثلت عندنا فقطعاً ستنال نصيبك وأنت في القاهرة. ولذا فإني أفوض لك الأمر فإذا أردت أن تبيعها فإني أرسل لك ثلاثين جنيهاً مع علمي بأسماء بقية الروايات الأخرى التي لديكم وكيف أدفع لكم المبلغ وعن أي طريق؟!! وإذا أردتم أن نحفظ لكم حقوقكم في التأليف في فرع جمعية المؤلفين التي عندنا، كما نتعامل مع معظم المؤلفين الفرنسيين. فأنا تحت أمركم. وفي انتظار ردكم تقبل سيدي أعطر التحية وأزكي السلام».

حقوق الملكية الفكرية
مما سبق نلاحظ أن الخطابين المرسلين من «محمد بن علي» إلى فتوح نشاطي تاريخهما في عام 1962، وأننا لم نجد أي أثر لهذا الموضوع في حينه، مع استفسار فتوح عن «جمعية حقوق المؤلفين»! فما العلاقة بين تاريخ الخطابين وبين استفسار فتوح عن حقوق المؤلفين؟! وما علاقة هذا كله بمسرحية «يا تلحقوني يا ما تحلقونيش»؟! الإجابة تتمثل في مجموعة وثائق قانونية وقضائية تقع بين عامي 1960 و1965، تتعلق بمسرحية «يا تلحقوني يا ما تحلقونيش»، وهذا تسلسل فحوى نصوص هذه الوثائق:
في يوليو 1960 أرسل فتوح نشاطي خطاباً إلى مدير عام التليفزيون، قال فيه: «نتشرف بإفادتكم إنني أرسلت اليوم إلى الأستاذ يوسف وهبي الخطاب المرفق صورته والخاص بتسجيل مسرحية «يا تلحقوني يا متلحقونيش» في التليفزيون، وهي المسرحية التي اقتبستها وأخرجتها للفرقة المصرية الحديثة خلال موسم 1953/1954، وكان يمثل فيها الأستاذ يوسف وهبي الدور الأول، راجياً أن يحتفظ لي بكافة حقوقي بوصفي مقتبساً لهذه الرواية».
وفي مايو 1965، أرسل فتوح نشاطي خطاباً إلى مدير عام إنتاج مؤسسة السينما، قال فيه: «فقد قرأت بإحدى الصحف إنكم في سبيل إخراج فيلم كوميدي من تأليف الأستاذ يوسف وهبي باسم «مراتي حماتي». ولما كان هذا هو اسم المسرحية التي اقتبستها وأخرجتها للفرقة المصرية الحديثة خلال موسم 1953/1954 وقام ببطولتها الأستاذ يوسف وهبي نفسه، وألح في تبديل اسمها حينذاك من «مراتي حماتي» إلى «يا تلحقوني يا متلحقونيش»، ومثلت بنجاح عظيم. فرجائي إلى سيادتكم أن تحتفظوا لي بحقوق اقتباس هذه المسرحية. وأن لا تبتوا في هذا الموضوع قبل الرجوع إليّ خاصة وقد سبق للأستاذ يوسف وهبي أن تقدم للتليفزيون لعمل فيلم من هذه المسرحية على أنه مؤلفها. ولما احتججت على ذلك بخطاب رسمي بتاريخ 16 يوليو 1960 للسيد مدير عام التليفزيون أوقف المشروع إلى يومنا هذا. وقد حاول الأستاذ يوسف وهبي سنة 1962 أن ينتزع مني إمضائي على ورقة أتنازل فيها عن حقي في الاقتباس مقابل دفع مبلغ من المال فقبلت. ولكن رسوله إليّ لم يكن يحمل المبلغ المذكور. فرفضت الإمضاء وتوقف إخراج الفيلم للمرة الثانية. هذا ما لزم إخطاركم به يا سيدي. وأنا على أتم استعداد لتقديم الأصل الفرنسي الذي اقتبست منه وعليه حواشي الاقتباس بخط يدي وجميع المستندات التي تثبت حقوقي في هذا الاقتباس. وفي انتظار ردكم الكريم».
لم يتلق فتوح أي رد، فصعّد الموضوع وأرسل مُحضر محكمة بولاق وأنذر رئيس هيئة التليفزيون العربي بشارع ماسبيرو بدائرة قسم بولاق؛ بأن يمتنع عن تسجيل مسرحية «يا تلحقوني يا متحلقونيش» ضمن سلسلة المسرحيات التي يسجلها يوسف وهبي للتليفزيون، بوصفه مؤلفها؛ حيث إنها من اقتباس فتوح نشاطي وله بذلك حقوق الملكية الأدبية كاملة طبقاً لمبادئ القانون وأحكامه، ولا يجوز للتليفزيون أن يسجلها دون الاتفاق مع فتوح باعتباره صاحب المصنف ودفع حقوقه المادية. وبما أنه من ناحية أخرى فقد علم فتوح أن يوسف وهبي يزعم أنه صاحب النص أو أن له حقاً فيه، وهو ادعاء غير صحيح، فالمسرحية مسجلة باسم الأستاذ فتوح نشاطي كمقتبس لها في فرقة المسرح القومي التي قدمتها باسمه في موسم 1953-1954. وبما أن التليفزيون العربي وهو هيئة رسمية يهمها إعطاء كل ذي حق حقه، يجب عليها الاتفاق مع فتوح نشاطي قبل تسجيل الرواية، أو مطالبة الأستاذ يوسف وهبي بتقديم تنازل أو اتفاق مكتوب بينه وبين فتوح أو مطالبته بتقديم ما يثبت إنها من اقتباسه أو ملكيته لها إذا مضى في هذا الادعاء، وإلا كان التليفزيون مسئولاً عن جميع الحقوق التي لفتوح باعتباره المالك الوحيد للمصنف فضلاً عن التعويضات عن الأضرار المادية والأدبية التي تترتب على ذلك.


سيد علي إسماعيل