جماليات المسرح المضاد (2-2)

 جماليات المسرح المضاد (2-2)

العدد 589 صدر بتاريخ 10ديسمبر2018

تقريبا خلال الفترة من «مشروع فرويد من أجل منهج علمي لعلم النفس «إلى أفاق السخط غير القابل للنقض الذي لا يمكن تحمله، في نوع من الاعوجاج، اندمج المسرح والمسرح المضاد في تقلبات النقد: من بداية النزعة الطبيعية عند (ستريندبرج) – الذي كانت مقدمته لمسرحية «الآنسة جوليا Miss Julie» ذات ميل بريختي مدهش – وصولا إلى شخصيات (بيرانديللو) الحائرة ,ومسرحيات (جرترود شتاين) المحيرة، التي كانت، مع حذف أو تمييز الشخصية، مسرحيات مضادة فعلا، حيث كل شخص هو ذلك الشخص نفسه، وهناك عدد منهم كل واحد منهم هو ذلك الشخص نفسه – حيث الشخص هو شخص واحد فقط (وقد ظل شخصا مهملا عند هذه النقطة حتى وقت قريب) بين تجسيدات المسرح المضاد في الطليعة الحداثية. وقد كانت هناك مختلف السخريات، مثل هجوم المستقبليين، ليس فقط علي خواء المسرح الجاد، ولكن أيضا هجومهم علي مساواة النزعة الطبيعية بالنزعة الإنسانية في الواقعية المتطورة. وبرفض المسرح، ليس فقط لمجرد المحاكاة، بل أيضا المحاكاة التي أنجزها والتي أعادت تقديم ما انتقدته – كما تراه النظرية الآن – فقد ذهب (مارينتي) وجماعته بالفعل، مع كل ضراوة تصريحاته، من خلال مسرح الواقع الجنوني الهائل (بكل عروضه الناجحة) بعد السمو الواضح لحقيقة أكثر مباشرة. وكأنه يتوقع – رغم ذلك، كل الشراسة، حقيقة أهدأ ذات أبعاد أقل – ما كتبه (سلافوي سيزيك Slavoj Zizek) (في وضع أدائي آخر في جداله المبهج) بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر: الإرهاب الأصولي الكامن، لكنه مخفي في شغف القرن العشرين بالواقعي، مع استشهاد ليس فقط حماسي، ولكنه حقيقي وفوري وضامن لجنة علوية.
قد كانت هناك، لوحات (بوكاشيونيBoccioni) و(كارا Carra)، ولكن لم تكن الروح المسرحانية للنزعة المستقبلية مربوطة بجدران المتاحف، أو ديكورات خشبة المسرح، بل ذهبت بدلا من ذلك (كما هو الحال مع تريستيان زارا والدادية أيضا) إلى حيث كان الفعل الحقيقي، في المقاهي والملاهي الليلية، والقاعات السياسية والأحداث الرياضية، ومكاتب الصحف المعادية، أو في الشوارع، حيث في العروض سيئة السمعة، يهزمون الناس رغم ذلك بدون تمثيل مسرحيات. وبينما كان السيرياليون مفتونين بالأحلام واللاشعور، وحطموا أيضا إطار اللوحة، والفن الذي يقوم علي قواعد وتحولوا إلى الكولاج والفتومونتاج (مونتاج الصورة) والتركيب والتجميع والضوضاء وفنون الجسم والبيئات، ومع مواقع متعددة في العالم الحقيقي، لم يكن فقط فن أداء، بل أيضا أداء الحياة اليومية. (أما في ما يتعلق بهزيمة الناس فان الشخص الوحيد الذي سمعت (بيكيت) يتحدث عنه هو أندريه بريتون Andre Breton، لأننا إذا اختلفنا معه فإنه يهزمنا). كل هذه الأشياء الحالية اليوم، بالطبع، في عالم الفن الأدائي – كما هو الحال مع رشرشات الدم عند (استيفان كانتور Istvan Kantor) أو فرقته Machin Sex Action، أو الأزياء والأطراف الصناعية وأداء الدور في عرض (ماثيوس بارني Matthews Barny) «العدوى الفيروسية: الجسم وسخطه Viral infection: Body and Its discontents» – لا يمكنها أن تهتم بالمسرح بشكل أقل. أما بالنسبة للطليعة التقليدية، وتوغلها في الحياة اليومية العادية، فقد تكون قد خدعتها في هذه العملية، ولكن ما بدا غريبا أو عجيبا هو الطبيعة الثانية (السمة المميزة) الآن– علي خشبة المسرح وخارجها، وحتى في الأزياء، أو العروض الضخمة في المتاحف.
أو ربما هي كذلك حتى يتم تأملها، عندما تصبح تهديدا مرة أخرى، مثل مادة المسرح نفسها، التي ليست بخلاف العدوى الفيروسية، تحجب نفسها عن الرؤية. أما بالنسبة للمسرحانية الوسائلية instrumental theatricality لأي شكل من أشكال المسرح – ربرتوار التمثيل كله، وأصالة مصادره أو تظاهره بطقوس مقدسة – التي ظهرت من خلال الاستغلال الشيطاني عند (جان جينيه) الذي استمر في مسرح يبدو أن ما فيه من حياة لا يمكن الاستغناء عنها، وكأنه حامل للعدوى. (وإذا كان هذا يبدو سخرية من التفكيك، فقد حاول (دريدا) أن يجعل الرؤية النسوبة المنسوبة إلى جينيه أفضل في مرآته العاكسة. وقد حدث هذا بعد أن اضطر فعلا للاعتراف في دراسة حول (آرتو) أن إلغاء التمثيل هو استحالة مأساوية، حتى أن الاعتقاد في انغلاقه هو التفكير في المأساوية: ولكن ليس مثل تمثيل المصير، بل مثل مصير التمثيل. لا لزوم ولا ضرورة له). ولذلك في نهاية مسرحية «الشرفة The Balcony» عندما تقول السيدة (ايرما Irma) للمشاهدين أثناء غلق الماخور، قبل انتهاء الليلة الأخيرة «يجب أن تذهبوا إلى بيوتكم هناك حيث كل شيء– ويمكنكم أن تتأكدوا تماما أنه – سوف يكون أكثر زيفا مما هو موجود هنا... فلا بد أن تذهبوا «. ربما كنا من صميم قلوبنا لا نريد أن نذهب إلى بيوتنا، ولهذا السبب شعرت عند نقطة الخلاف في أقوى المسرحيات - مثل «أوديب» أو «الملك لير» أو «نهاية اللعبة» (وقد أخرجت بعضهم علي مر السنين) – أننا نميل إلى نكون أكثر مراوغة، وكأن التحليل كان مغلقا، أو في عملية امتصاص أو أيضا طمس، أو إقرار بعمق بأننا نفضل أن ننسى - من أجل الحصول عليه، ورغم استبعاد (تغريب) الحياة التي تدور حول ما نفعله. وسيكون من الصعب أن نعيش مع المسرح المضاد أيضا، باعتباره كارثة الزيف والأكاذيب، معتمدين كما نفعل علي المظاهر. فربما نميل عند حدود الكشف فعلا إلى الكوميديا، ونستطيع أن نضحك معها، علي الرغم من أن الكوميديا التي تصل إلينا فعلا هي عندما لا نعرف متى نضحك. فهل ذلك هو المسرح أو المسرح المضاد، أو ما يبدو بينهما؟. لو أن هناك استقلال، فإنه استقلال الغموض الذي لن أقول إنه جمالي مضاد.
لقد كان (فرويد) هو الذي قال إننا يجب أن نتعلم أن نعيش في شك، ولكن التحيزات المسرحية المضادة، لسبب أو لآخر، لديها شكوكها في ما يتعلق بذلك – ربما أغلبها، في حدود المسرح المفرطة – حيث نحس أنفسنا نشاهد ربما ما لا يجب أن نشاهده. أو من خلال كل ما يبدو، غامضا، وغير واضح، وما لا نقدر عليه فعلا. ومع ذلك ماذا يمكن أن يكون المسرح إن لم يتحرك في اتجاه غير المحتمل، وان لم نكن مستعدين للتخلي عن كل أعظم المسرحيات، ولا سيما التراجيديا، التي انتقدت كثيرا فعلا، أو تعرض معالجات رجعية تكبحها أو توضحها أو تضعها في مكانها الصحيح. ولكن ذلك أيضا هو غرور المسرح المضاد، فهل يمكنهم أن يذهبوا بعيدا فعلا – أعني بذلك الغضب والخجل والندم والألم الذي لا يطاق، الذين جاءوا بهم إلى الوجود، قبل أي دراما، ويصرون علي تمثيلهم – إذا كان ينبغي أن نكتب من جديد صراخ «لير»، أو كلماته المريرة «أبدا أبدا أبدا» أو نلغيها أو نتهكم عليها، أو حتى في شكل فورات العقل الممزق من التكفير الملحمي المتأخر، ويستبدلهم بكلمات (موللي بلوم Molly Bloom) «بلي، قلت أجل وسوف أقول أجل!». وربما نتذكر في كل هذا أن المسرح المضاد أو المسرحانية الاستراتيجية التي تردع ما يتم تمكينه في الأداء الذي لن تستطيع أن تفكر فيه، ولكن الأشياء الأبسط، مثل التمثيل والإخراج الرديئين أو مفاهيم العرض المسرحي الخفيف، والمسرح المضاد افتراضيا.
بعد أن قلت ذلك، يمكنني الآن أن أتراجع عنه، أو علي الأقل أصحح الخطأ الواضح. لأنني على ما أعتقد أعرف التمثيل الرديء عندما أراه، أو الشحن الزائد أو العرض المفرغ من محتواه، فالأمر الذي حدد تأملي لما كنت أفعل في المسرح – بعد أكثر من عشرين سنة، وأغير بشكل جذري ما فعلت – هو: ما الذي نقصده بالتمثيل، أين ولماذا وكيف ولمن؟، ولأي هدف آيديولوجي؟ قد تعني إجابة أي سؤال من تلك الأسئلة أنك مع أو ضد المسرح، ذلك المسرح علي الأقل، وهناك بالطبع المعنى الذي تصيح فيه تحيزات المسرح المضاد، أو انتشار المسرحانية مهما لهذا الشكل من المسرح وضد ذلك الشكل من المسرح. ورغم ذلك فكرت كثيرا، عموما، في أشكال المسرح في ما يتعلق بالسؤال المزعج، غير المتعلق بالمفهوم الترابطي في صيرورة المسرح، فذلك المسرح نفسه، في ماديته، ليس كذلك مهما كان – إن لم يكن هو كل المسرح، سواء كان حقيقة أو مظهرا. فحيثما يحدث المسرح في ظهوره، سواء كان ذاته من عدمه، فهو شيء آخر مرة أخرى، أو على الأقل يمكن أن يبدو ذلك – وكأنه اللاشيء الذي لم يكن موجودا واللاشيء الموجود، أو اللاشيء الذي يتم تفعيله الذي بدأت به مسرحية «انتظار جودو»، «لا شيء يجب أن نفعله» – الذي يحير الإدراك نفسه، ويزيل الغموض مرة أخرى، أو إبعاد تأثير الاغتراب البريختي.
هذا المسرح في نقطة الصفر، أو مثل مفهوم الصفر نفسه، ذلك ما قيل عنه، فإذا نظرت للصفر فلن تري شيء، ولكن أنظر من خلاله فسوف ترى العالم. وقد ترى فيما وراء الرياضيات أكثر من ذلك، أو بالأحرى، تراه ولا تراه، كما في مشهد الخزانة في مسرحية هاملت، حيث تقول جرترود كل أن ما تراه، والذي هو، حتى لو كان يهلوث، وأنه لاشيء هناك يستحق أن تراه – فما يراه وما لا تراه هو بشكل وجودي شيء أكبر من مجرد الفكرة الثابتة في العقل. وهكذا مع ما هو واضح أن لا أحد منا يستطيع أن يرى، لا الشخصيات، ولا الممثلين، ولا الجمهور الذي بيننا، عندما ينظر إليه مباشرة، أو مع عيون تحدق في ضجر، لا يمكن لأي شكل من أشكال المسرح المضاد أن يفعل أي شيء حيال ذلك، علي الرغم من أنه قد يكثف النظرة أو يكسرها أو يحفرها في العقل. وهذا ليس صياغة لعبارة جديدة أيضا، أو عملية تحويل المسرح إلى سلعة. ولذلك، عندما كتبت من قبل أن كل تقاليد المسرح، بكل أدواتها هي غطاء تاريخي للحقيقة الانطولوجية التي تقول إن هذا الشخص يؤدي عرضا هناك، وذاك الشخص يموت أمام عينيك، لم أكن أتحدث عن الأسلوب الجسدي، كما كنت أتحدث عن النزعة الأدائية الشاذة، بل انه بالأحرى – في فكرة أن الأجسام هي المادة، المادة التي تصنع الجسم – مادة المسرح الشاملة، الموجودة بلا جدال ولكن غير مفهومة، وتجبر الانعكاسية بأنها لن تكون مرضية. ومع ذلك، إذا تمكنت من تصديق ما أقرأه في الصحف، فقد يكون عرضا عابرا، وبأسرع مما نعتقد، مرحلة عابرة أخرى.
وفي تصورات (فيريليو) لنهاية العالم، التي يصر أنها الحقيقة الافتراضية (بالمعنى الحرفي للكلمة) توقع بالفعل عالما رقميا متفوقا، من شأن تكراراته الشديدة أن تلغي الجسم باعتباره عبئا، مما يتطلب، ربما مظهرا لجسم بيولوجي مع فن الجسم الذي يعكس عدم وجوده غير ذي الصلة عندئذ. ونسمع الآن فعلا من علماء الجينات – كما نسمع من فناني الجزيئيات مثل (جو ديفيز Joe Davis)، الذي صنع فنا من الحمض النووي باستخدام رسائل مشفرة داخل جينات بيكتيرية – إن هزيمة الموت قد تكون في أوجها، أو أنه خجول من الانتصار التام، إذ إن توقع الحياة لمدة 4000 أو 5000 سنة ما هو إلا مجرد احتمال، وموجود في المشاهد التي تقدمها الطليعة. علاوة علي ذلك، عندما نسمع من (وايتفيلد ديفي Whitfield Dffie)، مدير الأمن في مشروع sun micro systems)، إننا نعيش عموما في آخر أجيال البشر، وأن هناك أناس أحياء اليوم سوف تكون لديهم حياة غير محدودة المدى، فان ذلك من المحتمل أن يغير تفكيرنا في ما يتعلق بالمسرح، مثل أي شيء إلا أن يكون بقايا ظاهرية، لأن أداة التمثيل التي تستند عليها التقاليد، حتى لو كانت تقاليد مسرحية مضادة، تصبح ذاتها قديمة، مثل التمثيل نفسه، وإعادة تقديم ما يختفي، يمكن هي نفسها أن تختفي داخل اللانهائي – الذي كان في تلك الحياة الأخرى قدر التحليل النفسي، وغرور تفسير الفن الدرامي للاشعوري.
وفي نفس الوقت، بينما نقيم الحجة علي هذه التوقعات، كان هناك عرضا مسرحيا يسمى «الإنسان المعلق The Hanging Man» – جاء حديثا من إنجلترا إلى أكاديمية بروكلين للموسيقى، وكان يعبر عن أن الموت مستحيل من خلال سلسلة من الأحداث التي تدور بشكل لا مركزي واسع ومسرحي بالتأكيد. وقد تطور العرض بواسطة المسرح المستحيل Improbable Theater، والذي يبدو أنه طفرة أكثر تفاؤلا من الكتاب الذي قدمته بعنوان «المسرح المستحيل Impossible Theater»، بعنوان فرعي «مانفيستوManifesto». إذ قدمت هذا الكتاب من خلال مبدأ الواقع الذي لا ينضب، والذي يقول إن المسرح نفسه هو شكل من الاستحالة، مع أن ذلك مستحيلا، أو مكروه في المسرح الأميركي، في الوقت الذي كنت أكتب فيه هذا الكتاب، بعد ظهور الحرب الباردة. ولغرض ما قدمت الملاحظة التالية عندما دمجت عبارة من الحرب الباردة مع النقد الجديد: «لقد كان ميزان القوى الطقسي، ذلك أن الحفاظ علي غموض التوتر الخطير هو أحد أهم الأشياء التي شغلت النقد في القرن العشرين. والان في القرن الحادي والعشرين، فان ما نسميه عصر الإرهاب، كما يمكن أن يبدو في الوقت الحالي، والذي هو زمن المسرح، هو أن التوتر المحفوف بالمخاطر أسوأ، وأكثر غموضا، علاوة على الأرواح التي تزهق بلا حصر، سواء كانوا يهتمون لذلك أم لا. ومهما كانت الأسباب، الإهمال في الشرق الأوسط وأفريقيا، والاستشراق، والاستغراب، فان جنون العظمة يتزايد، فما بالك بشبكات الأنفاق، وانهيار الدول، والدبابات التي تنشر الخوف، مع نظريات المؤامرة، والتكتم، والأمن القومي المشكوك فيه، وكل شيء بعيد عن الأنظار. وإذا كنت تظن ذلك حقا، فكيف يمكن لأي مسرح، بأي وسيلة مسرحية، أن يتوافق مع ذلك، أو انتشار المظهر الذي ليس ظاهريا علي الإطلاق في العالم، الذي يظهر في الواقع – ما يحدث الآن هو تحريف المظهر؟ - لكي يجعله لا شيء سوى مسرح. وفي هذا الصدد، انعكس جنون العظمة في التجنب، فهناك مستوى من السلوك في المسرح، مثل الجزيء دون الذري، وهو الميون Muon أو مجموعة من الجسيمات دون الذرية (الكوارك Quark) التي يمكنها أن تختفي في الطاقة المطلوبة لكي تراه – إذا كان هناك ميكروسكوب إلكتروني قوي بالشكل الكافي حتى تكون في بؤرة التركيز. (وهو الأمر الذي نأمل أن لا يحدث مع تنظيمي القاعدة والجهاد الغامضين، أو الانتحاريين). فالتجسد مثل الاختفاء، والمسرح يفلت منا لكونه مسرح، رغم أننا يمكن أن نعتقد آنذاك أنه مسرح مضاد، أو مسرح جسدي كما هو معروف، أو ترابط المادة المضادة. (والتي يبدو أن لها بين العلماء جمالياتها). وبالنسبة لممارسة المسرح الفعلية، التي استمرت خلال مأزق استبطان الذات بروح من الشك، فقد تكتسب طاقة معينة مما لا يمكن حله، وهو كيفية تحديد كل ما يبدو سواء كان هناك عدم فعالية أو جرعة زائدة فيما نعتقد أنه مسرح في أي لحظة تاريخية. وأن ما يمكننا أن نستغني عنه هو العبثي –لأننا سوف ننشغل بالقضايا في المستوى الذي قدم عنده أفلاطون التحيزات، واتبعها سقراط – لأنه ليس لدينا خيار في هذا الأمر، إذ ليس لدينا شكلا مسرحيا يستند إلى العبثية من خلال مسرحانية أكثر تهذيبا بأفعالها التكرارية المبالغ فيها في قضية لا يمكن المبالغة فيها، وأضرارها الزائدة. ومع ذلك، إذا اعتقدنا أننا علي صواب، فلا شيء أكثر تأكيدا في الظاهري أكثر من مستقبل الإيهام، إذ تتلاشى المسابقة الباهتة دون أن تترك وراءها حطاما – فيما عدا المساحة الخالية، التي هي بداية المسرح (مرة أخرى)، إذا دخل الممثل هذه المساحة الخالية. وأري دائما أنها لا تحتاج أكثر كتاب.
مع قليل من المسرح ومزيد من المسرح، يمضي الممثلون قدما علي هذا المحور المتذبذب، الذي يحدد أيضا العصور التاريخية، فسواء كان التمثيل قليلا أو كثيرا، فمن في هذا العالم يستطيع أن يقول – الممثل؟ المخرج؟ المشاهدين؟ - ما الذي يكفي حقا؟. يمكن التفكير في كل صورة للمسرح بنفس الطريقة، من حيث إعداد المشاهد والإضاءة والملابس والصوت وصولا إلى زمن المسرحية، مدة الساعتين أو التخدير الجمالي في عروض (روبرت ويلسون) المبكرة، المرهقة والتكرارية وكأنها ملحمة، مع التبديل غير المحسوس، الذي ينظر إليه باعتباره فكرة ثانوية. أو، مع امتداد المسرح إلى الأبعاد الأوبرالية، فقد يكون هناك قدرا كبيرا جدا يستحق المشاهدة، كان موضوعا في الأخبار مؤخرا، رغم عظمته – حالة (ديبورا فويت Deborah Voigt) في الصوت المدوي والجسم الضخم – فالوزن الملائم للسوبرانو التي تغني هو (أدريان Adriane) وليس أقل بفستان كوكتيل. فماذا يوحي هذا، حتى في في النسب المختزلة لأشكال المسرح الأخرى، هو أنه بعيدا كثيرا عن التمثيل يمكن أن يوجد كثير من الممثلين، حرفيا ونفسيا كذلك والذين سمعنا عنهم في التقاليد بداية من جوردون كريج وحتى رولان بارث.
عندما قلت منذ قليل أن المساحة الخالية في المسرح تحتاج فقط إلى نظرة، فلم يكن ذلك نابع من الرغبة في خلق فن عير شخصي، مثل (مالارميه) وآخرين منذ ذلك الحين، والذي، بمحاولة إلغاء التمثيل بكل الوسائل، أراد أن يكون الممثل خارجه، بخيلاء الشعر المضاد للتمثيل. لأنه حتى عندما يتم اختزال التمثيل إلى الإيمائي أو ما يتعلق تمثيل الأفكار، حتى عندما لا يكون الممثل موجودا فعلا، بل يتم استبداله بالدمية ,أو أي نموذج غير بشري آخر، فان التمثيلي لا ينطفئ، ويسود، وإذا حدث محو للنموذج البشري، فإنه موجود في لوح الكتابة الصوفية عند (فرويد)، ولو كان مجرد أثر. ويظل المسرح من أجل المشاهدة، لأنه من أجل التذكرة، ولن يكون كذلك على الإطلاق إن لم تكن فيه رائحة الأخلاق، شيء يشاهد بإحساس (كما يفعل الأعمى «جلوستر» في مسرحية «الملك لير») داخل أو خارج المسرح، بمعنى التقاليد. وبالنسبة لدراسة (بارث) عن «دمية البونراكو»، فإنها في تقاليد النقد الذي لا يجد شيئا متوقعا في المسرح، ولا صيغة للمسرحانية، أكثر من تلك المرتبطة بالتمثيل – مع ذخيرة من إيماءات التعساء وسلوكيات التسامح الذاتي، حتى عندما ركزت في الشخصية – والحضور البدني للممثل. ومع كل مشاعره تجاه حبات الصوت (والموسيقييون علي جانبي دمية البونراكو)، يفضل (بارث) النماذج السوداء المجهولة التي تتلاعب بالدمى علي خشبة المسرح أكثر من الجسم البشري الذي يتميز بطابع نفسي، الذي لم يعد أكثر من مجرد لعنة في موقفها الذي يتميز بالغفلة. وفي عبور النظرية بالممارسة، يجب أن اعترف أحيانا، أثناء عملي مع ممثلين معينين، يشاركون في نفس الرؤية، علي الرغم من أن تفضيل الدمى كان موجودا أحيانا عندما يدفع مخرجون مستبدون الممثلين في اتجاهها.
وحيث من المفترض أن يتحرر الممثلون من خلال الإحساس والذاكرة العاطفية، سيظل الممثلون لعنة مضاعفة عند (بارث)، ليس فقط بسبب حضورهم البدني ومعه رائحة الفضيلة، بل ربما أسوأ من ذلك، وهو الخطر الداخلي للنرجسية. وبالنسبة لممثل استوديو الممثلين، بالأسلوب الذي يخفي التمثيل، أو أي مظهر للمسرح، فان مسئولية الأداء تظل إيهاما آخر – فيما وراء الإيهام في المسرحية، عندما يصبح رفض المسرحانية رمزيا مع «مارلون براندو «هو علامة واضحة لها. وإذا كان هناك في نفس الوقت خطر في اختيار الممثلين، جماليا أو مفاهيميا فقد يكون أيضا حصيفا، كوسيلة لتضخيم أو تصغير المسرح، وبالتالي، سواء كان ذلك، عن طريق القصد أم لا، فإنه اقتحام للمسرح المضاد. وبالنسبة لما يحدث في التدريبات، ودرجات الظهور: «افعل ذلك مرة أخرى! «فإن المخرج يقول ما هو وكم مرة، أو أعده كله أو (صمت)، أو جزء منه مأساوي غير مألوف؟، كما هو الحال في المشاهد المنسوبة إلى بيكيت، يستطيع تقريبا أن يدفعك إلى الحائط. أي حائط؟. مثل الحائط الذي أصر «هام» أن يذهب إليه قبل إعادته إلى المنتصف – «فرقعة في المنتصف» – في قاع الخروج من الوهم. وكم مرة نسمع في التدريبات «كلا.. ليس هذا على الإطلاق، إنك تكرر نفسك فحسب. أو إنك تمثل فقط». وهو على ما أعتقد ما يفترض أن تفعله في المسرح.
ما أقوله هنا بشكل أساسي – في فترة القيمة المستهجنة، حيث المألوف غير موثوق فيه، باعتباره طبيعيا، ومسلما به، وجوهرا غير مؤهل – هو أن المسرح موجود بشكل أساسي، وبكل وضوح، في مكان المسرح المضاد، ولا يكاد يوجد بدونه، ولا يعدو كونه أكثر من جسيمات دون ذرية من غير جسيماتها المضادة. في آخر بعد نفسي للتحيز المسرحي المضاد، هناك فارق بسيط آخر، وهو شيء نميل إلى نسيانه، ازدواجية أخرى في الممثل، ليست ازدواجية الشخصية، ولكن الرغبة في التمثيل وعدم التمثيل. ولا أتحدث عن الرغبة بعيد عن الأسلوب داخل الأداء، من أجل واقعة بارعة، ولكن مرة أخرى من الواقع، الذي لا يمكن استبعاده من المسرح، حقيقة رهبة خشبة المسرح. وقد كانت عند شكسبير عندما تحدث عن الممثل الفاشل علي خشبة المسرح (في أفضل دليل للتمثل عرفته)/ الذي يقدم خوفه مع دوره – وهذا يعني ضمن أنه لا يوجد ممثل آخر. وإذا بدا أن ذلك يؤكد مرة أخرى أن المسرح لا ينفصل عن غريزة المسرح المضاد، فهو يتركنا مع سؤال «من أي شيء» – من خلال أي نقص، في الممثل، في الواقع، في المسرح نفسه - يتم تقديم أثوى مسرح: ولماذا المسرح علي الإطلاق؟. وهذا السؤال يفضي دائما إلى الجمالي.
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
هربرت بلو (1926 - 2013) تخرج في جامعة ستانفورد عام 1956. من أهم كتبه: المسرح المستحيل (1964)، عين الفريسة (1987)، الجمهور (1990)، لاشيء في ذاته (1999)، مبادئ الواقع: من العبثي إلى الافتراضي (2011).
نشرت هذه الدراسة في مجلة Forum Moderns Theater العدد رقم 24/ 1، الصفحات 49 - 60 عام 2009.


ترجمة أحمد عبد الفتاح