احتمالات شريف عبدالمجيد والتجريب المسرحى

احتمالات شريف عبدالمجيد  والتجريب المسرحى

العدد 925 صدر بتاريخ 28أبريل2025

تعد المجموعة المسرحية (احتمالات) الصادرة عام 2023 عن سلسة الإبداع المسرحى بالهيئة المصرية العامة للكتاب، هى الإصدار المسرحى الأول للكاتب الروائى والقصصى شريف عبدالمجيد، حيث تشكل مفردات المجموعة المسرحية من حيث الشكل والمضمون ملمحا بارزا للدراما ما بعد حداثية، والتى لا تتوانى عن إحداث صدمة ثقافية للقاريء الواعى، عبر الاستنباط النفسى واستخدام التقنية العبثية والفلسفة الوجودية مع حالة التشظى الدائم لغويا وفكريا.
وقد لفت نظرى فى هذه المجموعة المسرحية مسرحية (كونشيرتو الزوجين والراديو) ومسرحية (احتمالات)، اللتان عبرتا عن تكنيك هذا النوع الدرامى المعاصر، الذى يحرض على المساءلة والتأمل الدائم وصنع عوالم مغايرة تتماس مع طبيعة إنسان العصر الممزق دائما، والذى لا يتوانى عن صنع المزيد من الحواجز والإشكاليات فى عالم، حتى أصبح كل منا يعيش فى شرنقته الخاصة بما لا يتفق مع طبيعة العوالم الفضائية الافتراضية التى ربما توحى بغير ذلك.
ففى مسرحية (كونشيرتو الزوجين والراديو) نجد أنفسنا فى عالم بدائى هو عالم الكهف لزوجين، والذى لا يلبث أن يتغير إلى شقة من شقق الطبقة المتوسطة، حيث يعيش الزوجان فى صراع نفسى ومعيشى دائم، يحاكى كل أسرة محاصرة بالمطالب اليومية والأحلام المؤجلة، وتتداخل فيه الواقعية المفرطة مع بقايا الهواجس الأسطورية من المشهد الأول، وكأن الكهف لم يختف، بل تحول إلى شقة حديثة لا تزال تضج بالرياح والخوف، ولكن بأقنعة جديدة، وهى: الوظيفة، المسابقات، الإعلانات، الثلاجة المعطلة، والكتابة المعلقة.
يعانى الزوج صراعا حادا بين الضمير الذى يشده لما يؤمن به من مبادئ وبين متطلبات الحياة، التى تذكره بها زوجته فهو يرفض أن يكتب لأجل الجائزة أو التسويق، حيث تمثل الزوجة هنا الواقع بكل مغرياته، فهى ترى أن الكتابة “ترف” لا يطعم، وتضطر للاهتمام بالمسابقات الكبرى للحصول على (مئة ألف جنيه) أو ثلاجة كبيرة، حتى أنها تتحوّل إلى “معلنة” بدورها، وفى أغلب المشاهد ترقص أمام “المعلنين” على نغماتهم الصاخبة، قبل أن تنهار يأسا وعجزا.
كما تتسلل الأخبار والإعلانات عبر الراديو، فتعكس مشاهد العبثية على خشبة المسرح، والراديو هنا يمثل صوت العالم من حولنا بكل ما يحمل من مآس ومن تنويعات وصيغ استهلاكية، ما يخلق شعورا صاخبا بأننا فى سباق دائم مع منتجات وأفكار متواترة طوال الوقت، فننتقل من الأغانى الكلاسيكية لمحمد عبدالوهاب إلى محمد منير إلى موجز الأخبار التى تتصدر فيها الحروب وكورونا وتختتم بإعلانات تافهة ومضحكة.
ومن هنا يقدّم النص ثنائية عميقة وهى المثقف الذى يرفض الانصياع لقيم الاستهلاك مقابل الشريك العملى الواقعى الذى يبحث عن النجاة، وهذا الصراع لا يُقدّم بشكل نمطى، بل فى نبرة شبه عبثية أحيى المؤلف عليها، حيث تتصاعد حدة الحوار عبر استعراضات إعلانية فجّة تدخل المكان بلا استئذان.
ويتجلى فى مسرحية “كونشرتو الزوجين والراديو” أيضا “الكونشرتو” بالمعنى الموسيقى من خلال تنويعات متداخلة من الأصوات والإيقاعات والعواطف، وتتوزع بنى العرض بين أسطورة بدائية كانت فى المشهد الأوّل، وواقعٍ معاصر مشحونٍ بصرخات السوق، الإعلانات، والصمت فى المشاهد التاليه له.
كما تتقاطع فيها الأزمنة، وتتشظى اللغة، وتتداخل الأنواع الأدبية والمشهدية، لتصنع حالة مسرحية تتوسل بالأطر العبثية والوجودية، من خلال العلاقة بين الرجل والمرأة من ناحية وبين الرجل والواقع المعاش من ناحية أخرى، فننتقل من ملحمة فانتازية متمثلة فى الكهف فى المشهد الأول إلى هموم يومية (الثلاجة المعطلة، المسابقات، المكتب الفوضوى) ثم المحاكمة فى نهاية المسرحية.
والمشهد الإعلانى داخل العرض هو المحرك لأحداث المسرحية، حيث تدخل شخصيات لامعة، مفرطة فى الحداثة، فيرقصون ويغنون ويعدون الناس بالمال والسفر مقابل جمع عبوات فارغة، فى محاكاة ساخرة لعالمنا الذى يبيع الأوهام فى أكياس مسحوق الغسيل.
ورغم أن الزوجة الزوجة المنهكة تستسلم للعرض فإنها تفشل فى الفوز، وهو ما يصور مأساة الإنسان المعاصر فى سباقه البائس نحو الحلم المستحيل، وكأن الإنسان أصبح سلعة تباع وتشترى من خلال أحلامه المجهضة، وهو معادل موضوعى لتيمة الحمل المزيف الذى يشير إليه الزوج فى الحوار عندما تخبره الزوجة أنها حامل وأنهما يحتاجان للمزيد من المال من أجل الطفل، فيخبرها الزوج بأنها دائما ما تخبره بذلك الأمل، ما يشعر الزوجة باللاجدوى ويجعلها دائمة الرغبة فى تحقيق أحلامها المؤجلة.
 ويمثل البُعد الفلسفى والاجتماعى هنا جوهر المسرحية ورسالتها من خلال ثنائية الوحدة والاتصال، حيث يشعر الإنسان المعاصر بالعزلة إزاء حنينه للماضى المتمثل هنا فى العودة للتلغراف كوسيلة اتصال قديمة ومعبرة، وبرغبته فى الصمت إزاء حالة الخوف الدائم والعزلة التى يشعر بها.
كما تشكل الكوميديا السوداء - فى المسرحية - من خلال الإستعارات مثل (الرجل القرد، الملحمة البدائية) تناقضا مع صخب المسابقات التجارية والإعلانات، والتى تنتهى بمشهد المحاكمة الذى يضع الإنسان المعاصر أمام واقعه مستسلما ومهزوما، وتعيده إلى المزيد من العزلة فى عالمه.
اضافة إلى العديد من الثنائيات الحادة فى المسرحية مثل: (الكتابة / الإعلان)، (الضمير / الحاجة)، (الرغبة / القهر)، (المرأة / الرجل)، (الكهف / الشقة)، (الذات / الآخر)، (اللغة / الصمت)، ومن منظور نفسى فهى تصور تدريجيًا كيف تنكسر النفس الإنسانية أمام العجز المتراكم، حيث تصل الزوجة إلى حالة انهيار ثم صمت، بينما ينزوى الزوج داخل أوراقه، غير قادر على الفعل.
وقد عبرت لغة النص عن عالمنا المتمزق، عندما مزجت بين الواقعية الساخرة واللغة الرمزية فى المشهد الأول، والتى تتحوّل إلى هجاء اجتماعى مرير فى المشاهد اللاحقة، مستخدمة الجُمل القصيرة، التكرار، الحوار المضطرب، وكلها أدوات تعكس التوتر الداخلى والبؤس الخارجى، بينما يظهر البعد الفلسفى فى لحظات نادرة من التأمل أو السخرية.
ولهذا تأتى نهاية مسرحية (كونشيرتو الزوجين والراديو) ساخرة أيضا ومعبرة عن ذلك التمزق النفسى الذى يعيش فيه إنسان العصر، بين متطلبات الحياة وعدم قدرته على الاستغناء عن مظاهر المعاصرة وبين الحنين للماضى، وهى إشكالية تمسنا جميعا لأننا ما زلنا نحمل هذا الأرق بداخلنا، والذى يعلن نفسه من خلال نوستالجيا دائمة لا يمكن الهروب منها، رغم أننا انخرطنا وبقوة داخل منعطفات تقنيات العصر ولم نعد قادرين على الفكاك منها، لتعد المسرحية ناقوس خطر يضعنا أمام أنفسنا وأزماتنا، إزاء الواقع الإستهلاكى الجاذب والمستهلك لآدميتنا علنا نستطيع أن نوازن بين مبادئنا وبين هذا الواقع المتسارع بلا نهاية.
وهذا المعنى يتماس مع جوهر مسرحية (احتمالات) وهى المسرحية الأخيرة فى المجموعة والتى تحمل نفس عنوانه، إذ تقدم لنا تجربة مسرحية ما بعد حداثية أيضا، متخذة من فيلا ذات طابع غربى مسرحًا للأحداث، وتعتمد على مفهوم (الاحتمالات) كنسيج سردى يتحرك بين الصدفة، والصفقة، والتواطؤ، والانتقام.
إذ تدمج المسرحية دمجًا جذابًا بين الفكرة الفلسفية والأسلوب الميتا–مسرحى، مستخدمة فضاءً متعدد الدلالات، وشخصيات متغيرة فى وظيفتها تشدّ المتلقى إلى للمشاركة، لتمثل دعوة للتأمل فى الاحتمالات التى تشكّل مسارات حياتنا، وفى الطرق التى تتحوّل فيها الضحية إلى شريك فى الفعل، أو إلى منقلب عليه.
وهو ما يؤكد أنه من المستحيل أن تبقى الأمور كما هى، فدائما نحن فى حالة من التحول تفرضها قوانين الحياة أو متطلباتها، ما يصنع حالة من الحراك الفكرى والفنى الدائم، والمسرحية تعتمد على ثلاث شخصيات، هى: (المهرجون: ذكى، سفسط، عواطف) كمعلّقين وشهود على اللعب المسرحى إضافة للمخرج.
ففؤاد هو الزوج المعبر عن النموذج التقليدى للطبقة الوسطى المتزنة، لكنه فى كل احتمال يكشف عن جانب قاتم، إما انتقامى أو متواطئ أو مخادع مما يمثل التناقض الكامن فى الشخصية الإنسانية.
أما ليلى أو الزوجة فهى امرأة جميلة تتحوّل من ضحية إلى شريكة صفقات، ثم إلى لعبة فى أيدى الجميع، وسامر هو العشيق الذى يمثل البراءة الزائفة، وهو رجل رياضى المظهر، لكنه يضطر للانخراط فى مخططات قذرة، أما جابر فهو اللص الذى يرمز للشخصية الفوضوية التى تتآمر من أجل مصلحتها.
بينما المخرج أحمد فهو من يعيدنا إلى وعينا كمشاهدين ويقترح تعديلًا فى اللحظة نفسها، فينفتح أمامنا المغزى النهائى للنص المسرحى.
والميتا-مسرح هنا يتمثل فى الاحتمالات التى تضعنا فى مواقف مغايرة طوال الوقت وتصنع حالة من الدهشة والاختلاف فى النص المسرحى ومن ثم العرض، ما يصنع حالة اللايقين لدى المشاهد، الذى نجده فى حالة متابعة مستمرة لمثل تلك النصوص التى تخلق الإنجذاب التام للفكرة، بل وتضع المشاهد فى حالة من التفكير فى الاحتمالات المتاحة، ما يمثل فكرا فلسفيا غاية فى العمق، عندما يستحضر هنا المؤلف شريف عبدالمجيد مشهدا دراميا مع تغيير الظروف وتغيير ردود فعل الممثلين، كاسرا بذلك حالة الاندماج التام فى موقف معين، وصانعا فكرا نقديا لدى المتفرج يدوم معه طوال العرض، ما يذكرنا ببيرانديللو فى مسرحيته الشهيرة (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) لكن المؤلف هنا صنع لنا احتمالات ممكنة، فلا شىء ثابتا وكل شىء قابل للتحول وللتصديق، ما يجعل القارئ أو المتفرج مشاركا أساسيا فى النص أوالعرض المسرحى.
ومنذ البداية نعلم أنها لعبة مسرحية ما يكسر حالة الإيهام منذ اللحظة الأولى وهى حالة تستمر معنا ويتم التعليق عليها ومناقشتها من قبل المخرج والممثلين، ومن خلال تبادل الأدوار تتكشف لنا وظيفة كل دور درامى فى المسرحية، فمرة يصبح اللص شاهدا على خيانة الزوجة ويبتزها من أجل الحصول على المال حتى لا يكشف ما تفعل، ومرة أخرى يصبح اللص صديقا للزوج وقام بالاتفاق معه سرا حتى يتم توريط الزوجة وتتنازل عن الفيلا التى كتبها الزوج من قبل باسمها، ومرة أخرى يصبح العشيق هو الغرير الذى تم التحايل عليه وتصوير علاقته مع الزوجة لكى يبتزه ويترك له المناقصة القادمة، ومرة أخيرة ينتقم الزوج من الزوجة والعشيق فى الوقت الذى يتم التخلص منه بالسم، وهى كلها أدوار تدور فى إطار المادية الشديدة فى مقابل هشاشة المبادئ والأخلاق، مما يصدم المتلقى ويخلق حالة من الاضطراب والتأمل.
والمدهش فى المسرحية هو حالة التمسرح التى تجعل الممثل يندمج فى الشخصية، ويحاول قتل زوجته الممثلة، اعتقادا منه أنه تمت خيانته بالفعل، وهو الأمر الذى يتحول إلى لعبة أيضا بعد أن بدلت الزوجة الرصاص، ليدخل المخرج من صالة المشاهدين وينهى اللعبة تماما.
وبهذا تكشف المسرحية عن التداخل بين المسرح والحياة معتمدة على الحوار السريع والأسئلة الفلسفية التى تبدو متماشية مع الإيماءات الحركية للمهرجين، اضافة إلى المزج بين الإطار الخارجى للمسرحية أو اللعبة وبين الجانب الخيالى المتمثل فى الاحتمالات مما يخلق تنوعا فكريا وفنيا مطلوبا يكسر الإيهام والمألوف، مع إحالات لأعمال درامية سابقة مثل: (“بيت من لحم”، “العباءة البيضاء”) وإعادة تركيبها بشكل ساخر وتفكيكى، مما صنع إيقاعا سريعا ومواكبا لشروط الدراما المعاصرة وقلق الإنسان المعاصر، والذى يرغب فى التحرر من أسر اليقين إلى الشك، صانعا احتمالات لا نهائية لأفكاره وللواقع من حوله.
كل ذلك يشكل هما مشتركا فى مسرحيتى (كونشرتو الزوجين والراديو) و(احتمالات) فى المجموعة المسرحية (احتمالات) للمؤلف شريف عبدالمجيد، حيث نجح تقنيا من خلال صيغ تجريبية مختلفة فى تجسيد هموم الإنسان المعاصر تجسيدا دراميا واعيا، معبرا عن حيرتنا جميعا إزاء عالم استهلاكى متقلب يمارس سطوته وهيمنته، مما يدفعنا إلى التأمل والشك والتمرد الدائم عليه، وهو ما يمثل ثيمات مشتركة فى أعمال المؤلف شريف عبدالمجيد، كما يمثل تحديا كبيرا لنا وللأجيال القادمة.


ناهد الطحان