معركة صحافية بين أمينة نور الدين وزكي طليمات

معركة صحافية بين أمينة نور الدين وزكي طليمات

العدد 754 صدر بتاريخ 7فبراير2022

مما لا شك فيه أن نجاح زكي طليمات في تونس أوغر صدر بعض المنافسين له في مصر، أو أثار حقد بعض تلاميذه من الجاحدين الذين كانوا سبباً في تركه مصر والسفر إلى تونس! ولعل هذه الفئة من الغيورين والجاحدين تمنوا فشله في تونس؛ ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل عندما عاد منتصراً! ولسبب أو لآخر وجدنا «فجأة» الفنانة «أمينة نور الدين» - التي شهدت بنفسها نجاح طليمات، وشاركته فيه، وتحدثت عنه – تنقلب عليه وتشكك فيه!!
أول جريدة نشرت لأمينة آراءها هذه كانت «القاهرة» - في أواخر مايو 1954 – ومهدت للموضوع بقولها: عادت أمينة نور الدين إلى القاهرة بعد أن قضت في تونس شهرين و18 يوماً، وأخيراً عادت من تونس وها هي تحدثنا عن رحلتها، قائلة: 
قبلت أن أسافر إلى تونس، وكان في استقبالي بالمطار الأستاذ «العقربي» مندوب البلدية، والأستاذ محمد الحبيب المحامي، والسيد أنطوان عيد. والأول يمثل البلدية في شئون تشجيع الفنون والثاني يعتبر نصير المسرح الأول فهو رجل ثري يربح كثيراً من مهنة المحاماة ولكنه يصرف كل ما ينفق على المسرح. ويمتلك مسرحاً كامل المعدات من مناظر وملابس ونراه دائماً وراء كل حركة مسرحية. والثالث يعتبر القائم على التبادل الفني بين تونس ومصر وبقية الشعوب العربية. والحياة الفنية بتونس متقدمة بالنسبة لعدد سكانها ولعلها الأمة العربية الثانية التي اهتمت بالمسرح وأَلّفت فرقة حكومية! والأستاذ محمد عبد العزيز العقربي وهو في الثانية والخمسين من عمره وتلقى الفنون المسرحية على يدي ميشيل سيمون وقضى ثماني سنوات بباريس في دراسة مستمرة ولقى متاعب كبيرة في حياته، وأخيراً استطاع أن يجد مكانه على رأس هذه الفرقة بعد جهاد شاق طويل. والعقربي فنان أصيل أستطيع أن أقول إنه يصل إلى مستوى حسين رياض، وألفت إليه نظر مخرجي السينما لأنه يعتبر نجم شعوب شمال أفريقيا وعددهم حوالي عشرين مليوناً فلو اشترك في فيلم تأكد إقبال هذه الشعوب عليه في حماس. واذكر من أعضاء الفرقة الأساتذة التيجاني، وتوفيق عبد الله، والمازوني، والسملالي، ويوسف العجمي، والآنسة هناء راشد، وتخلو مني الذاكرة عن الباقين. وبدأت البروفات لمسرحية شكسبير «تاجر البندقية» وأسند لي دور «بورشيا» وظللنا في هذه البروفات 12 يوماً حتى كانت ليلة الافتتاح، ولم يسجل الشباك إيراداً محترماً حتى أن البلدية ألغت الحفلة الثانية. ثم مثلت الرواية أربع حفلات لطلبة المدارس بأجور مخفضة، والسبب في ذلك يعود إلى خطأ ارتكبه المخرج في اختيار هذه المسرحية بالذات بدليل أن أوبريت «ليلة من ألف ليلة» تكتظ كل ليلة بالرواد حتى أن بعض المتفرجين كانوا يقفون بالصالة لعدم وجود مقاعد. ويدعونني الحديث عن هذه الأوبريت إلى القول بأن الموسيقار المصري عبد العزيز محمد استطاع أن ينال احترام المواطنين التونسيين من كافة الطبقات لدماثة أخلاقه وروعة فنه وخاصة أنه كان يدير فرقة أوركسترا مؤلفة من 26 عازفاً، واستطاع أن يمزج بين الألحان الغربية والشرقية في روعة كتبت لهذه الأوبريت الخلود في تونس. وتلعب المرأة دوراً كبيراً في المجال الفني وأذكر السيدة «فتحية خيري» وهي مغنية من الدرجة الأولى. والآنسة «جليلة» التي لعبت دور جليلة في مسرحية «تاجر البندقية» وهناء راشد التي مثلت بنرسا وحفظت كلام خليل مطران رغم أنها لا تعرف العربية لأن ثقافتها فرنسية. والتونسيون يعرفون كل شيء عن مصر ويتشوقون إلى أخبارنا ويكنون لنا كل الحب، بينما نحن لا نعرف عن تونس سوى أقل القليل.

الهجوم يشتد
لم تكتفِ «أمينة نور الدين» بما نشرته في جريدة «القاهرة» من هجوم، فأعادت صياغته بأسلوب أشد في حوار لها بمجلة «أهل الفن» عنوانه «أنا عائدة من تونس الخضراء»، قالت فيه: .... ذهبت في اليوم التالي لإجراء البروفة على مسرحية «ابن جلا» التي اتفقت على تمثيلها مع الأستاذ طليمات أثناء وجودنا في مصر، والتي أجرينا عليها بعض بروفات فعلاً قبل سفر الأستاذ. ولكني فوجئت عندما وجدت أن البروفة على مسرحية «تاجر البندقية». س: وما هو السر في ذلك؟ ج: سل الأستاذ طليمات! وكانت المفاجأة الكبرى أنه تحدد لافتتاح الفرقة يوم 3 إبريل، مع أني وصلت في أول مارس، ولم يتدرب شباب تونس الذين هم عماد الفرقة القومية سوى 22 يوماً، ومع ذلك أثبتوا أنهم من خير الممثلين. إنني أقارنهم بأكثر شبابنا ثقافة وحباً للفن، وهم لا يقلون بحال من الأحوال عن شباب المسرح الحديث عندنا. أنك إذا تحدثت إلى أحدهم أدهشتك ثقافته الفنية العالية ومعرفته التامة بتاريخ المسرح منذ العصر اليوناني القديم إلى مسرح جان بول سارتر وجان كوكتو. لقد سعدت في تونس مرتين، مرة حينما داعبت الطبيعة الجميلة خيالي وروحي، ومرة حينما خاطبت ثقافة أولئك الشبان عقلي واداركي. س: وهل نجحت تاجر البندقية هناك؟ ج: كلا مع الأسف، لقد سقطت، وكان سقوطها شنيعاً. س: وما سبب سقوطها في رأيك؟ ج: لا ينكر أحد أن مسرحية «تاجر البندقية» من أقوى المسرحيات العالمية، وأن مؤلفها وليم شكسبير من أمهر المؤلفين الذين لم يجد الزمن بأمثالهم. ولكن للاختيار أهمية كبرى، فموضوع «تاجر البندقية» هذه موضوع عنصري يهاجم اليهود وأساليبهم في الحياة وجشعهم بروح مسيحية صرفة. وفي تونس جالية يهودية كبيرة تسيطر على الكثير من مرافق الحياة، ويعيش أفرادها في وفاق مع العرب هناك. لذلك كان من قصر النظر ومن سوء الاختيار أن تقدم هذه المسرحية في تونس، وفي تونس بالذات. ولذلك كانت النتيجة سقوطها وعدم الإقبال على مشاهدتها. لقد تكلف إخراجها حوالي 8500 جنيه لتلقى ذلك المصير المؤلم. ولم ينقذ الموقف أخيراً إلا دعوة طلبة المدارس لمشاهدتها بأسعار مخفضة جداً، وفي بعض الأحيان مجاناً. وإني لأتساءل بهذه المناسبة: لماذا يصر الأستاذ طليمات على تمثيل هذه الرواية في كل مكان يحلّ به، مع أنه مثّلها منذ ثلاثين عاماً، ومع أنه أخرج مائة وخمسين رواية بعضها أكثر منها نجاحاً؟ ترى هل يكون السبب هو ما ذكره لي البعض، وهو أن طليمات لم ينجح في تمثيل دور في حياته سوى دور «شيلوك اليهودي»! س: ومن هو أكبر الممثلين التونسيين في الوقت الحاضر؟ ج: هو الأستاذ «محمد عبد العزيز العقربي» دون شك. إنني أقف قليلاً عند شخصية الأستاذ العقربي، لا لأنه رئيس الفرقة الجديدة، ولا لأنه درس على يد «ميشيل سيمون» ..... [جزء ممزق من الأصل] س: وماذا كان نصيب أوبريت «ليلة من ألف ليلة» من نجاح في تونس؟ ج: نجحت نجاحاً رائعاً، ويرجع الفضل في ذلك إلى الأستاذ عبد العزيز محمد الذي أثبت أنه موسيقي عالمي وليس مجرد موسيقي شرقي، لقد وضع ألحان الأوبريت، فوفق في وضعها بين الموسيقى العربية والموسيقى الشرقية بشكل لم يسبق له مثيل. كم أحب أن يستمع مواطني إلى هذه الألحان السماوية الرائعة! ولقد تعرفت هناك على عدد كبير من الفنانين والفنانات أذكر منهم: السيدة «فتحية خيري» المغنية التي وهبها الله جمالاً في الخَلق والخُلق، والسيدة «شافية رشدي» المغنية الكبيرة التي بلغت مستوى فنياً لا يجارى. والآنسة «هناء راشد» التي قامت بدور نبريسا في «تاجر البندقية»، والسيدة «جليلة» التي قامت بدور «جيسيكا» في نفس المسرحية. أما الفنانون فاذكر منهم الأساتذة: التيجاني، والمازوني، ويوسف الحجي، وتوفيق عبد الله، والسملالي.

زكي طليمات يرد
لم يقف زكي طليمات مكتوف الأيدي أمام كلام أمينة، فكتب رداً في مجلة «الجيل الجديد»، نشرته تحت عنوان «معركة بين أمينة نور الدين وزكي طليمات»، قال فيه: أعجب للسيدة أمينة نور الدين لماذا هي مشمرة عن ساعد الجد المتواصل في سبيل الانتقاص من الجهد الذي بذلته أخيراً للارتقاء بالمسرح التونسي العربي. في حين أن هذا المجهود قد أعطى نتاجه واعترفت به الدولة التونسية وباركته، وشادت بأثره صحافتها، واعتبرته بلدية تونس، الأساس الأول لفرقتها القومية التونسية! وأعجب العجب أن يكون وجه انتقامها ادعاء بأن مسرحية تاجر البندقية التي افتتحت بها موسم التمثيل مع الممثلين التونسيين، لم تنجح من الناحية المادية، وقد كنت أحسب أن السيدة المذكورة تعلق النجاح الأدبي على النجاح المادي في شئون المسرح، ولا سيما في المجال الذي كنا له، وهو تأدية رسالة للفن المصري في القطر العربي الشقيق تونس، وفي موقف ليس للنجاح المادي فيه حساب أو مقام؟ لقد أفتت السيدة فيما لا تعرف، وقررت ما لا تدري، وحاسبتني بمنطق القرش والمليم، وكأنني أعمل فرقة تمثيلية يديرها شخص اعتاد أن يغتصب حقوق العاملين معه بدعوى أن مسرحيات الفرقة وإن نجحت فنياً، فإن شباك التذاكر لم ينجح مادياً؟ وإلى القارئ بعض ما ينقص زعم الزاعمة. أولاً: قدمت مسرحية تاجر البندقية خمس مرات وبلغ إيرادها حوالي سبعمائة ألف فرنك أي ما يقرب من سبعمائة جنيه مصري على الرغم من أن البلدية، لم تقم بدعاية فعالة لهذه الحفلات كما سجلته الصحف التونسية، وكان من بين هذه الحفلات الخمس واحدة فقط قدمت إلى الطلبة بأسعار خفضت إلى ثلث الأسعار العادية بناء على طلب إدارة التعليم العام، التي قررت أن مشاهدة هذه المسرحية من جانب الطلبة، أمر لازم نظراً لقيمتها الأدبية ولحسن إخراجها، ولما أبداه الممثلون التونسيون فيها من مقدرة ومهارة. جرى كل هذا عن طريق هذه المسرحية التي زعمت السيدة أمينة بأنها سقطت مادياً. ومن الواضح أنه لو صح أن جاءت هذه المسرحية بنصف هذه الإيرادات لما جاز للسيدة المذكورة أن تزعم ما زعمته، لأن تاجر البندقية ليست مسرحية من نوع «برغوت أفندي» و«المرأة التي أكلت ذراع رفيقها»، بل هي لوليم شكسبير وترجمة خليل مطران! ولم نذهب إلى تونس لنضرب أرقاماً قياسية في الإيرادات بل لنقدم فناً رفيعاً غالياً. فأين ما تزعمه السيدة أمينة نور الدين مما أقرره وهو معروف نوهت به صحف تونس كلها؟ ثانياً: اضطررت إلى أن أستبدل بمسرحية تاجر البندقية مسرحية «ابن جلا» بعد أن كان مقرراً أن افتتح بها موسمي بناء على طلب البلدية التي أرادت أن تكون باكورة أعمال الفرقة التونسية مسرحية عالمية معروفة للأوروبيين والتونسيين. ثالثاً: ما دخل السيدة أمينة في أن أغير أو أبدل مسرحية بأخرى في حين أنها قد أخذت أجرها كاملاً من المتعهد؟ أكانت تظن أنها بتمثيل الدور النسائي الأول في «ابن جلا» كانت ستأتي بأكثر مما أتت به في دور «برشيا» في تاجر البندقية، فهي لهذا غاضبة حانقة؟ هذه هي القصة بأكملها، وهي قصة غير مسلية في اعتقادي ولكني اضطررت إلى كتابتها. والآن ألا يحق لي أن أظن - وبعض الظن إثم - إن السيدة أمينة تعمل بوحي المقولة البلدية المعروفة «خدوهم بالسوط قبل ما يرعبوكم» أعني أنها تهاجمني في مزاعم وفي غير حق، خوفاً من أن أفتح فمي بقول فيه حق وليس فيه زعم!
تابعت مجلة «الجيل الجديد» المعركة، وزادتها اشتعالاً عندما طالبت أمينة بالرد! وبالفعل ردت أمينة، قائلة: كنت أود أن يتسع صدر الزميل العزيز زكي طليمات لسماع كلمة نقد لم أتعد فيها حدود النقد الفني الذي قصدت منه التوجيه المخلص الذي يرمي إلى الوصول بفن المسرح المصري إلى الكمال في أداء رسالتنا. لهذا لن أتعرض لما ذكره الأستاذ زكي طليمات عن روايات «برغوت أفندي» و«المرة التي أكلت ذراع زوجها» من أساليب التهكم التي لا تدخل مطلقاً في دائرة التوجيه وليس لها أية صلة بالمستوى العالي الذي ذهبنا إلى تونس لنؤدي رسالتنا فيه. كذلك لن أتعرض في ردي مطلقاً للتصرفات الشخصية التي وقعت من الأستاذ طليمات خلال الرحلة لأنها أيضاً لا تدخل في نطاق النقد التوجيهي الذي قصدت إليه في كلمتي السابقة. لقد قلت فيها إن التوفيق أخطأنا في اختيار رواية «تاجر البندقية» لأنها تعالج ناحية عنصرية ليست مرغوبة العلاج في تونس بالذات وإن كانت محبوبة العلاج في البلاد العربية الأخرى وهذا حق لا أزال أصرّ عليه وأنصح به الأستاذ زكي طليمات وغيره من الفنانين الذين ستتاح لهم فرصة الذهاب إلى شمال أفريقيا بوجه عام ودليلي على هذا أننا اضطررنا في إحدى الليالي في تونس أن نلغي حفلة من حفلات تمثيل «تاجر البندقية» لأن الشباك لم يبع أكثر من ثلاث تذاكر في تلك الليلة مع أن التمثيلية من روائع شكسبير ومع أن المخرج الأستاذ الكبير زكي طليمات! دعاني هذا إلى التساؤل فسألت أهل البلد عن السر في عدم إقبال الجمهور على مسرحيتنا العالمية مع أن بلدية تونس أنفقت أربعمائة جنيه على الدعاية لحفلاتنا فكان جواب الجميع أن اختيار رواية تعالج مشكلة عنصرية خاصة بالإسرائيليين لا ترضي عاطفة أهل تونس التي توجد بها جالية إسرائيلية كبيرة تسيطر على معظم الأعمال في تلك البلاد. هذا هو النقد الذي وجهته لأستاذنا الكبير زكي طليمات، وكنت فيه الناقلة الأمينة لعواطف الجمهور هناك ولم أقصد به مطلقاً مهاجمة الأستاذ زكي طليمات ولا النيل منه لأني أعلم أن من أبسط قواعد اللياقة ألا نغسل ملابسنا غير النظيفة أمام الجمهور!!
انتهت المعركة عندما نشرت جريدة «الجمهورية» يوم 26/6/1954 خبراً، قالت فيه: «تلقى الأستاذ زكي طليمات أول أمس خطاب شكر من وزير معارف تونس على المجهود الذي بذله من أجل تكوين الفرقة القومية التونسية».


سيد علي إسماعيل