سمات وملامح المسرحيات التاريخية واستلهام التراث في مسرح السيد حافظ

سمات وملامح المسرحيات التاريخية   واستلهام التراث في مسرح السيد حافظ

العدد 822 صدر بتاريخ 29مايو2023

إن المسرحية التاريخية أو الدراما التاريخية هي معالجة أو إعادة صياغة إحدى الحقب التاريخية أو تناول حياة إحدى الشخصيات التاريخية، أو انتقاء حال أو موقف أو حدث تاريخي تصلح لمعالجتها في شكل مسرحي يضع فيه الكاتب المسرحي رؤاه الخاصة بما يتناسب وروح العصر من خلال الاستفادة من الميراث الفكري الموجود في المادة التاريخية بحيث يبقى التاريخ واحدا من أهم المصادر الغنية للكتابة الدرامية، وحيث يرتبط الماضي بالحاضر في صياغة فنية جديدة قوامها عناصر المسرح ولغته وتقاليده كما يذكر محمود إسماعيل بدر في مقاله بالعدد 43 من مجلة «الرافد» لماذا المادة التاريخية في المسرح؟ وقد عمل السيد حافظ على الجدل بين الماضي والحاضر، من خلال ديالكتيك بين الموروث الشعبي وبين قضايا الوقت الراهن بتوظيف المادة التراثية بذكاء نحو مناقشة هموم ومشكلات الوطن حاليا، بالإسقاط أحيانا وبالرمز أحيانا أخرى وبالإيحاء ثالثة، اعتمادا على إثارة ذهن المتلقي للتفكير في أحوال مجتمعه من خلال مراجعة التاريخ والحكايات التراثية ليحاكم بها حاضره.
عن هذا التجاوز للشكل المتكلس للتراث تقول د. سميرة أوبلهي “لقد حاول السيد حافظ محاورة موروثنا الماضي وذلك بتحليل ميكانيزاماته وتشكيلاته، وقد استطاع أن يشكل جدلية حميمة بين المعطيات المستمدة من التراث وإمكانات لحظته التاريخية في لوحة تتجسد مختلف الأفكار وأنماط الوعى، التي تعتبر من منظور ثان تجسيدا للعلاقات الاجتماعية للبنية التحتية. هكذا يتضح أن التراث حينما يصب في قالب تجديدي يحمل بصمات العصر فهو يشكل مرجعية ووثيقة هامة. خصوصا إذا تجاوز الشكل المتكلس بكل محتوياته الجرثومية وتمت معالجته حسب وضعيتنا الراهنة بمعنى آخر معادلة إبرازه في رؤية إنسانية جديدة تعبر عن روح العصر”(1).

برهومه:    لا الله إلا الله مات الغالي.
سناره:    مات حبيب التجار.
الشوا:     مات الرجل الطيب.
حسن:    مين دول يا شهاب.
شهاب:    دول يا أبو على الحرامية قصدي.. كبار التجار. 
حسن:    يا راجل.. حرامية إيه بس.
شهاب:    دول اللي بالعين مصر في بطونهم.. ومخبين القمح وبيبعوا القمح الكيلة الواحدة بزيادة بألف المية من تمنها.. الكيلة بألف درهم يا عم حسن بعد ما كانت بعشرة والناس كمان مش لقياها. 
حسن:    ويقبلون تجوع الناس.
شهاب:    دول كانوا مشاركين أبو سعده الوزير.
حسن:    يعني أنت عارف كل حاجه.
حاجب  الخليفة:     رقصني يا جدع.


(مسرحية حرب الملوخية ص43)(2)

والسيد حافظ لم تكن غايته استنساخ التاريخ، ولكن إعادة كتابته بمراعاة ذوق المتلقين والظروف المستجدة في المجتمع، في محاولة لإمداد المسرحيات بعناصر لا نهائية لا تحملها بالضرورة على التقيد بالواقع. وعليه فليس ضروريا أن يكون هذا الحدث قد وقع بحرفيته في فترة من فترات التاريخ. إلى جانب هذا فقد أسهم استلهام التاريخ في تجاوز الأسلوب السياسي المباشر لصالح إيحائية النص. وعليه فقد عمل على إعادة تفسير بعض الأحداث التاريخية من منطلقات جديدة، وفق خلفيات أيديولوجية معينة، وإعادة كتابة التاريخ بسبب الشعور بأن المؤرخين لم يكونوا أمناء في كتابتهم التاريخية لأسباب سياسية ودينية ومذهبية، وأغراض خفية. يقول السيد حافظ في مقدمة المسرحية:
 «ثلاثون عاما يا سيدي الحاكم بأمر الله وأنا أبحث عن تاريخك بأن أكتب عنك وأن أرش عطرك عبر الأوراق والأحبار. عندما قال لي المعلم في الصف الثاني الإعدادي أن الحاكم بأمر الله من المجانين.. شعرت بالدهشة لأني أعرف أنه مدرس مسكين وعندما قرات مسرحية (على أحمد باكثير) ومسرحية إبراهيم رمزي (الحاكم بأمر الله) شعرت بأنك مظلوم في تاريخنا فاصفح أيها الأمير النبيل عن الأدباء وهجومهم ليغفر الله لنا ولهم ولك... واسمح لي وأنا العبد الفقير إلى الله يا سيدي الأمير أن أكتب عنك وأنا لست مؤرخا.. فلترحل معي في الإبداع عبر مسرحيتي (عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله) وسأكتب عن الجانب الخير فيك بعد أن أهملوه عمدا أو تغافلا واكتفوا بالجانب الآخر».
كما أن التراث له حضور قوي في مسرح «السيد حافظ» ولم يعتمد فيه على التراكمات والترسبات بل إنه وظفه توظيفا جيدا قدم لنا من خلاله فكرا ومتعة فقد أفاد الكاتب كثيرا من التراث بشتى أنواعه، وكان له أثر إيجابي على نصوص المسرحية، مما أعطى لها صبغة خاصة، وتوظيف التراث على وجه العموم يستهوي المتلقي إلى حد كبير لأنه معبر ويختصر الكثير مما يمكن أن يقال ضمن إطار من الأطر أو جانب من الجوانب.  وفي هذا يتناول د. مصطفى رمضاني جانبا مهما لتوظيف التراث ألا وهو استلهام الشخصية التراثية الإسلامية بما تحمل من صفات إيجابية وهموم الإنسان نحو الحرية والعدالة البشرية فيذكر قائلا(3) «ولعل مسرحيته (ظهور واختفاء أبي ذر الغفاري) من أجود أعماله التي تعامل فيها مع التراث الإسلامي تعاملا نقديا، ذلك بأنه استلهم إحدى الشخصيات الإسلامية التي كانت لها مواقف متقدمة فيما يخص قضايا اقتصادية واجتماعية وإنسانية. فأبو ذر الغفاري يتحول في هذا العمل إلى مناضل ثوري يناضل ضد السلطة التي صادرت حرية التعبير وأقرت القمع والإرهاب محل الديموقراطية، وتتجاوز ثوريته حدود المكان والزمان لتصبح قضيته قضية الإنسان المضطهد».
وعلى هذا الأساس يمكن الحديث عن عملية تثوير الشخصية الإسلامية من منظور معاصر. فحتى وإن كان أبو ذر في المسرحية رمزا لأي إنسان مضطهد، فإنه مع ذلك يحمل كثيرا من سمات الشخصية التراثية كما تحدثنا عنها المصادر. وهذا يعني أن المؤلف احترم شروط التعامل مع التراث، ولم يقم بإسقاط سياسي متعسف كما يفعل كثير من الكتاب الذين يختفون وراء الشخصيات التاريخية لمواجهة التناقضات السائدة. فعملية الاستلهام التراثي عنده «تشير إلى عملية الوعي والإدراك من خلال ملحمة الصراع والمتناقضات في عالم الواقع والخيال»(4).
اعتمد السيد حافظ على بعض مرتكزات المسرح الملحمي، كتقنية التغريب التي تسعى إلى تنبيه المتفرج إلى كونه لا يشاهد أحداثا تجري أمام عينيه، وإنما عليه أن يفكر ويتساءل في هذه الأحداث. وعنصر التغريب من أهم عناصر المسرح الملحمي، حيث يعتمده المؤلف بهدف إلغاء حالة الاستلاب التي كرسها المسرح الأرسطي. ويتجسد التغريب هنا في التكثيف الدرامي الإيحائي للأحداث الذي  يسعى من ورائه المؤلف إلى دفع المتفرج نحو تملك الواقع من جديد. ويؤكد السيد حافظ على الإسقاط السياسي للعصر الراهن من خلال تلمس الملحمية بكسر الحاجز الوهمي وتداخل الشخصيات مع المخرج والمؤلف والنقاش حول أحداث المسرحية بل والمناقشة في المضمون أيضا:

المستنصر:    (يدخل المستنصر وهو غاضب) فين المخرج.. فين المؤلف؟ 
المخرج:    إيه دا.. مولاي المستنصر بالله بنفسه هنا يا مرحبا يا مرحبا.. مولاي المستنصر بالله حاكم مصر.
المستنصر:    يعني إيه تفكروا الناس بأن هناك مجاعات والناس أكلت بعضها.
المخرج:    هو قالي إن دا حصل فعلا. 
المستنصر:    أيوه حصل فعلا.
المخرج:    خلاص أمال لما هو حصل داخل تزعق وتشخط فينا كأننا عملنا عملة.
المستنصر:    بس دا كان زمان.
المخرج:    يا راجل سبع سنين.. سبع سنين جوع والناس أكلت القطط والكلاب وتقولي خلاص.. الناس أكلت بعضها. 
المستنصر:    ما أنا كنت جعان زيهم وبعت كل أملاكي والجواهر بتاعتي علشان أشتري قمح من التجار وأوفره لهم.. كنت بأكل في اليوم طبق ملوخية شحاتة. 
المخرج:    يا راجل حتجنني.. خد قرارات. 
المستنصر:    أنا لا أقتل إنسانا ولا أتخذ أي قرار ضد الحرية.
(مسرحية حرب الملوخية ص89)(5).

  ومن سمات كتابات السيد حافظ أنه لا يفصل بين السياسي والاجتماعي في أعماله المسرحية. غير أن الصراع ضد السلطة يظل في المقدمة معبرا عن الصراع الفكري ضد السلطة المطلقة التي تستعبد الإنسان. كما في كل أعماله يظل شغله الشاغل هو البحث عن  الإنسان والإعلاء من قيمته ومجابهة الظلم والقهر الذي يتعرض له، العمل على تهيئته للتوافق مع بيئته ومجتمعه لإعلاء شأن الوطن. وكما تقول د. سميرة أوبلهي: «يرتفع السيد حافظ من تصوير بيئة محددة إلى التعمق فى أمور كلية عامة ومن الجزئيات إلى قضايا الإنسان العالمية. لقد اختار الإنسان وعالج المأساة الاجتماعية وجعلها بؤرة التوتر وذروة العقد فى بناء الأحداث الأساسية إن الهدف الأساسي من ذلك هو جعل العمل الفني مشاركة بينه وبين العصر الذى يعيش فيه، وبينه وبين إنسان هذا العصر. لقد اختار السيد حافظ هذا النهج عن وعى صادق وترجم لنا هذا الواقع من وجوهه المختلفة. لقد التزم فى تجربته بقضايا الإنسان وهذا يطابق مقولة سارتر (الأدب ملتزم دائما. أراد أم لم يرد)»(6).
وفي هذا السياق تذكر الناقدة المغربية د. فاطمة زكاوي عن مسرحية (حلاوة زمان) أن السيد حافظ استطاع من خلال مسرحيته أن يربط بين الوباء والفساد اللذين تولدا عن فساد الساسة ومسئولي الدولة واستسلامهم الغواية وتقاعسهم عن مراعاة شؤون شعبهم. وقد جاء هذا الربط كنتيجة حتمية لمقولة (فساد الأمة في فساد أهل رأيها).
وبالرغم من تعدد الصراعات داخل المسرحية إلا أن الصراع الغالب من البداية وحتى النهاية هو صراع الحاكم وحاشيته الفاسدة حيث لا يحتدم هذا الصراع ليصل بنا إلى ذروة الحدث، وإنما يسير على وتيرة متوازية لنقف في الأخير على نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات:
احتمال عودة الحاكم لينقد البشرية من الوباء الذي سيفتك بها.
احتمال قتل الحاكم وموت العدل والخير بموته.
على العموم فقد جاءت مسرحية «حلاوة زمان» في أبسط تجلياتها لتظهر لنا علاقة الحاكم بالمحكوم من خلال شخصية الحاكم بأمر الله وعلاقته بالشعب المقهور والحاشية الفاسدة.
وتعد المسرحية نموذجا لتكامل العناصر والوحدات الدرامية وتجسيدا لحبكة مسرحية متجانسة الأحداث والوقائع، إنها تجربة جادة ومعالجة فريدة من نوعها تختلف شكلا ومضمونا عما كتبه العديد من الكتاب والمؤلفين حول هذه الفترة التاريخية. لقد استطاع السيد حافظ أن ينقلنا عبر تجربته إلى عالم خال من الشوائب، عالم العدل والمساواة، وأن يرسم لنا صورة من المثالية ونكران الذات في شخص الحاكم بأمر الله(7).
ويعمل السيد حافظ على استلهام التراث باستدعائه غالبا من خلال رمز تاريخي قوي مثل الحكام والوزراء والشخصيات المعروفة والمؤثرة في المجتمع والتاريخ. ومن علامات استلهام التراث أنه يلجأ إلى توظيف الأمثال الشعبية في نصوصه المسرحية وذلك لتقوية المعنى أكثر وكذا لإعطاء طابع اجتماعي وواقعي لأعماله، كما أنه يستعين بعنصر آخر من التراث المسرحي هو «خيال الظل» والأراجوز. وكذلك الأغنية الشعبية والتراث الديني مثل آيات من القرآن الكريم.
ويظهر جليا التوظيف في التراث بالتصرف فيه من خلال خيال السيد حافظ في استخدام الأراجوز كعنصر تراثي في عدد من مشاهد المسرحية، وعن ذلك يتوجه السيد حافظ بكلمة في مقدمة المسرحية موجهة  للباحثين والنقاد في المسرح العربي:
أيها السادة أعلم أنكم تقولون إن القراقوز ظهر في عصر العثمانيين وإنني أراه قد ظهر في مصر في عهد الفاطميين عندما واجهت امرأة الحاكم بأمر الله طيب الله ثراه.
وكتبت له تشكوه وتدعو عليه
وقدمت الورقة بيد القراقوز
وعندما أمسك الورقة لم يجد إلا عصا علق عليها
اليد والطرحة.. وشكل دمية المرأة......
ولذلك أرى أن هناك علاقة قديمة.......
بين القراقوز والشعب المصري
*****
... وأعتقد أن خيال الظل كان.. أيضا... موجودا.
ولا داع للحوار فيما كان وما سيكون
فقد جمعت في هذه المسرحية بين قراقوش والقراقوز
لعلها تنال رضاكم هذا ما يطلبه العبد الفقير لله.
(قراقوش والأراجوز، ص4)
 ويستعرض السيد حافظ بداخل النص المسرحي عدة مواقف تمثيلية لفرقة الأراجوز وخيال الظل تجذب المشاهدين لانتقاد حكم قراقوش من خلال التمثيل:

        (يوسف وأيوب وحمزة يرتدون أقنعة.. أو يمثلون بعرائس خشبية، أيهما يفضل المخرج أن يكون قراقوز حى أو القراقوز كما هو معروف)
أيوب    :    (يمثل قراقوش) أنا قراقوش.
حمزة    :    وأنا العسكرى عبد الموجود.
يوسف    :    وانا زوج سمارة (يمثل دور فلاح)
جعفر    :    وانا سمارة (يمثل دور إمرأة)
يوسف    :    أنا الفلاح يوسف وهذه السيدة زوجتى (يشير لجعفر)
عبود    :    (يضحك) أما هؤلاء الأولاد فهم عفاريت.
يوسف    :    يا عم الوزير قراقوش وأنا ماشى فى طريقى وزوجتى بجانبى.. ضرب العسكرى عبد الموجود زوجتى على بطنها فسقطت.. والولد إلى فى بطنها نزل وسقط.. ابنى مات.. انبى مات.. سقط.
ايوب    :    هذا الكلام صحيح يا عبد الموجود...؟
يوسف    :    غصبا. عنى يا مولاى الوزير قراقوش.. والله ما ختش بالىايوب
ايوب    :    خلاص.. خلاص.. العسكرى عبد الموجود.
يوسف    :    نعم يا سيدى الوزير قراقوش.
ايوب    :    خذ هذه السيدة عندك.. زوجة الفلاح يوسف أطعمها واسقها وحميها وأملأها (يضحك الناس) وعندما تصير حاملا. فى سبع شهور أعدها لزوجها ومعها طفل في بطنها. وتبقوا خالصين.
يوسف    :    عليه العوض.. هيا يا أم العيال.. (يضحك الناس ويصفقون)


كما يعمل على توظيف السيد حافظ في المسرحيات التاريخية مجموعة كبيرة من الشخصيات، مما يبرز البعد الاحتفالي. ومن سمات النصوص التاريخية للسيد حافظ أيضا أنه يحدد وقائعها بسياج زمني محدد، ويحتضنها مكان محدد. وشخصياتها أغلبها واقعي كما توحي بذلك أسماءها ووظائفها. وأغلبها أيضا قد أسهبت الكتب التاريخية في وصفها والتعريف بسيرها، الشيء الذي يجعل أي تأويل للمسرحية لمحاولة إسقاطها على الحاضر نوعا من الاستنباط الخاص بالمتلقي وثقافته وأيديولوجيته. ويتفق ذلك مع رأي الناقد الجزائري بن يونس الهواري الذي يرى أن توظيف السيد حافظ بما يصرف بالوحدات الثلاث جاء بوعى تجريبي خاص، لأنه يجعل من الأحداث تتجاوز إطارها الزماني والمكاني الثابت. وهى صفة تنسجم مع الإطار العام لمسرحياته، لاسيما وأن السيد حافظ لا يتعامل مع التراث أو التاريخ باعتبارهما مجموعة من المعارف والأحداث. ولكنه يوظفهما باعتبارهما خلفيات تاريخية تتغلغل فى رصد الحاضر وتستشرف المستقبل. وبمقتضى ذلك، ينفلت الزمن والمكان من أسر إطارهما الزمنى والمادي ليصبحا مجموعة من المدلولات المساهمة في خدمة الأبعاد الجمالية والفكرية.
وقد وظف السيد حافظ مثلا. شخصية “الحاكم بأمر الله» في مسرحية “حلاوة زمان...» باعتباره رمزا تاريخيا. يتجاوز حدود العصر الفاطمي، ليقدم لنا شهادته على العصر فى زمن الفساد السياسي. كما استطاع المؤلف أن يلائم بين المقهى باعتباره فضاء مفتوحا. يستجيب لأشكال الفرجة الشعبية، ويساهم في خلق التشويق داخل حكاية الفلاح. وبذلك أعطى السيد حافظ لهذه الوحدات شحنات جديدة ساهمت في بلورة نزعته التجريبية(8).

ومن حيث لغة الحوار فإنه يوظف اللغة في مسرحياته التاريخية بشكل عام  بشكل يزاوج فيه بين العامية والفصحى، وذلك بحسب ما يستدعيه المقام. فثقافة الشخصية وموقعها الطبقي هو ما يحدد اللغة التي تتواصل بها الشخصية. غير أنه يغلف كل هذه المستويات اللغوية في طابع شعبي من خلال حوارات مباشرة تطبعها التلقائية. والتلقائية كما نعرف تعد عنصرا مهما في المسرح الاحتفالي. وهي أيضا خاصية تطبع مسرح السيد حافظ بصفة عامة. فهو يضع لكل شخصية لغتها الخاصة، فتأتي حواراتها صادقة وعفوية. كما نلحظ أن الحوارات غالبا تكون محملة بالعديد من الأفكار الأيديولوجية، مما يقربها جدا من المسرح الملحمي. 
 ويعتمد السيد حافظ أحيانا على تقنية الاسترجاع المسرحي “الفلاش باك”، التي تحقق الفرجة الفانتازية. وهي تقنية تغريبية بالدرجة الأولى، حيث يلجأ المؤلف إلى عملية التحيين من الماضي أو امتداد له، فهو يربط بين الزمن النفسي في العمل وزمن الأحداث، حيث إن التداخل بينهما عن طريق عنصري الاسترجاع والاستشراف. يؤكد نوعا من الاستمرارية التاريخية التي تمتد عبر الزمن، لعدم وجود تحول في الأنظمة العربية، وفي هذا التمازج ما يؤشر على “اللا زمن”. وهنا يتجلى عنصر التغريب. كما أن تقنية “الفلاش باك” التي يستخدمها أحيانا في العمل التاريخي تساهم في تكسير الحدث وتحطيم الزمن المتتابع. وهذا ما يساهم في إبعاد الملل عن المتلقي و تحقيق مشاركته في تركيب الأحداث. 
 ولا ننسى أن السيد حافظ دائما ما يقدم تصورا لحركة الممثلين على المسرح وتصورا للديكور والأكسسوار والإضاءة وتحديد درجة الإنارة لوقوع  الحدث في الليل أو النهار، وربما ذلك التأثير ناتج لكونه مخرجا أيضا له تصوره الذي يحدده كي يظل في رحاب رؤيته الخاصة التجريبية.

وأخيرا كنموذج يوضح د. محمد المحراوي الكيفية التي تعامل بها السيد حافظ مع التراث في “حلاوة زمان”:
إذا كان التراث أهم مصدر يستهوي المبدعين المسرحيين فإن الكيفية التي يتم بها توظيف التراث في الأعمال المسرحية تختلف من مسرحي إلى آخر، بل حتى من عمل مسرحي إلى آخر للمبدع الواحد. وذلك بسبب اختلاف الرؤية التي ينظر بها إلى التراث، وبسبب اختلاف الخلفية الأيديولوجية والفكرية المؤطرة للمبدع، وبسبب اختلاف الأهداف أيضا من وراء استحضار التراث من عمل مسرحي إلى آخر.
لكن هذا الاختلاف والتعدد لا يمنعنا من تحديد ثلاثة مواقف من التراث لدى المسرحيين العرب وهي:
*- اللجوء إلى التراث ( خصوصا التاريخ) بقصد التفاخر بالأمجاد، أمام ما أصبح يعيشه المجتمع العربي من فساد في جميع القطاعات، فكانت العودة إلى التاريخ السلاح الوحيد في
أيدي المسرحيين العرب لإبراز أن التخلف صفة طارئة على المجتمع العربي، ولم تكن ملازمة له.
*- إعادة تفسير بعض الأحداث التاريخية من منطلقات جديدة وفق خلفيات أيديولوجية معينة ينطلق منها الكتاب، وإعادة كتابة التاريخ بسبب شعور رجال المسرح “ بأن المؤرخين لم يكونوا أمناء في كتابتهم التاريخية لأسباب سياسية ودينية ومذهبية، وأغراض خفية”.
*- التعامل مع التراث على اعتباره مادة خصبة لاستقاء مواقف وأبعاد يتم إسقاطها على الحاضر، وهنا يصبح التراث مجرد رموز لتناول قضايا معاصرة.
وفيما يخص “حلاوة زمان” فيمكن أن نقول إنها تندرج ضمن المستوى الثاني في التعامل مع التراث، فالسيد حافظ عاد إلى العهد الفاطمي، خاصة المرحلة التي حكم فيها “ الحاكم بأمر الله” ليرفع الضيم عن هذه الشخصية التي طالما تصدت لها أقلام المؤرخين والمبدعين بالسب والتجريح، وليعيد الاعتبار إليها من خلال التركيز على الجانب الخيّر فيها، كما يقول في أحد النصوص التي صدر بها مسرحيته(9).
 مما سبق، نجد أن السيد حافظ  قد  أجاد  في  توظيف  واستخدام  التراث والحكايات التاريخية، بل وأعاد استكشافها وعمل على تصحيح التاريخ وما أوتي عنه من معلومات قد تكون مغلوطة تم بثها من خلال المتملقين وأصحاب المصالح والمنافقين، بل ومن الحكام أنفسهم الذين اعتادوا دائما على محو ما سبق من تاريخ لحكام سابقين، وقد أضاف السيد حافظ خبرته الدرامية ومهارته ككاتب مخضرم في نسج سياق الأحداث المسرحية، فلم يقدم التاريخ كما هو بل قدمه بتصرف درامي عمل منه على كشف أنواء الحاضر وإسقاط الجدلية التاريخية على العصور الراهنة بذكاء.

المراجع:
1) سميرة أوبلهي، دراسة لنيل الإجازة (الشخصيات التراثية في مسرح السيد حافظ وظيفتها الفكرية والفنية)،  كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، المغرب، 1986.
2) السيد حافظ، مسرحية حرب الملوخية عن الشدة المستنصرية، (عن منحة تفرغ وزارة الثقافة 1996 / 1997 )، القاهرة، ص89.
3) مصطفى رمضاني، جدلية الخفاء والتجلي في مسرحية ظهور واختفاء أبى ذر، القاهرة، مركز الوطن العربي (رؤيا).
4) محمد عزيز نظمي، السيد حافظ بين المسرح التجريبي والمسرح الطليعي، مركز الوطن العربي للنشر والإعلام، الإسكندرية، 1988، ص: 17.
 5) السيد حافظ، مسرحية حرب الملوخية، مرجع سابق.
6) سميرة أوبلهي، مرجع سابق
7) فاطمة زكاوي، دراسة نقدية التراث والمسرح.
8) بن يونس الهواري، (الأبعاد الفنية والجمالية في المسرح التجريبي، السيد حافظ نموذجا). دراسة نقدية.
9) قراءة في مسرحية عاشق القاهرة»، محمد المحراوي.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏