العدد 636 صدر بتاريخ 4نوفمبر2019
“أوهام السوق” هي التسمية التي أطلقها مفكر عصر النهضة الكبير “فرنسيس بيكون” علي نوع معين من أخطاء العقل البشري ضمن أربعة أنواع من الأخطاء أو الأوهام كما آثر “بيكون” وصفها.
النوع الأول هو “أوهام القبيلة” تلك التي نقع فيها لمجرد أننا بشر، هي – بهذا المعني – أوهام طبيعية لأنها مرتبطة بالتكوين البشري ذاته، فعقل الإنسان كما يراه “بيكون” يشبه المرآه غير المستوية التي تعكس خواصها على الأشياء المختلفة فتبدو منكسرة أو متعرجة أو مشوهة، وبالتالي فإن أفكارنا صور عن أنفسنا أكثر من كونها صورا للأشياء أو العالم. النوع الثاني من الأوهام هو “أوهام الكهف” وهي نقاط الضعف الفردية فينا، لكل إنسان – وفق هنا التوصيف الثاقب – كهف خاص به يعكس طبعه كما كونته الطبيعة، وكما صاغته الحالات المختلفة للرغبات والعقول والأجسام، فبعض العقول ينزع إلي التحليل ويرى التباين والاختلاف في الأشياء، وبعضها تركيبي يميل إلي البناء ورصد التشابهات، وينتمي العلماء والرسامون إلي الفئة الأولي، بينما ينتمي إلي الثانية الفلاسفة والشعراء. الطائفة الثالثة من أخطاء العقل هي ما يسميه “بيكون” أوهام المسرح، تلك التي انتقلت إلينا من النظريات الفكرية المختلفة وقوانين البراهين والأدلة الخاطئة. إن جميع الأنظمة الفكرية التي نتلقاها عن المفكرين والفلاسفة من وقت لآخر ليست سوي روايات مسرحية تمثل عالم المفكرين أنفسهم وتصورهم أكثر من تصويرها للعالم الفعلي. ويلاحظ “بيكون” أن في روايات هذا المسرح الفلسفي الأشياء نفسها والروايات ذاتها التي توجد في الواقع العملي والتاريخ المعاش ولكن بشكل أكثر انتظاما وإحكاماً.
وأخيرا تأتي “أوهام السوق “ والناتجة عن التجارة واجتماع الناس واتصالهم اللغوي وميل الذهن إلى الانبهار بالكلمات، إن السوق هنا يتركز في لغة التخاطب اليومية التي تفرض كلماتها ودلالاتها على أهل السوق والعامة من الناس، حيث ينشأ عن سوء تكوين هذه الكلمات تعطيل للعقل وإبقاؤه مغلقا داخل حدود الاكتشافات القديمة.
وهكذا – بين أوهام القبيلة والمسرح والكهف والسوق تتكون الأوهام المرتسمة في عقولنا عن الحقيقة، وتتشكل القضايا الكاذبة والصور الزائفة التي نتصورها واقعا موضوعيا وحقائق صلبة.
لا أود الاستطراد في رصد آراء “بيكون” عن أخطاء العقل وأصنامه، وإن كنت أود أن أتساءل مثله عن السوق وأوهامه، فهل فعلا تكون الأسواق واحدة من أصنام العقل البشري؟ وهل في التجمع البشرى والتواصل اللغوي والاندماج الحر في حركة المكان ما يمكن أن ينتج صيغا عقلية وتصورات ذهنية خاطئة ومبتسرة.
أن الأسواق في رؤى مفكر عصر النهضة تصوغ واحدة من أوهام العقل، وهي في رؤى عدد كبير من مفكري العصر الحديث صانعة لما يسمونه “أساطير المجتمع الاستهلاكي” وهو ما تجلى واضحا في الكتاب الشهير “عالم ماك” الذي يرصد ويحلل وجودنا الجمعي في قلب الاستهلاك باعتباره التنظيم الكلي للحياة اليومية.
وهكذا – ابتداء من عصر النهضة وحتى عوالم ما بعد الحداثة، تشكل الأسواق أوهام العقل وأساطير الحياة الحديثة.
فى سياق ذلك، يتساءل : ألفريد فرج” أيملك التاجر مجرد الأشياء التى عنده أم يملك أيضا كل ما تعنيه هذه الأشياء وما تنطوي عليه؟ وإذا كان أهل السوق يملكون الأشياء بكل ما تعنيها هذه الأشياء وما تنطوى عليها. فالويل للناس إذا شحت السلعة أو نقص ماء الزرع أو ألمّ بالمدينة وباء أو مجاعة، فيبيع التاجر مع السلعة ندرتها أيضا، ويبيع شدة الاحتياج إليها، فلا يصبح السوق مرفئا مدنيا بل يصبح فخا نصبه الشياطين وهم في ثياب التجار.
هذه الفقرة بكل ما تحمله من أسئلة وتصورات أوردها كاتبنا الكبير “ألفريد فرج” فى نهاية مسرحيته البديعة “رسائل قاضى إشبيلية” التى احتوت على ثلاث رسائل هى: الأرض والعقاب والسوق، والفقرة كما هو واضح جاءت على لسان التاجر “نور الدين” فى الرسالة الثالثة.
هل يبيع التاجر الأشياء أم يبيع أيضا ما تنطوى عليه وما تعنيه؟ سؤال شائك يعكس طبيعة السوق ويحمل واحدة من أكثر إشكالياته تعقدا وارتباطا بحركته المتراوحة بين التجار والبضائع والناس. أما لماذا سأل التاجر هذا السؤال، ولماذا ورد بصيغته المجملة تلك فى نهاية النص المسرحى، فهذا مرتبط بسياق المسرحية وحدثها الأساسى.
حكاية المسرحية بسيطة وموحية: المكان سوق صباحى فى المدينة الأندلسية المفقودة “إشبيلية” والمشهد الافتتاحى يتكون وأهل السوق يبدأون عملهم بفتح الدكاكين، بينما تتجاوب النداءات على البضائع. وكان “نور الدين” الجواهرجى تاجرا فى السوق، وضمن بضائعه الثمينة جوهرة لا يشتريها أحد، جوهرة مما يتزين به الأطفال وعليها نقش، ربما كان لغة هندية أو تعويذة، وقد وجد التاجر هذه الجوهرة فى تركة أبيه، عرضها للبيع ودلل عليها ولكن أحدا لم يشترها رغم تخفيض ثمنها مرات حتى أصبحت بخسا مرمية بلا ثمن، وفى عرف التجار أن الجوهرة التى تدور عليها السنة ولم تبع تنحس الدكان. والآن، وفى هذا الصباح، يأتيه مشتر ويقلب فى البضائع ويلتقط الجوهرة ويسأل عن ثمنها ويعرض خمسمائة دينار حاضرة، يتعجب “نور الدين” ويسرع فى طلب الموثق ليتم البيع ويشهد أهل السوق على الصفقة والاتفاق، فى تلك اللحظة يأتى مشتر آخر ويزايد على الثمن المطروح ويعرض ألف ألف دينار ثمنا للجوهرة. يتردد “نور الدين” والدهشة معقودة فى لسانه، هناك فارق فادح بين الثمنين والبيع لم يوثق بعد، والمشتريان يتشابكان، والناس يشهدون واحدة من عجائب السوق فى هذا الصباح، ويذهب الجميع إلى مجلس القاضي مع التاجر والمشترى، ليعرفوا سر الجوهرة وماذا تخبئ فى مادتها المشعة من حكايات.
تأمل القاضى الجوهرة الموضوعة بين أصابعه، ولاحظ أنها لا تساوى شيئا، مصنوعة ليتزين بها الأطفال، فسأل عن سرها، هنا تنجلى الحقيقة ويتكشف معنى الجوهرة وحكايتها المختبئة، فهى كانت لأميرة الهند، وهى وحيدة وأجمل أهل هذا الزمان، وكان ينتابها وهى طفلة صداع، استدعى له الأطباء فما شفيت وما برأت إلا بعد أن صنع لها شيخ عراف عارف بصناعته هذه التعويذة على هيئة جوهرة، وظلت تحملها على جبينها لا ترفعها أبدا، وذات يوم كانت تتنزه فى بستانها وتفقدت الجوهرة فلم تجدها، وعاودها ألم الصداع وتعذبت به، فأمر أبوها بنخل تراب البستان فلم يعثروا عليها، حدس ملك الهند وأتباعه أن عابر سبيل لابد قد التقطها وباعها فى أحد الأسواق.. كان العراف قد مات، فاغتم أبوها وانفطر قلبه وقال: “من يشفى ابنتي فهى له، ومملكة الهند من بعدي” فانطلق شباب المملكة وأمراؤها يبحثون عن الجوهرة بأى ثمن، فالهند ثمنها.
الحكاية تذهل الجميع، وثمن الجوهرة الحقيقى يخطف العقول، لكن هذا لم يكن شاغل القاضى ولا موضع فصله في القضية، كان شاغله قانونيا وسؤاله مرتبطا بصحة البيع، فهل باع “نور الدين” الجوهرة فعليا أم كان ينتوى بيعها، وهل كان البيع كامل الشروط رغم عدم توثيقه. ولهذا كان سؤاله الدقيق للتاجر: هل أشهدت الناس أنك تبيع الجوهرة أم أنك بعتها؟ يتقدم. “نور الدين” وهو ضعيف التوازن ويشهد بالحقيقة رغم فارق الثمن ورغم ما قد يلم به من خسارة فادحة.
بعد شهادته تلك، يمرض التاجر ويزدهر السوق، فمن يوم شهادة الصدق التى خسر فيها “نور الدين” الثمن العالي ربح بيت المال أضعاف الخسارة، فقد أصبحت الناس تثق في السوق، والمدخرون الصغار يودعون الودائع عند التجار بلا خشية، وحتى السابلة والمتعطلون يعشقون الوقوف فى السوق والمشاهدة وتذوق البيع والشراء والطرب للدلالة وللنداءات، أيضا ومنذ يوم شهادة الصدق هذه يرقد التاجر مريضا لا تزايله الصفرة ودمه ينقص عما يحتاجه جسمه، هنا يقرر الأمير أن يستدعى التاجر ويهبه مالا يفوق ما خسره في الصفقة تعويضا له ورغبة في شفائه، الأمير هنا يدرك جوهر ما فعل التاجر، فقد قال شهادة صدق حتى لا يقال أن فى سوق إشبيلية غشا أو تدليسا وافتدي بذلك سمعة المدينة وسوقها وتجارها، فالسوق - كما ترى بصيرة الأمير وتعبر كلماته - هو دم الدولة الدفاق، ولذلك وجب تعويض التاجر وشفاؤه، وتكمن المفارقة أو المفاجأة حين يرفض التاجر هبة الأمير، وهنا مغزى الحكاية ومعناها الأساسى كما يعبر عنه التاجر الذى يجاوب الأمير بكلمات هى أصفى ما استخلصه النص المسرحى من الحكاية، فنور الدين لا يرى أنه خسر الصفقة، جوهرة لا يزيد ثمنها عن عشرين دينارا باعها بخمسين، وبذلك أوفت بربحها، ولكن الذى فاته من ثمنها وراح منه بلا بيع، فهو حب ملك الهند لابنته، وفاته أن يبيع شفاء البنت من صداعها، كان هذا وذاك عنده وتحت حيازته، وفاته بيعهما لأنه لم يكن يعلم أنهما عنده وتحت مشيئته، ولهذا، وتلك هى كلمات التاجر فى المسرحية: “أحسست أنى سرقت فخسرت خسارة جف لها دمى فى عروقى، حب الملك لابنته وشفاؤها كانا عندي، ولكن هل حقا كنت أملكهما ويحق لى بيعهما، أهما شئ يحسب فى رصيد التاجر وما يملكه ويحق له؟”. وهكذا لم يكن مرض التاجر بسبب الخسارة، ولكنه كان مرض السوق، فلكل مهنة مرضها، وقد يصيب السوق أهله باختلال الظن والعمى عن حدود ما نملك وما لا نملك، من هنا مرض السوق وروحه الخطرة.
كان هذا هو مدار الحكاية ومعناها، وسؤال التاجر والقاضى والأمير، وقبل ذلك كله، مرض السوق وسؤاله وحدود الامتلاك وطبيعة الصفقات وعمليات الشراء والبيع وثمن البضائع وارتباطه أو انفصاله عن معناها، ثم – وبمعنى إضافى – هل تعكس تلك الأسئلة والدلالات سؤال السوق أم سؤال الحياة ذاتها؟.