أمريكا في المسرح المصري

أمريكا في المسرح المصري

العدد 807 صدر بتاريخ 13فبراير2023

لم يقترب المسرح المصري –كثيرا- من قضية سيطرة الامبريالية الأمريكية- وهي الوجه الآخر للصهيونية العالمية- على الواقع العربي، ربما يرجع ذلك إلى تشابك عناصر الرؤية إذا طرحت على خشبة المسرح، وهذا قد يفقد العملية المسرحية كثيرا من لغتها على مستوى النص والأداء، هذا من الناحية التقنية.
أما من الناحية السياسية فقد توجد بعض المحاذير والخطوط الحمراء التي تهدد مثل هذه الأعمال بالمصادرة والحذف، وفي هذا الإطار لم أجد سوى ثلاثة عروض مسرحية تعرضت للقضية خلال العشرين عاما الماضية.
العرض الأول كان عام 1994م وهو «ماما أمريكا» بطولة الفنان محمد صبحي ورياض الخولي وشعبان حسين وعبدالله مشرف وهناء الشوربجي وزينب وهبي وحسام فياض وهدى هاني وفادي خفاجة وعزة لبيب.
وتدور أحداث المسرحية في إطار اجتماعي عبر لغة رمزية تستدعي دلالالات سياسية، من خلال أسرة مصرية «أسرة منافع» التي تحمل تراثا إنسانيا وتاريخيا عميقا ذا بعد إسلامي وعربي، حيث يتمسك أفرادها بالتقاليد العربية الأصيلة، وتقوم العلاقة بين أفرادها على مبدأ التعاون والمحبة والتآزر، لكن مع تغير الزمن وتحول العلاقات داخل الأسرة تظهر شخصية «الشفاط» التي تستولي على الأرض التي تملكها «أسرة منافع» وتقوم هذه الشخصية –ذات البع السلطوي- التي تقتنص حقوق الآخرين دون وجه حق لفرض هيمنتها، بمحاولات مضنية للتفريق بين أبناء «أسرة منافع» وإيقاع العداوة فيما بينهم، من خلال استعمال مسائل خسيسة، بل لا تتورع عن التآمر على أحدهم لافقاده رجولته وتشويه عقله.
وإذا كانت كثير من أحداث العرض تدور في إطار رمزي، إلا أن محمد صبحي ينحي في بعض المشاهد هذا الخطاب الرمزي ليشير بوضوح- وإن لم يلجأ إلى الصراخ والمباشرة- إلى الفعل التآمري لأمريكا في المجتمع العربي، فما الأسرة التي يشير إليها العرض إلا الأمة العربية، وما أسرة «الشفاط» إلا الوجه القبيح لأمريكا.
ويظهر ذلك جليا في مشهد شديد الدلالة حيث «عايش»/ الشخصية الرئيسية في المسرحية والتي يقوم ةبدورها الفنان محمد صبحي، والذي يذهب إلى أمريكا ليواجه تمثال الحرية، ويندد بالنظام العالمي الجديد، داعيا شعوب العالم إلى مواجهته والعمل على الحد من سيطرته،من خلال لغة مسرحية اعتمدت على الاسقاط المباشر حتى في أسماء الأخوة  فنجد على سبيل المثال مدعي التدين اسمه «عبود»، وأستاذ التاريخ الذي أدمن المخدرات اسمه «علام».
وقد ساعد على نجاح هذا العرض جماهيريا واستمراره لعامين تنوع الشخصيات داخل العرض المسرحي، والتي جاءت بعيدا عن النمطية، معبرة عن السيكولوجية الخاصة لكل شخصية، خاصة الشخصية المحورية التي تعاني من المرض والعجز والفقر الشديد وتحلم بالعلاج والشفاء والاستقرار، وكذلك شخصية «أميرة كامل الشفاط» والتي قامت بدورها الفنانة هناء الشوربجي، والتي قدمت صورة للمرأة المتعجرفة التي تحاول الاستيلاء على أشياء الآخرين، مستخدمة في ذلك أساليب تكنولوجية، وهي صورة مصغرة لما تفعله أمريكا مع شعوب العالم الثالث، في محاولة دؤوبة منها لأن ينصاع الكل لإرادتها.
وكذلك شخصية «المرابي» والذي قام بدوره الفنان عبدالله مشرف- والذي يبرز أقنعة مسالمة مدعيا الدعوة إلى السلام، لكنه في حقيقة الأمر يرابي من أجل مصلحته الخاصة حتى لو كان تحقيقها على أجساد الآخرين.
وهكذا يقدم لنا العرض الذي أخرجه محمد صبحي صاحب الأداء الواقعي في المسرح المصري خلال الأربعين عاما الماضية، فكرة جيدة تنتمي إلى مسرح المواجهة (مسرح الكباريه السياسي) بالربط الحميم بين الخاص والعام عبر جدلية رؤيوية واقعية الأداء، وإن جاءت مباشرة في بعض المناطق، واتسامها بطابع كوميدي ساخر من خلال تعميق فكرة «المفارقة» على مستوى النص، وعلى مستوى حركة الممثلين على الخشبة.
بينت هذه المسرحية النظرة المتطرفة للغرب عن العرب وتنبأت بأحداث 11 سبتمبر، وأعيدت صياغتها على شكل مسلسل عايش في الغيبوبة ولكن لم تلق نجاحا بعكس المسرحية.
وقد وصف محمد صبحي هذه المسرحية في أحد حواراته قائلا: «تحدثت مسرحية «ماما أمريكا» عن الهيمنة الأمريكية، ومخططات الربيع العربي، واصفًا إياها بالجحيم العربي على حد تعبيره، مشيرًا أن الفن والدراما يجب أن يكونا نموذجًا لمجتمع سوي، لأنه سلاح ذو حدين وخاصة علينا أن نواجه الفن الهابط والبلطجة من خلال وقفة فنية ودرامية تخدم المجتمع، مع تزايد القيم السلبية التي يتم ترويجها من خلال الفن الهابط والذي تصل نسبة السلبية فيه إلى أكثر من 90 % فنسبة كبيرة من أعمالنا لم تقدم مصر والمجتمع بالشكل اللائق».
بعد ذلك قدم الفنان «خالد الصاوي» على خشبة مسرح الهناجر عرض «اللعب في الدماغ» والذي لاقى نجاحا كبيرا وكان بداية النجومية للحقيقية للصاوي، وقد شاركه بطولة العمل نرمين زعزع  وعدد من النجوم الشباب وقتها، تناول العمل بالنقد الإمبريالية الأمريكية في إطار من السخرية اللاذعة.
ومن الجدير بالذكر أن (مسرح الكباريه السياسي) هو نموذج لخشبة مسرح صغيرة، وعليها تقوم صيغة مسرحية يتكون نسيجها من الاسكتشات والمشاهد القصيرة والكاريكاتيرية، في إطار درامي نقدي في صيغة سياسية لموضوعات حيوية تمس الهم اليومي للمتفرج، ويرتبط بالتحولات الاجتماعية.
وقد ظهر هذا الشكل لأول مرة بألمانيا عام 1901م، وإن ظهرت ارهاصات له في باريس عام 1881م، إلات أن المسرح الألماني المرتبط بهذا الشكل والذي أسسه «أرنست فون فولستوجن» ، انتفل إلى مجموعة من المدن الألمانية ثم انتشر بعد ذلك في أوروبا.
وقد استفاد منه الساسة اليساريون لبيان وجهة نظرهم ومواقفهم الحزبية والفكرية، ومن عباءة هذا الاتجاه خرجت مجموعة القمصان الزرقاء في روسيا على أثر ثورة 1917م، إذ ظهرت آلاف نوادي المسرح لصياغة عقلية العالم الروسي وتعريفه بمجريات الأمور، وذلك بمسرحة الأحداث الجارية. دون استخدام ديكورات وإكسسوارات، وقد اعتمدت هذه الفرق –بشكل أساسي- على الأخبار المستقاة من الجرائد، كما عمل في هذا الاتجاه بعض الصحفيين.


عيد عبد الحليم