العدد 859 صدر بتاريخ 12فبراير2024
في الفرن العشرين، كان التبادل بين الثقافة المسرحية والبحث في الجهاز العصبي – والذي سوف نشير إليه على سبيل الايجاز بأنه علم الأعصاب – بقدر ما كان متكررا، فقد كان نادرا ما يُبحث. وحتى الآن يظل تاريخ مثل هذه العلاقات متعددة المجالات مليئا بالثغرات. إننا في الواقع نفتقر إلى تاريخ صحيح للعلاقة بين المسرح وعلم الأعصاب في القرن الماضي. ومع ذلك، تبرز التبادلات المتكررة بشكل متزايد التي تشترك فيها دراسات المسرح حاليا مع علم الأعصاب الإدراكي ضرورة سد هذه الفجوة – وهي بالطبع مهمة صعبة عندما نتأمل التشظي الكبير وعدم التجانس للموضوع الذي ندرسه.
وبالتالي فإن هدف الدراسة الحالية هو طرح بعض الفروض التمهيدية والتأملات من وجهة نظر المسرح وعلم الأعصاب في القرن العشرين.
· الفرضية والمنهج
تهتم الفرضية الأولى بتطابق الانقطاع التاريخي الذي يمكن أن يحدد بداية ونهاية المتن التاريخي موضوع الدراسة. واقتراحي هو أن تاريخ العلاقات بين المسرح وعلم الأعصاب في القرن العشرين ربما بدأ مع قدوم علم أصول تدريس فن الممثل. أي أن اللحظة التي بدأ فيها المخرجون الكبار بحثهم عن سلسلة كاملة من الممارسات والتمرينات التي كانت تهدف إلى تقديم نظم تعليم جديدة للممثل. وتتزامن اللحظة التأسيسية لمرحلة هذه العلاقات متعددة المجالات في القرن العشرين مع ما ميزه كل من فابريسيو كروشياني وفرناندو تافياني بأنه أول بحث علمي في فن الممثل:
في مقال حول فن الممثل والمحرج، نُشر في دائرة المعارف البريطانية في نهاية عشرينيات القرن الماضي، يسأل ستانسلافسكي»هل يمكن تحديد الوسيلة التي من شأنها أن تمكن تلك الحالة الابداعية التي يحصل عليها العباقرة بطبيعتهم وبدون جهد، أن تتحفز طواعية وبشكل واع». هذا هو الاستقصاء العلمي الأول، وربما الوحيد، للممثل، فالثورة تحدث من خلال البحث المنهجي والتحليلي لكل جزء
وقد تزامن علم أصول تدريس فن الممثل، وهو العصر الذي يُعرف أيضا بأنه «عصر التمارين»، مع تحديد العلاقة بين الاستفسارات العلمية حول الإنسان والدراسات المسرحية مما أدى إلى توجيه التركيز بوضوح إلى هذه العلاقات إلى مجال علم الأعصاب. وبالتالي لا يمكن تأريخ أساس العلاقات بين المسرح وعلم الأعصاب في القرن العشرين بدقة، ولكن يجب تحديدها بالاتجاه التدريجي الذي حدث بين السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين.
وعلى الجانب الآخر، توفر السنوات الأخيرة من القرن نظائر واضحة نسبيا ومرتبة زمنيا إلى حد ما، حيث أنه بين عامي 1994، 1996يمكننا تحديد قفزة دقيقة في جودة التداخل بين مجالي المسرح وعلم الأعصاب. وقد كانت هذه لحظة انتقال مهمة أطلقت المرحلة المعاصرة. وكانت هذه هي السنوات التي قدمت فيها الجامعة أول دورات دراسية في المسرح وعلم الأعصاب، في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية على حد سواء، وهي السنوات التي شهدت ميلاد مجالات مشروعات الدراسة والبحث التي تم تنظيمها في المجالات البينية. ولكنها كانت أيضا السنوات التي قدمت أول الإصدارات عن آليات الخلايا العصبية المرآوية، وهو الموضوع الذي من شأنه أن يمارس تأثيرا كبيرا على ثقافات المسرح.
وبمجرد تحديد الخطوط العريضة للفترة الزمنية، من الممكن المشاركة في منظور تحليلي لا يتبع، على العكس من ذلك، مسارا زمنيا، ولكنه سوف يتجاوز مسرح القرن العشرين على طول المسارات العمودية تبع مسارات الاهتمام التي تجمعت حولها كوكبة كثيفة من اللقاءات والندوات والمؤتمرات والتعاون التجريبي في الدراسات التجريبية. تهتم فرضيتي في الواقع بإمكانية تجميع جزء كبير من العلاقات بين المسرح وعلم الأعصاب حول أربعة مسارات: فيسيولوجيا الفعل، فيسيولوجيا العواطف، ودراسات عن إدارك المتفرج.
وفي ضوء الاستحالة السابقة لتقديم تحليل شامل لكل التجارب التي تداخلت حول كل مسار، فسوف نركز هنا على أمثلة بسيطة، مع تفضيل تلك الأمثلة التي تعد أكثر إشكالية أو التي استهان بها التاريخ التقليدي، على الرغم من أنها تشهد مشاركة بعض أساتذة المسرح الكبار في القرن العشرين.
أخيرا، سوف نناقش ثلاثة مسارات من هذه المسارات الأربعة، نظرا لأنني قدمت دراسة تاريخية ركزت تحديدا على إدراك المتفرج في إصدار حديث آخر.
· المسرح وفيسيولوجيا الفعل
في لمحة سريعة، فان نطاق الاهتمامات التي تربط ثقافات المسرح بدراسات فيسيولوجيا الفعل هو بالتأكيد نطاق واسع. فقد امتدت مفاهيم مثل «الانعكاس والباعث والحركة وما قبل الحركة ورد الفعل والتنسيق عبر مسرح القرن العشرين، وقد نثرت إشاراتها العامة على مفاهيم فيسيولوجية مماثلة. ومع ذلك، من الممكن أن نرى كل هذه الاهتمامات تتلاقى مع ما سماه جاك كوبوه «التلقائية المتحققة Achieved Spontaneity”، أي المهارات التي يجب أن ينميها الممثل والتكيف الذي يجب أن يتخلص منه كي يبتكر تأثيرا طبيعيا أو تلقائية في المتفرج. والهدف هو إعادة بناء تلك التلقائية اليومية من خلال التقنية، والتي توجد حتما على خشبة المسرح: «من المثير للقلق الكيفية التي يختفي من خلالها دون أثر، ذلك الشيء الشائع، والذي ينشأ عادة بشكل عفوي، بمجرد أن يصعد الممثل على خشبة المسرح، وهذا الأمر يتطلب المزيد من العمل والدراسة والتقنية من أجل استعادته.
لقد أثارت الآليات التي تنطوي على هذه العفوية «التي تختفي دون أن تترك أثرا «فضول كثير من رجال المسرح الكبار، الذين حاولوا من وقت إلى آخر، وصف مثل هذه الآليات عبر مفاهيم مختلفة مثل العادة والتلقائية وردود الفعل وما إلى ذلك. واليوم نعرف أن هذه الآليات المعقدة ربما ترتبط بمفهوم مخططات الجسمbody schema، وفقا لما اقترحه أخيرا الفيلسوف شون جلاهر.
ولا شك أن تكرار تساؤل ستانسلافسكي عن العلاقة بين العادات في الحياة اليومية والعادات في المسرح قد دفع العلماء إلى تخيل التأثير المحتمل على المعلم الروسي بعالم النفس والفيلسوف الأمريكي الكبير ويليام جيمس. ولعلها الفرضية التي اكتسبت بعض الدعم فيما يتعلق بمفهوم»الطبيعة الثانية second nature”الذي استخدمه ستانسلافسكي، ولكن الذي قدمها فعلا في مجال العلم هو ويليام جيمس. وعندما نتناول التأثيرات العلمية الأوضح والتوثيق قيد الدراسة، مثل تأثيرات سيشنوف عالم النفس الروسي، أو عالم النفس الفرنسي ثيودول ريبوت، نجد مرة أخرى اهتماما خاصا يوليه ستانسلافسكي للأمور التي عزت على جيمس، وهذه الأمور مثل التي تعلقت بالعادات أو العلاقة بين الإرادة والفعل. فكل الأمور التي تخفي معضلة أكبر تتعلق بالاستمرارية والانقطاع بين الجسم والعقل. وفي ضوء حقيقة أن ليس كل العمليات الحركية يتم التحكم بها من خلال جهد إدراكي متعمد (لأن الجسم هو الذي ينظمها) فان إعادة بناء هذه العمليات على خشبة المسرح لا يمكن أن يحدث عن طريق العمل الواعي فقط. وقد ميز علم تدريس فن الممثل نفسه خلال العشرين سنة الماضية بأن قد ابتكر سلسلة كاملة القيود هدفها كسر عادات الممثل اليومية لكي يبني نوعا مختلفا من التحكم في الفعل يمكن أن يكون متطورا لدرجة أنه أصبح فعلا طبيعة ثانية: الجسم التصويري أو المشهدي scenic body.
المسألة المتعلقة بالعلاقات بين الطبيعة اليومية والطبيعة الثانية هو أيضا ما دفع مييرهولد أن يهتم بمفهوم رد الفعل. ويقول باتريس بيكونفالين عن مييرهولد:
يقول المخرج إنه اكتشف القانون الأساسي للحركة عندما انزلق على طبقة الجليد في الشارع، وبعد أن سقط على جانبه الأيمن، ولكي يقوم، حمل الرأس والذراع نحو اليمين عن طريق الوزن المضاد وحافظ على التوازن بهذه الطريقة. ومن مثل رد الفعل التلقائي لحفظ التوازن، ومن الوعي بفقدانه، وهو أمر شائع في كل حركة، بدأت الآلية الحيوية تأخذ شكلها.
في الواقع، يستخدم مييرهولد مفهوم رد الفعل لكي يصف أن مجموعة من ردود الفعل اللاشعورية التي تنظم باستمرار وضع جسمنا، تسلط الضوء على كيفية معالجة أجسامنا لآليات اتخاذ القرار – وهي حكمة فعالة جدا – المستقلة عن التحكم الواعي. وهذه الآليات، التي يمكن دراستها الآن باعتبارها وظائف لمخطط الجسم، وتعمل عادة من خلال إجراء تعديلات طفيفة على وضع جسمنا وأطرافنا، ولكن في الحالة التي يختل فيها التوازن فجأة (مثل الحالة التي وصفها مييرهولد) تصبح هذه الآليات أوضح تحديدا لأنها منخرطة في مهمة غير عادية. وعلى الرغم من أن اهتمام مييرهولد بعلوم المخ واضح، فيجب علينا مع ذلك أن نتذكر أن مفهوم رد الفعل في الاتحاد السوفيتي كان أوسع مما نفهم من خلاله اليوم. والشعبية الشديدة التي أسبغتها جائزة نوبل على بافلوف سمحت لنموذجه الإدراكي، والذي يقوم أساسا على سلسلة من ردود الفعل تجاه العالم الخارجي، أن يصبح العقيدة الرسمية للنظام. حيث كان يستخدم مفهوم رد الفعل بشكل اختزالي لكي يصف الآليات التي كانت أكثر تعقيدا، مثل تلك الآليات المرتبطة بمجال العواطف. علاوة على ذلك، وفي نفس السنوات التي كان يشكل مييرهولد الآليات الحيوية في المسرح، كان عالم النفس الروسي نيكولاي برنشتاين يعمل في موسكو لتعريف الآلية الحيوية في حركة الإنسان، وقدم دراسات ظلت ذات أهمية أساسية حتى اليوم. ومع ذلك لا يزال هناك القليل من توثيق الاتصال بين مايرهولد برنشتاين، حيث أسكت النظام السوفيتي هذا الأخير بسرعة بسبب انتقاده علميا من النموذج المنسوب إلى بافلوف. وبالعمل على ما يسمى درجات الحرية مما يحسن فعالية العمل فيما يتعلق بهدف معين، أعلن برنشتاين الهدف باعتباره العنصر الأساسي في تنظيم الفعل. علاوة على ذلك، أبرز برنشتاين في دراسات متتابعة كيف ينتظم النظام المحرك ككل في خدمة عملية الهدف القصدي على مستويات مختلفة، فأهمية الهدف في التجلي الآلي للفعل، والتنسيق الضروري لكل النظام الحركي في تنفيذ هدف واحد – يمكن متابعته في تدريبات الآلية الحيوية عند مييرهولد. وفي ضوء هذه الدورة المحتملة للمعرفة، وغياب برنشتاين في كتابات مييرهولد، يمكن فؤ رأي تفسيره أيضا في إطار معيار الرقابة السياسية من جانب المخرج الروسي.
ولا شك أن أهمية بحث برنشتاين في سياق الدراسات حول حركة الممثل أوضح كثيرا في أعمال تلميذ مييرهولد الشهير سيرجي ايزنشتاين. وكما يشير الباحث إيفانوف، فان النسق الذي استخدمه مييرهولد لتحليل فعل الممثل – المكون من طبقات تفاعل متدرجة من المستوى الفيسيولوجي إلى المستوى دون الشعوري – قد تم تصميمه جزئيا على غرار دراسات برنشتاين. وبالرغم من ذلك، فقد كانت التأثيرات العلمية على أعمال ايزنشتاين متعددة فعلا: منذ القرن التاسع عشر – مثل الألماني ايميل دي بوا ريموند، أو الفنلندي روبرت تيجرشتيد – وصولا إلى دراسات الجشطالت. وإن جاز لنا أن نضيف روابط عاطفية مع علماء نفس مثل ليون فيجوتسكي والكسندر لوريا، فمن الأفضل أن نفهم كيف أنه أثناء مسيرته الفنية والنظرية لم يتوقف هذا الأستاذ الكبير عن منهجه متعدد المجالات.
............................................................................
• جابريل سوفيا: يعمل أستاذا في جامعة بول فاليري في جامعة مونبلييه 3 بفرنسا.
• نشرت هذه المقالة مجلة الدراسات البرازيلية حول دراسات الحضور في بورتو اليجيري المجلد الرابع الجزء الثاني من ص 313-332 في 2014.