فرقة فاطمة رشدي بين تكريمها والهجوم عليها

فرقة فاطمة رشدي بين تكريمها والهجوم عليها

العدد 740 صدر بتاريخ 1نوفمبر2021

أنهت فرقة فاطمة رشدي عروضها المسرحية بنجاح كبير في زيارتها الأولى إلى تونس. وكما استقبلها الشعب التونسي بكل حفاوة، ودعها بحفاوة أكثر، وأقام لها حفلات تكريم عديدة، تحدث عنها مراسل مجلة «الصباح» في تونس، قائلاً تحت عنوان «حفلات التكريم والتوديع بتونس»: «ما انتهت الفرقة من حفلاتها بتونس حتى تقاطرت الدعوات على أعضائها من وجهاء التونسيين لحفلات عدة، ومآدب مختلفة. حتى أن الفرقة لم تستطع إجابة كل هذه الدعوات، فاعتذرت عن كثير منها. وقد أهدت «جمعية أحباء الطلبة» باقة من الزهر الفاخر إلى السيدة فاطمة رشدي، وأهدت «جريدة الزمان» باقة أخرى. وتوالت الهدايا اللطيفة على الفرقة، وهو أكبر دليل على إخلاص التونسيين لمصر. وفي مقدمة الحفلات التي أقيمت لتكريم السيدة وفرقتها، حفلة أقامها سعادة «مصطفي جعفر» مدير تشريفات سمو الباي المعظم في قصره الفاخر، وقبل أن تغادر الفرقة تونس بيوم واحد، أقام مراسل الصباح - وكاتب هذه الأسطر - مأدبة غداء للسيدة فاطمة رشدي، والسيدة زينب صدقي، والأستاذ عزيز عيد وكريمته، وكانت أنواع الأطعمة وألوان الحلويات جميعها شرقية، ثم تفرق المدعوون في حديقة الدار الفسيحة، وأخذت لهم عدة صور فوتوغرافية. وأقامت لجنة الشبيبة التونسية حفلة تكريم في مساء اليوم الخامس من شهر مايو بقاعة «بغداد» الشرقية الفخمة، وقد حضرتها السيدة فاطمة رشدي وأعضاء فرقتها، وكانوا جميعاً موضع الحفاوة والتكريم. وبعد أن دارت على المدعوون أكواب المرطبات وأطباق الحلوى التونسية الشهية تبارى الخطباء والشعراء في كلمات الحفاوة والإعجاب. ويضيق بنا المقام لو أرسلنا لكم كل ما قيل في هذه الحفلة. وفى مساء ذلك اليوم دُعيت السيدة لحضور حفلة ذكرى مرور ستة قرون على ولادة المؤرخ التونسي «ابن خلدون»، وكانت حفلة على درجة كبيرة من العظمة والجلال، وألقت فيها السيدة كلمة تناسب المقام. وقد غادرتنا الفرقة إلى الجزائر لإحياء، بعض الحفلات على مسرحها، وقد ودع الفرقة فريق كبير من أدباء تونس في محطة العاصمة وداعاً مؤثراً. وبعد أن غادرنا القطار يحمل أعضاء الفرقة رجع الجميع إلى فندق الماجستيك لوداع السيدة فاطمة رشدي والأستاذ عزيز عيد، وقد أقلتها سيارة خاصة إلى قسنطينة وطلبت مني السيدة فاطمة رشدي أن أقدم شكرها على صفحات الصباح لتونس والتونسيين، وذكرتها بوعدها العودة إلى تونس في العام المقبل، فأجابتني بمشيئة الله تعالى».
وفي وصف حفلات التكريم، نشرت مجلة «الكواكب» المصرية قصيدة لشاعر الشاب في تونس «محمود بو رقيبة»، ألقاها تحية لفاطمة رشدي وفرقتها، قائلاً:
فتاة النيل نقريك السلامــــاشذياً كالقرنفل والخزامــى
لقد شرفت – حين حللت – قطراًلقطرك لم يزل يبدي الوئاما
كلا القطرين «شرقي» عريـقله مجد على الدنيا أقامـا
فتونس أخت مصر اليوم تهـديبنية أختها منها سلامـا
فأهلاً بنت خالتنا وســــهــــلاًبزورتك التي نشرت نسامـا
وقامت في ذرى «الخضرا» عبيراً    ولاحت في محياها ابتسامـا
وأهل الدار مهما قد تنـــاءوا    رأيت البعد بينهم التئامــــا
فهذا الفن يدني من نوانــــاوحب «الشرق» يجمعنا دوامـاً
وفي الاحتفال الذي أقيم للفرقة في قاعة «بغداد» ألقى الأديب «مصطفى بن شعبان» خطبة، جاء فيها: «إن هذه الرحلة الفنية الكبرى بشمال أفريقيا كانت عنواناً جديداً علي تضامن القطرين الشقيقين: مصر الكبرى وتونس الخضراء. ودالة دلالة واضحة على أن الوحدة الشرقية ما زالت في عنفوان الشباب، وأن الشرقيين مهما اختلفت وجهتهم، وتباينت غاياتهم، فهم يعملون لوحدة البلاد الشرقية وبث روح التعارف بين الشرقيين. ومن ذا الذي لا يعترف أن رحلة فرقة السيدة فاطمة رشدي أوجدت تعارفاً على الخصوص بين هيئات الصحافة والتمثيل والأدب، فلتحيا مصر الشقيقة ولتحيا تونس الخضراء».

الهجوم وأسبابه
انتهت رحلة فرقة فاطمة رشدي الأولى في تونس، وانتقلت منها إلى الجزائر ثم إلى المغرب، ولاقت نجاحاً كبيراً في الجزائر والمغرب مثلما لاقته في تونس وربما أكثر!! لذلك كانت رحلة فاطمة رشدي وفرقتها إلى بلاد المغرب العربي عام 1932 من أنجح الرحلات التي سيظل التاريخ المسرحي العربي يذكرها ويفخر بها؛ لأنها رحلة لن تتكرر مرة أخرى بهذا الزخم والنجاح، لا مع فاطمة رشدي، ولا مع أية فرقة مسرحية مصرية أخرى. ولهذا السبب ربما قامت مجلة «الصباح» في نهاية يوليو بذكر خط سير الفرقة منذ خروجها إلى مصر وحتى رجوعها إليها مع بعض التفاصيل المهمة، قائلة: 
«قامت الفرقة من مصر في 5 إبريل وعادت إليها في 14 يوليو. وكان خط سيرها كما يلي: تونس فصفاقس فسوسة فتونس فبنزرت فتونس فقسنطينة فالجزائر فتلمسان فوجدة ففاس فمكناس فالرباط فالدار البيضاء فمراكش فالدار البيضاء فطنجة فمصر عن طريق جبل طارق ومرسيليا ونابولي. أما مجموع الحفلات: 15 في تونس، 2 صفاقس، 2 سوسة، 2 بنزرت، 5 قسنطينة، 4 الجزائر، 4 تلمسان، 3 وجدة، 7 فاس، 3 مكناس، 7 الرباط، 10 الدار البيضاء، 5 مراكش. المجموع 69 حفلة في 100 يوم، وأيام الراحة والسفر 31 يوم، وكان من نظام الفرقة في رحلتها أن تستريح يوم الوصول للمدينة المنوي التمثيل فيها، وتستريح في اليوم الأخير قبل القيام منها لمدينة أخرى».
كما ذكرت المجلة أسماء جميع أعضاء الفرقة في هذه الرحلة، وهم: فاطمة رشدي، عزيز عيد، زينب صدقي، مرجريت نجار، سارة، حسين رياض، عبد المجيد شكري، محمود المليجي، عباس فارس، سيد فوزي، محمد الدبس، إبراهيم يونس، علي رشدي، فلاديمير، محمد حسن، على أنيس، محمود شوقي، عبد الحميد حمدي، عطا الله الصراف، علي يوسف.
وأشارت المجلة أيضاً إلى بعض الجوائز التي وزعها «محمد باشا الجبلاوي» على أعضاء الفرقة. وهذا الباشا هو من عين أعيان مراكش وأغناهم وجاهة وثروة، حيث تُقدر ثروته بأربعمائة مليون فرنك. وقد قسم جوائزه على الفرقة إلى قسمين: قسم يحصل على جائزة قدرها عشرة جنيهات، وجائزة أخرى قدرها خمسة جنيهات. «وقد نال الجائزة الأولي وقدرها عشرة جنيهات حضرات: السيدة زينب صدقي، مرجريت نجار، السيدة سارة، الأساتذة حسين رياض، عبد المجيد شكري، محمود المليجي، عباس فارس، سيد فوزي، البيانست محمد الدبس، إبراهيم يونس. ونال الجائزة الثانية وقدرها خمسة جنيهات الحضرات: علي رشدي، فلاديمير، محمد حسن، علي أنيس، محمود شوقي، عبد الحميد حمدي، عطا الله الصراف، عزيزة عيد [الطفلة ابنه فاطمة رشدي وعزيز عيد]. وأعطى للسيدة فاطمة رشدي مائة جنيه، ومثلها لعلي أفندي يوسف، ولم يعط الأستاذ عزيز عيد شيئاً، وهو ما كان مثاراً لدهشة الجميع. ووزع على عمال الفرقة من ميكانست ومخزنجية خمسة جنيهات لكل منهم، ولم يترك حتى نعيمة خادمة السيدة فاطمة رشدي فقد أعطاها جنيهين».
هذه الهدايا والأموال، ربما لا تعكس النجاح الحقيقي لعروض الفرقة في المغرب، بل وفي الجزائر من قبلها، ولولا أن موضوع هذه المقالات محدد بالعلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس، لكنت ذكرت مظاهر نجاح الفرقة في الجزائر والمغرب!! والسبب في قولي هذا راجع إلى ما حدث بعد عودة الفرقة إلى مصر، وبعد أن حققت نجاحاً كبيراً في الجزائر والمغرب بعد أن حققته في تونس! فقد لاحظت استياءً عند التونسيين بعد عودة الفرقة إلى مصر، وعبروا عن ذلك برسائل نشرتها الدوريات المصرية، ومنها مجلة «الصباح» التي قالت: 
«جاءنا من أحد أدباء تونس خطاب ننشر منه ما يلي: صاحب جريدة الصباح المصرية الغراء. الآن وقد انتهت فرقة السيدة فاطمة رشدي من حفلاتها في تونس رأيت من واجبي أن أبعث إليكم ببيان ليكون بمثابة الحد الأخير للإشاعات التي لا تتفق مع الحقيقة. كان السيد «حسين الجزائري» صاحب جريدة «النديم» الغراء قد تلقى من السيدة فاطمة رشدي صاحبة الفرقة الشهيرة رسالة تشعره فيها بعزمها على الحضور لتونس، وتستمد منه ما يرجى من الصحفي من المعاضدة والمآزرة. ورأى من واجبه تلبية هذا الصوت المصري إذ من العار أن يسجل بيننا سقوط فرقة مصرية، وفي الوقت نفسه وصل إلى السيد «محي الدين الفليبي» كتاب من الأستاذ الجليل الشيخ «عبد العزيز الثعالبي» جاء فيه بالنص (أرجو أن تبذلوا جهدكم في إكرام السيدة فاطمة رشدي فإنها أكرمتني إلى أن أخجلتني). وهذا ما ضاعف من اهتمام الأستاذ الجزيري بالفرقة، فما كادت تصل إلى تونس حتى كان يصحبها في غدواتها وروحاتها، وكان يضحي من ماله الخاص، وأغلق مكتبه ليتفرغ لسياحته مع الفرقة في كل مكان، حتى عرض عليه علي أفندي يوسف وكيل الفرقة أجرة الإعلانات التي نُشرت عن الفرقة وحفلاتها بجريدته فرأى ألا يتقاضى من الضيوف قليلاً أو كثيراً».
هذا الكلام الصادم يتعجب منه القارئ، ويسأل: لماذا تم نشره بعد مغادرة فاطمة رشدي تونس؟؟ ولماذا لم يُنشر أثناء وجود الفرقة في تونس، أو قبل حضورها إلى تونس؟ علماً بأن هناك منافسين لفاطمة رشدي، ويتمنون فشلها، وهذا الكلام في صالحهم ويخدم أغراضهم!! فلماذا قيل هذا عن فاطمة رشدي وفرقتها بعد أن عادت إلى مصر، وبعد أن زارت الجزائر والمغرب بعد تونس!! بحثت عن السبب فوجدته منشوراً في مقالة أرسلها أحد التونسيين عبر «محمد المرساوي» مراسل مجلة «الصباح» في تونس، فنشرت المجلة الرسالة في منتصف سبتمبر 1932. وهذه الرسالة، ترددت كثيراً في نشرها هنا، ولكني حسمت أمري بنشرها؛ لأنها تاريخ يجب أن يعرفه الجميع، حتى ولو كانت آثاره امتدت لعقود طويلة، وربما بقاياه ما زالت موجودة حتى الآن!!
قال التونسي في رسالته: «أولاً: أهنئ السيدة فاطمة رشدي بعودتها سالمة غانمة لبلادها مصر الشقيقة. ثم أبلغها وأفراد فرقتها تحيات التونسيين ورضائهم عما شهدوه منهم من تمثيل بديع راق، ثم أستميحها وأستميحهم الرد على ما أبدوه من تصريحات في أحاديثهم للصباح إثر عودتهم من رحلتهم الميمونة. يستفاد من أحاديث أعضاء الفرقة جملة أمور تدل على ضعف اطلاع أو أشياء أخرى القصد منها غمط حق تونس والتونسيين، وشرح ذلك أن جُلّ تصريحاتهم كانت تدور حول تفضيل المغرب الأقصى عن تونس؟ والتنويه بعظمة قصورها التي تُعيد ذكرى خرافات ألف ليلة! وشدة تمسك أهلها بالإسلام وغير ذلك من الثرثرة الخيالية! عجيب والله ماذا جنت تونس حتى تغمط من حقوقها ومميزاتها، ولا تُذكر في أحاديث الممثلين إلا مُلحقة بالمغرب الأقصى، بل لا تذكر إلا دونه. عندما اطلع المفكرون هنا على أحاديث الممثلين عن رحلتهم في «الصباح» قال بعضهم إن أفراد الفرقة غير مثقفين ولذلك لم يدرسوا أحوال الشعوب التي مروا بها ودرجات رقيهم الأدبي والمادي والفوارق التي تميز هذا عن ذاك. وقال آخر إن ممثلي فاطمة لا يقدرون إلا الأشياء المادية التي تصلهم فلما أهدى باشا مراكش هديته المشهورة لكل ممثلي الفرقة ذكروا المغرب بأنها أرقى بلدان شمال أفريقيا. والحقيقة التي يجب أن تقال هنا بصفة عامة ليطلع عليها المصريون وكل إخواننا الشرقيين معززة بأصدق الأسانيد لا يمكن لمنصف أن يجادل فيها وهي: إن الفرقة قوبلت في تونس استقبالاً شعبياً عاماً حضره كبار التونسيين كما جاء وصفه بالتفصيل في «الصباح». ثانياً: إن الفرقة مثلت في عاصمة تونس 12 رواية في حين أنها لم تمثل في أي عاصمة بالجزائر والمغرب ولا نصف هذا العدد مع العلم بأن عدد الشعب التونسي مليونان وعدد المغاربة أزيد من أربعة أضعاف هذا العدد وأن أكبر مسارح شمال أفريقيا هو مسرح تونس البلدي. ثالثاً: إن الشعب التونسي أرقى من بعض جيرانه لكثرة مدارسه وصحفه ونواديه وجمعياته التمثيلية والرياضية إلخ، وهذا الأمر يعترف به الجزائريون والمغاربة. رابعاً: إن تونس هي التي مهدت سبيل النجاح للفرقة في الجزائر والمغرب الأقصى بنجاحها فيها وتنويه صحفها بالفرقة ولو لم تنجح الفرقة في تونس لاستحال عليها النجاح في المغرب. ومما تقدم يظهر للجميع من هو الشعب التونسي. وأما تدينه فهو أمر لا شك فيه مع مجاراته للمدنية العصرية فهو لا يتعصب على «مرجريت نجار» [الممثلة في فرقة فاطمة رشدي] لأنها مسيحية. بل يكرمها وإن أنكرت فضله لأنها شرقية ولسانها عربي وهذا معنى التسامح الذي أمر به الإسلام. وعن قصور ألف ليلة .. فإن تونس عامرة بأمثالها بل أحسن منها مع توافر أسباب الراحة والتسلية من آلات فن الطرب الجميل كما شهد بذلك مراسل الصباح المصاحب للفرقة المطلع. على إننا لا نحب المفاضلة بين التونسي والمغربي والجزائري لأننا نراهم إخواناً متجاورين، ولو أقتصر أفراد الفرقة كالسيدة فاطمة فذكروا رحلتهم إجمالاً معترفين بإكرام أهل البلدان التي مروا بها لهم عموماً لما كان لنا معهم أي شأن، أما وهم قد فضلوا بلاد المغرب عن تونس فأحدثوا بتصريحاتهم استياءً عظيماً لدى من شجعهم من التونسيين فاستحقوا منا هذه الكلمة المختصرة».
بهذه الكلمات انتهت أول رحلة لفاطمة رشدي إلى تونس، على أمل أن تعود إليها في العام التالي 1933 كما وعدت! ولكنها لم تأتِ في العام التالي ولا في العام بعد التالي .. وظلت لا تأتي طوال ست سنوات، حتى جاءت إلى تونس أخيراً عام 1938 .. ولكنها جاءت وحدها وبدون فرقتها!! والسر في ذلك سنتعرف عليه في المقالة القادمة!


سيد علي إسماعيل