عزيز عيد الأصل .. والريحاني الهامش!!

عزيز عيد الأصل .. والريحاني الهامش!!

العدد 830 صدر بتاريخ 24يوليو2023

وعدتكم في نهاية المقالة السابقة بأنني سأخصص هذه المقالة لما يخصّ الريحاني في المواضع التي جاء ذكره في قضية الفودفيل وعروضه!! وبناء على ذلك أقول: إن الكاتب والمترجم المسرحي «عبد الحليم دلاور» شارك في معركة الفودفيل بمقالات كثيرة منشورة في جريدة «المنبر»، ولكنه أشار إلى الريحاني في مقالة واحدة – في أواخر فبراير 1916 – عنوانها «ما هو الفودفيل .. وهل هو مفيد؟»، قال فيها:
“لست مقارناً بين الممثلين فأقول مثلاً أن أمين عطا الله أخف ظلاً من عزيز عيد، أو أن نجيب الريحاني الرشيق الجميل أليق بتمثيل العُشاق وأهل الخلاعة والدعابة من عزيز عيد الأصلع الطويل الأنف القصير القامة! فإن النظرة إلى ذلك تدعو إلى روعة واللفتة إلى هذا يعقبها وجوم. ولست قائلاً إن تعريب أمثال هذه الروايات باللغة العامية لا يجعل لها قيمة أدبية ما، فإن كل هذه الاعتبارات لا يجهلها مطلع على ما هنالك، وليست من موضوع ما أنا بصدده. أن ما أنا بصدده لعظيم إذا أقصينا النظر فى الأسباب والنتائج. وبحسب القارىء أن يعلم أنى باحث عن تأثير هذه الروايات فى الأخلاق وما ينجم عنها من العواقب، وأن ما أحوم حوله من الموضوعات سيشمل الكلام على تعريف الفودفيل وخلوه من الفائدة ومن كل مغزى قويم. والقول بأن هذا النوع من التمثيل ليس من الأدب فى شيء بل هو شائن له، مزرٍ بكل عالق كلف به من الأدباء والمتأدبين. وينتهي بي البحث إلى الإدلاء بالحجة الناصعة على أن الفودفيل مُضيع للفضائل، عابث بالأخلاق، مُكسب للرذائل. وفي ذلك ما فيه من سوء المغبة وقبح الغاية وإفساد وإضلال الأفراد والجماعات ... إنك أيها القارئ إذا ضمك والممثلين مجلس وذكر الفودفيل سمعت منهم العجب! فهذا يقول: (ليس أنجح فى تأديب الجمهور من هذا النوع التمثيلي، فإنه يظهر أدواء المجتمع وعلله حتى لتكاد تلمسها باليد). وذلك يقول: (لو لم يكن الفودفيل أحسن أنواع التمثيل لما رأينا الإقبال العظيم عليه)! بل أن بعضهم ليذهب إلى أبعد من هذا وذاك فيقول: (ليس أدق من هذه الروايات فى تصوير الأخلاق)!! تسمع قولهم فلا تتمالك نفسك من الابتسام حيال هذا الخلط!! إننا لا نستخلص مغزى أدبياً ولا نجد شيئاً من تصوير الأخلاق في روايات الفودفيل، لأنها لم توضع للتأديب أو لدرس الغرائز، وإنما للهو. أما قولهم إن الإقبال عليها عظيم، فيسؤني أن أصرح هنا قائلاً بأن الإقبال على مواخير الفسق والدعارة أعظم بكثير، وما ذلك إلا لأن النفس أميل إلى السفاسف إن لم تجد ما يردعها. فأما والفودفيل قريب العهد في مصر فيجمل بي أن أقول كلمة في ماهيته والغرض من وضعه. ولما كان هذا النوع من التمثيل من مبتكرات الفرنسيين وبديعهم فليس أصوب من الرجوع إليهم فيه، ولا أحزم من الاستشهاد بآراء كتابهم ونقادهم. قال فرانسيسك سارسيه - وقد كان أكبر نقاد التمثيل في فرنسا، ولا أكون مغالياً إذا قلت العالم أجمع - قال في نقد «أسكريب» مبتكر نوع الفودفيل في فرنسا، وأكبر المؤلفين شهرة في هذا النوع، وواضع أكثر من خمسائة رواية: إن الفودفيل خالٍ من كل مغزى أدبي، وأبعد ما يكون عن تصوير الأخلاق، ولكن ربما استخلص البعض استنتاجاً آخر وقال: ليس هذا ما أراده سارسيه لهذا فأنا ذاكر فصلاً كتبه هذا الناقد الكبير نقداً لرواية أخرى وكأنه جعله شرحاً لقوله السابق بل تعريفاً لفن الفودفيل نفسه قال: (الفودفيل هو – كما أعرفه أنا – اسم يطلق على كل قطعة تمثيلية لم يحافظ مؤلفها في وضعها من بين عوامل الحياة إلا على الحادث نفسه فهو يبعد عنه عمداً العواطف والأهواء والأخلاق، أو بعبارة أخرى مجموع القوى الاجتماعية التي يتألف منها ما يسميه تين بتأثير البيئة والوسط فينتخب حادثاً من الحوادث ويلهو بأن يتتبع نتائج هذا الحادث فى الأشخاص الذين يحومون حوله أو يجذبهم إليه القضاء والقدر). هذا هو تعريف الفودفيل قاله وكتبه رجل يعد كأكبر نقاد التمثيل مكث أربعين سنة يوالي النقد وحضور التمثيل ... وقال رينيه دوميك وهو من كبار الأدباء والنقاد يصف لابيش أحد مشاهير مؤلفي الفودفيل: (لم يكتب إلا ليلهو ويلهينا فإذا عرض له موقف مضحك أبرزه لنا في أول روايته، ثم لا يفتأ يديره ويقلبه في كل الجهات، كأنه يعمل على مدّ أجل السرور به. وعندما يشعر بأنه استنفذ كل ما فيه من مبهج وملّه، يقف تاركاً الموضوع ينتهي كما يشاء عند أي ختام. فإنما القصد اللهو والضحك). وقال في ساردو مؤلف رواية الساحرة ومائة غيرها: (يرينا الفودفيل فضائح لا يجيزها احترام ولا عقل سليم). ولو شاء القارئ لأكثرت من الاستشهاد بآراء وأقوال أمثال: جيل ليمتر، وإميل فاجيه، وجيستاف لاروميه، وأدولف بريسون، وغيرهم من أساطين النقد، إلا أن في ذلك إطالة لا متسع لها الآن وإنما نخرج مما أسلفنا إلى أنه لا يقصد من الفودفيل إلا اللهو والتفكه، والنزوع عن كل مغزى أدبي وعن كل فائدة أو عبرة .... ولو أن القائمين بأمر الفودفيل اليوم عربوا عن أسكريب وساردو ولابيش لما وجدنا مجالاً لتقبيح عملهم ولعلنا كنا ننشطهم ونشد أزرهم إلا أنهم لجأوا إلى شر الروايات وأقذرها وأشدها خطراً على الآداب أمثال «عندك حاجة تبلغ عنها، وخلي بالك من أميلي، ويا ستي ماتمشيش كده عريانة»!! ففي الأولى يتباهى الممثلون بخلع أثوابهم وتبادلها أمام الجمهور، وفي الثانية ينعم عزيز عيد بلذة النوم مع ممثلته الأولى في فراش واحد، وفي الثالثة (.......) ولكن ماذا عسى أن أفعل؟ أأدنس قلمي بسرد حوادث تلك الموبقات؟ إني لأخجل من ذكرها وأخشى أن أسبب للقارئ انزعاجاً أو اشمئزازاً. هذا ما أردت تبيانه تعريفاً لنوع الفودفيل واعترافاً بأنه بعيد عن كل مغزى، وخال من كل فائدة.
محمود بك خيرت
ما كتبه المسرحي «عبد الحليم دلاور» ضد عروض عزيز عيد الفودفيلية، ردّ عليه الفنان الأديب المحامي «محمود بك خيرت» - جدّ الموسيقار عُمر خيرت – قائلاً تحت عنوان «هل التمثيل مفسد للأخلاق: حظ مصر من النقاد»: يُمثل الأستاذ عزيز عيد قطعه منذ عهد بعيد فلم نر ضجة حامية حول ما يمثله كالضجة الحديثة التي قامت الآن من حولها، حيث خرج عليه بعض نفر من الكُتّاب، أخذوا يصبون فوق رأسه حميماً من شر مستطير، ويصوبون إلى صدره سهاماً مسمومة قاتلة، وهو هو عزيز عيد الذي يمثل هذه القطع من زمن مضى على ملأ الأمة!! والنقاد هم هم بأعينهم، يشهدون تمثيلها ساكتين جامدين كل هذا العهد الطويل! أدهشتنا وأيم الحق هذه الحركة الفجائية الشديدة، التي كان محلها في ذلك الماضي البعيد. نعم دُهشنا من آنسة متحجبة ومن كاتب يسير خلفها خطوة خطوة يردد ما قالته غير زائد شيئاً من عنده مع أنها ما قالت فى الموضوع نفسه شيئاً يحسن عليه السكوت! ومن ناقد يصرخ في بنها فنسمع رجع صداه هنا، يصيح: (قاطعوهم .. قاطعوهم .. وكفى). ومن متأخر عنهم أراد أن يضع نفسه من الأمة موضع المؤدب من التلميذ وأن يكون هو كل محكمة الرأي العام فى الشرق بأكمله، فحشد في المنبر الأغر أربع مقالات مضطربة ضعيفة، رأينا ناراً متأججة تنفجر من بين سطورها، وليلاً حالكاً يطوي بيض صحائفها بحجة أن آداب الشعب أصبحت في خطر، وأن قطع عزيز عيد جنت على العفة وعلى الفضيلة وعلى فتيات الأمة الطاهرات. ولقد قلنا في أحد مقالينا إن النقد يستدعي علماً واسعاً وصبراً طويلاً وأدباً في المناقشة. ومن سوء الحظ أننا لم نجد شيئاً من ذلك كله في كل ما كُتب، وهذا موجب للأسف من فريق يتصدى لنصرة الآداب، ويقصد خدمة الأمة .. لماذا نتناول الأشخاص في سطورنا ونتعرض للشخصيات في كتاباتنا، والموقف سهل لا يتطلب أكثر من الكلام على الآداب والأخلاق. أرادت حضرة الآنسة في أول مقال لها أن توجه القول إلى عزيز عيد فتعرضت لعبد الله عكاشة، وأرادت أن تخفضه وترفع عنه غيره بطريق الموازنة فقالت لمَ لا يحذو حذو أستاذه الشيخ سلامة حجازي، ثم كررت ذلك مما لا يفهم له معنى إلا أن يكون الغرض التعريض به. وقال حضرة بهلول عن عزيز عيد .. (المعلم) عزيز عيد .. وقال حضرة البنهاوي (فهل ليس من العار المخجل أن أستاذ التمثيل ومنشئ التمثيل وخدام التمثيل في مصر لا يلاقون الإقبال والرواج اللذين يستحقونهما على أعمالهم الطيبة النافعة، ويلقى منها الكثير من جماعة الكوميدي)، وهو بمثل هذا يندب حظ جوق خاص ويتألم لحالته، لأن قطع عزيز عيد حالت بينه وبين إقبال الناس عليه! ومثل هذا قبيح لأنه يشير إلى غرض لا إلى نقد، ولا يتفق النقد مع الغرض. وقالت محكمة الرأي العام .. (إن أمين عطا الله أخف ظلاً من عزيز عيد، وأن نجيب الريحاني الجميل أليق بتمثيل أدوار العشاق من عزيز عيد الأصلع طويل الأنف قصير القامة)، وغير هذا كثير فحضرة المنتقد جعل نفسه محكمة عليا تحكم على الناس أجمعين ولكن المحكمة لا تسب الأشخاص! على أن الناقد لا يترك الغرض الدفين ينساب من خلال ما يكتب فيقول إن عكاشة أفندي اندفع إلى نشر الرذيلة بدافع الفاقة وسوء الحال .. مع أن عزيز عيد ما أقدم على تمثيل هذه القطع إلا بعد تصريح رسمي ومراجعة ما يؤلف من قبل الحكومة. لذلك قلنا إننا دهشنا من هذه الحركة الفجائية في وقت مضى على عزيز عيد عهد طويل يمثل فيه رواياته والناس وحضرة المنتقد ومن سبقه يتفرجون سكوتاً جامدين. نعم أن الناقد يجب أن يكون شريف الغاية بعيداً عن الغرض. فلقد رجونا حضرة عزيز أفندي عيد أن يقابلنا، وبعد أن تذاكرنا في هذا الصدد زادت دهشتنا لأنه صرح لنا بأن حضرة رئيس محكمة الرأي العام [أي عبد الحليم دلاور] الذي يأنف من الفودفيل ويسعى في مقاطعة الفودفيل، ويظن أنه يورد أقوال بعض الكُتّاب عن تقبيح الفودفيل، سبق أنه هو نفسه ترجم قطعة فودفيلية، وعرضها على عزيز عيد. ولما أن قرأ منها الفصل الأول أتهم حضرة الممثل أن هذه القطعة سقيمة الترجمة، فما كان من حضرة المنتقد إلا أن مزقها وانصرف! وهذه الحادثة وقعت قبل صدور أول نقد في جريدة المنبر بأربعة أيام فقط!
الرشيقة روز اليوسف
لاحظنا في المقالتين السابقتين أن اسم «نجيب الريحاني» مذكور فيهما ذكراً هامشياً، لأن المقالتين مكتوبتان عن عزيز عيد خصيصاً، بوصفه رئيس الفرقة وصاحب القطع الفودفيلية التي تعرضها الفرقة ويمثل فيها الريحاني!! وهناك مقالة ثالثة نشرها الناقد «ميخائيل أرمانيوس» واصفاً الريحاني بأحد أقطاب الفرقة، نشرها في جريدة «الوطن» في مارس 1916 تحت عنوان «حديث ذو شجون على ذكر الفودفيل»، قال فيها:
طلبت أمس إلى حضرة الممثل الفني عزيز أفندي عيد أن يقابلني لأستقصي منه عن بعض شؤون تدور حول هذا الموضوع، الذي احتدم فيه وطيس المناظرة، فتفضل بالمقابلة يصحبه شاب وشابة. أما الشاب فلا يقل عن الأديبين عزيز أفندي عيد وأمين أفندي صدقي من حيث التجمل بالآداب الاجتماعية والتضلع في اللغة الإفرنسية، وهو حضرة نجيب أفندي الريحاني، أحد أقطاب ذلك الجوق الذي قامت عليه قيامة بعض الكُتّاب حتى بلغ بهم التهور إلى حد أن وصموه بالخلاعة والتهتك، سعياً في تحريض الحكومة على هدمه وخرابه، كأنها آلة في أيديهم يحركونها كيفما شاءت الأهواء والأغراض. إن نفسي المتألمة لعدم إقبال الطبقة الراقية على الاندماج في سلك فن التمثيل، لتبتهج اليوم بهذين الفاضلين وغيرهما من الذين لا مناسبة لذكرهم الآن. ويا حبذا اليوم الذي ينهض فيه التمثيل إلى مستوى الكمال، لهو عندي يوم سعيد تجد فيه الشبيبة المتعلمة معيناً لها على تهذيب الأمة ونمو الهيئة الاجتماعية. وحسبنا فخراً أن رجال التمثيل في أوروبا يحسبون في عداد أهل العلم والعرفان وذوى الفضل والكمال. أما الشابة التى بصحبتهما فهي الآنسة الرشيقة «روز اليوسف» ممثلة أدوار الفودفيل، وقد وصفت للقراء تمثيلها أول أمس في رواية «يا ستي ما تمشيش كده عريانة»، وهو الدور الذي فاقت فيه حد الإبداع، فحيّتني ثم قالت: «أشكر الوطن [أي جرنال الوطن] الذي أخذ بيدي ووهبني قوة أتشجع بها أمام هذا التيار الذي أراد أن يجرف حياتي. أنا الفتاة الضعيفة التي ما جنيت جناية سوى إيقاظ النفوس وتنبيه الساذجات من طريق إدخال السرور في قلوب المتفرجين والمتفرجات». وهنا سكتت ثم أغمضت أجفانها وظهر على شفتيها خيال ابتسامة محزنة، ثم همست قائلة: «إني أتعذب كثيراً .. نعم أتعذب .. أما حدة الوجدانات وطبيعة الحركات، والقدرة على تمثيل السذاجة والبله وتكلف النفس ما يضحك ويسر، إلى غير ذلك من الصفات التي يتطلبها العلامة «جورج فيدو» واضع روايات الفودفيل في الأدوار التي أقوم بها لدقتها، ولأن كل حركة من حركاتها تقتضي وضعاً خاصاً ومهارة وحذقاً يستدعيان عناء، قلما تصادف مثله ممثلات الدراما. ومع ذلك كله لم أجد كلمة عزاء أسلي بها نفسي المتألمة داخل جسدي، وقلما صادفت نقداً بإخلاص من واعظ حكيم، أو مؤدب عليم بل على الضد من ذلك لم أجد – إذا استثنيت القليل – سوى قوم يجسمون المساآت ويسكتون عن الحسنات، وفيهم الحُساد وأهل الضغائن والأحقاد». فطيبت خاطرها وقلت لها: هوني على نفسك يا آنسة، فإن جيش الباطل قد هزمته مدافع الحق. وكل حملة دُبرت بالأمس فشلت اليوم. ويكفيكم فوزاً ونصراً أن الذين أقاموا هذه الضجة ابتغاء القضاء على الفودفيل الجميل – لابتغاء تهذيبه وإصلاحه – أصبحوا مضطربي الأشباح أموات الأرواح إزاء شروعكم في تمثيله من جديد. فتبسمت «روز» ابتسامة الآمل في حكومته كل خير، المستبعد عنها سماع كل وشاية وضير. وبعد أن رفعت يديها إلى السماء داعية بلسان حلو لعظمة مولانا السلطان أن يطيل عمره ويؤيد ملكه ويحفظ رجال حكومته، أحدقت فيّ بنظرها وقد باحت أجفانها بسرائر نفسها ثم قالت بهدوء سحري: «وكمان رايحين نمثل عن قريب فودفيلاً جديداً وجميلاً للغاية اسمه «بسلامته لسه ما دخلش دنيا»». فضحكت ثم صافحتهم جميعاً وانصرفت وقد أردت إثبات هذا الحديث تفكهة للنفوس وصرفها لحظة من الزمان عن قراع الرماح وتأجج النيران. أما ردي على حضرة مناظري اللوزعي الأديب فرح أفندى أنطون، فموعدي به بعد غد. وهو من اليوم قريب!!


سيد علي إسماعيل