صناعة الفن الشعبي.. في مصر

صناعة الفن الشعبي..  في مصر

العدد 780 صدر بتاريخ 8أغسطس2022

مما لا شك فيه أن مصر من أغني مناطق العالم بما يمكن أن نسميه “الفن الفطري” الناتج عن الموهبة في لحظات تفجرها الأولى، بما يضعنا أمام المنابع الأولية للإبداع، نجد ذلك في الميراث المتراكم من “الفولكلور”، وهو يشمل أنواع متعددة من الفنون الشعبية المادية واللامادية. وكلها تحمل خصائص الهوية المكانية والحضارية، كما أنها قابلة لتوظيفها في أشكال فنية معاصرة، وهنا تكمن مرونة وأصالة “الموروث الشعبي”. وهنا لنا أن نقف عاد تجربتين في هذا الإطار أولهما مع ثورة يوليو 1952، وهي تكوين “فرقة يا ليل يا عين” والثانية في السنوات الأخيرة وهي الاهتمام بفن الأراجوز.
فمع ثورة يوليو 1952، كان هناك منظور قومي عميق ومتسع ألقى بظلاله على البعد السياسي والاقتصادي ومن ثم الثقافي، خاصة وأن مصر في تلك الفترة كانت في لحظة بعث حضاري جديدة، فكان لابد من أجل وجود حاضر قوي –بعد فترة أفول حضاري خلال سبعين عاما هي فترة الاحتلال الإنجليزي- كان لابد من لحظة سطوع، فكان البحث عن الجذور، خاصة الجذور الشعبية للشخصية المصرية المتمثلة في فنونها، وهنا يبرز الدور الذي قام به زكريا الحجاوي، حين أرسله الروائي يحيي حقي، وكان وقتها مديرا لمصلحة الفنون التابعة لوزارة الإرشاد القومي وقتها- ليبحث في الريف والصعيد المصري والموالد المختلفة عن الفنانين الشعبيين، من أجل تكوين أول فرقة للفنون الشعبية ، وبعد عدة أسابيع دخل “الحجاوي” على “حقي” ومعه عشرات من المغنين أمثال محمد طه وأبودراع وخضرة محمد خضر وجمالات شيحة وغيرهم، ومعه –أيضا- من يمسك في يده ربابة ومن يمسك في يده سمسمية ومن يعزف على الأرغول ومن يدق على طبلة، من يلبس جلبابا صعيديا، ومن يرتدي غطرة بدوية، من ترتدي “الياشمك” السيناوي، ومن ترتدي الطرحة “التلي” التي ترتديها الفلاحات في محافظات الدلتا.
هذه الفسيفساء البشرية والفنية بهرت صاحب “قنديل أم هاشم”، فقرر أن يتبنى هؤلاء الفنانين الفطريين، بحيث يعملون تحت إشراف “الحجاوي”، لكنهم كانوا بحاجة إلى تدريب شاق، فما يقدم في الموالد وفي حلقات السامر الشعبي يختلف عما يقدم على المسارح، فكان لابد من تدريبهم على فنون الأداء، وقد صادف ذلك وجود عدد من المخرجين المسرحيين الشباب –وقتها- الذين درسوا الإخراج في فرنسا وإيطاليا والاتحاد السوفيتي، فقسم “يحيي حقي” هؤلاء الفنانين الشعبيين إلى مجموعات وجعل كل مخرج يدربها على الشكل الاحترافي للأداء الفني، وكان من بين هؤلاء المخرجين فتوح نشاطي ونبيل الألفي وحمدي غيث وسعد أردش وكمال ياسين، وكل هؤلاء كانوا يعملون تحت إشراف العملاق زكي طليمات.  
وقد تم الاستعانة بخبير الأزياء الشعبية “سعد الخادم” لتصميم ملابس الفرقة. 
وقد نجحت الفرقة التي حملت اسم “يا ليل ياعين”، وكانت بداية حقيقية لصناعة الفن الشعبي في مصر، ولاهتمام المؤسسة الثقافية به وتوظيفه في السينما والمسرح، فظهرت بعد ذلك أفلام مثل”حسن ونعيمة” بطولة سعاد حسني ومحرم فؤاد في أول ظهور للاثنين على شاشة السينما ،والتي كتب المعالجة الدرامية لها الشاعر والفنان عبدالرحمن الخميسي، وهو مأخوذ من حكاية شعبية تداولتها الأجيال في الدلتا، وبعد ذلك في السبعينيات تم تقديم حكاية شعبية أخرى من صعيد مصر، من خلال فيلم “شفيقة ومتولي” والتي كتب لها المعالجة والحوار الشاعر صلاح جاهين، وقام ببطولته سعاد حسني ومحمود عبد العزيز وأحمد زكي، وإخراج علي بدرخان. والقصة مأخوذة من موال شعبي قديم مكتوب بشكل الحكاية الشعبية، ولعل أشهر من غنى هذا الموال هو الريس حفني أحمد حسن.
ولم تكن هذه التجربة وليدة الصدفة بل كانت ابنة شرعية للضرورة الاجتماعية والتاريخية.
وقد أثبتت التجربة انجذاب الجمهور للموروث الشعبي ربما للنزعة الوجدانية المتأصلة في النفوس، وربما لأن هذا التراث هو مرايا عاكسة للذات القومية في تجلياتها المعاصرة. لدرجة أن فنانا  مثل عبدالحليم حافظ حين وجد أن الفنون الشعبية خاصة فيما يخص الغناء تجد إقبالا جماهيريا ملحوظا، بدأ يغير من نمط غنائه الرومانسي الهادئ، ليطعم أغانيه بمفردات شعبية، كما في “على حسبي وداد جلبي يا بوي”، وقد استعان في ذلك بشاعر يستمد قوة خطابه الشعري من البعد الشعبي وهو عبد الرحمن الأبنودي، وملحن معجون بالخصوصية المصرية وهو بليغ حمدي. 
في تلك الفترة –أيضا- تم تأسيس أول فرقة للرقص الشعبي وهي “فرقة رضا” والتي جمعت في عروضها بين التراث والمعاصرة.

فن شعبي
في تلك الفترة – أيضا-  بدأ الفنان “محمود شكوكو” في تقديم عروضه الخاصة بالأراجوز، من خلال اسكتشات استعراضية ومونولوجات، وبدأنا نشاهد ”الأراجوز” في الأفلام السينمائية، مثلما حدث في فيلم “الزوجة الثانية” بطولة سعاد حسني وشكري سرحان وصلاح منصور وسناء جميل وإخراج صلاح  أبوسيف.
وليس هذا غريبا فمؤلف الفيلم هو أحمد رشدي صالح أحد رواد الأدب الشعبي وأشهر دارسيه.
والأراجوز أحد الفنون الشعبية المهمة المتوارثة، والذي اعتبره كثير من الباحثين والنقاد العرب أمثال د.عبد الحميد يونس ود.علي الراعي البداية الأولى للمسرح العربي، وفي عام 2018 تم وضع “الأراجوز” على قائمة التراث اللامادي من قبل منظمة اليونسكو، وكان هذا  الأمر حدثا ثقافيا مهما، واعترافا بمصرية هذا الفن العريق. الذي كاد أن يندثر لولا جهود بعض الأفراد المهتمين بهذا الشكل المسرحي الشعبي.
ولعل الدولة أدركت قيمة الفنون التراثية، بعد هذه المبادرة، فقد بدأت الدولة منذ تلك اللحظة ممثلة في وزارة الثقافة المصرية في الاهتمام به كأحد الروافد التراثية للمسرح ولغيره من الفنون، ومن تلك الاهتمامات إقامة “ملتقي الأراجوز والعرائس التقليدية” والذي يقام سنويا وينظمه “المركز القومي لثقافة الطفل”، لكن المسألة كانت بحاجة إلى دور أكبر خاصة بعد رحيل معظم فناني ولاعبي الأراجوز ولم يتبق سوى عدد قليل للغاية منهم، فقام الفنان والمخرج ناصر عبد التواب بتقديم اقتراح للكاتب المسرحي محمد ناصف-رئيس المركز القومي لثقافة الطفل- بإقامة”مدرسة الأراجوز” للتعليم والتدريب على هذا الفن. على أن يتم من خلالها تصنيع “الأمانة” وهي الأداة الخاصة بإخراج صوت الأراجوز، وصناعة عروسة الأراجوز، وتصنيع مسرح خاص بالأراجوز بما يستلزم من تقنيات للعرض المسرحي، كذلك إقامة ورش لتدريب الطلاب على الارتجال والتمثيل، والقدرة الفنية على تحريك العرائس، وكيفية تنظيم ورش للقراءة المجتمعية للدارسين، نظرا لأن مسرح الأراجوز قائم على فكرة “المسرح التفاعلي”، من خلال اكتشاف  ظاهرة في المجتمع والعمل عليها. وقبل ذلك تعريف المتدربين ما هو التراث؟ وتعريفهم بالنمر التراثية القديمة للأراجوز، والتي تم توثيقها من خلال مجموعة من الباحثين أمثال د.نبيل بهجت ود.عصام أبوالعلا، والعمل على استخراج واستكتاب نمرا جديدة، وكيفية الاستفادة من ذلك لكتابة نمر جديدة لتقديم هذا الفن في مضمون عصري ومناقشة قضايا راهنة بما يعني “عصرنة الأراجوز”. بتقديم “نمر” تواكب التطورات الاجتماعية.
 الفكرة كانت تحتاج في تنفيذها إلى دور مؤسسي كبير، والدولة ممثلة في وزارة الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة لم تبخل علينا، فعندما تم طرح الفكرة أمام د.إيناس عبد الدايم أكدت على تقديم كل الدعم للمركز القومي لثقافة الطفل الذي تبنى الفكرة وبدأ في تنفيذها، وكان من المقرر أن تبدأ المدرسة نشاطها في عام 2020، إلا أن الأمر تأخر بسبب “كورونا” لكن بدأنا النشاط في أغسطس 2021، والتحق بالدورة الأولى مجموعة من المتدربين والمتدربات بداية من سن 14 سنة فما فوق.
واستمر تدريبهم ثلاثة أشهر، وقد قام بعملية التدريب مجموعة من لاعبي الأراجوز المحترفين مثل سيد السويسي ومحمد عبد الفتاح وناصر عبدالتواب وكان هناك فريق من المشرفين من المركز القومي لثقافة الطفل برئاسة الأديب محمد ناصف ومعه الباحث أحمد عبد العليم وولاء محمد محمود –مدير الحديقة الثقافية للطفل بالسيدة زينب-، كل ذلك تحت رعاية د.إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة، ود.هشام عزمي –الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة_، وتم تخريج 17 لاعبا ولاعبة أراجوز، كان من ضمنهم لاعب من ذوي الهمم، وكان منهم –أيضا- بعض موظفي الهيئة العامة لقصور الثقافة والمركز القومي لثقافة الطفل عبارة عن 5 موظفين و3 موظفات.
ومما يحسب للمدرسة تخريج أول لاعبات أراجوز في مصر، وعددهن أربع لاعبات، شاركن بعد حفلة التخرج في عرضين تم تقديمهما في الملتقى الثالث للأراجوز والعرائس التقليدية، العرض الأول من تأليف نيروز الطمبولي تحت عنوان “الأراجوزة” ومن إخراج ناصر عبدالتواب، وناقش العرض قدرة البنات على المشاركة الفعالة في بناء المجتمع المصري في ظل اللحظة التنموية الراهنة مثلهم مثل الرجال، وهذا ما يعكسه اهتمام الدولة بالمرأة كشريك أساسي في النهضة المجتمعية.
أما العرض الثاني فهو “عرض تدريبي” على فن الأراجوز شارك فيه 11 لاعب ولاعبة أراجوز من إخراج محمد عبد الفتاح، وهو عرض ارتجالي حول تركيبة الصوت وكيف خروجه من “الأمانة” واستعراض مهارات اللاعبين.
وقد تم تكريم الخريجين وتسليمهم شهادات تقدير من وزارة الثقافة.
ومن نتاج هذه المدرسة يقام حاليا وبصفة دورية كل شهر “اليوم الشهري للأراجوز” بالحديقة الثقافية بالسيدة زينب، والذي يقام في اليوم الثامن والعشرين من كل شهر.
ومن خلال هذا اليوم تم تقديم مجموعة من العروض كان من آخرها عرض “أراجوز وأرجوزتا”، تأليف سعيد حجاج ، وأشعار أيمن حافظ، وعرائس مؤمن ونس، وديكور شادي قطامش، ورؤية وإخراج ناصر عبد التواب.
كما تم تقديم عرض “المسرح الأسود” بحيث كان الديكور أسود، والعرائس الملونة باللون الفسفوري، واستخدمت فيه الإضاءة تحت البنفسجية، على أن يرى المتفرج الخيوط الملونة تتحرك أمامه أشبه بعرائس الطاولة.
والعرض قدمته “فرقة كذا لون” التابعة للمركز القومي لثقافة الطفل من إخراج شعبان أبو الفضل.
ومن ضمن الفعاليات والأنشطة المتعلقة بهذا اليوم الشهري تقام حلقات نقاشية حول فن الأراجوز يشترك فيها النقاد المسرحيون والفنانين المهتمين بهذا الجانب.
وقد اعتمدت في عروض الأراجوز في تلك الفترة على فكرة “المسرح التوعوي”، وكانت أول نمرة تقدم وألفتها تحت عنوان “الأراجوز يعظ” من إخراج ناصر عبد التواب، وبعده عرض “الأراجوز والمولات” وناقش العرض فكرة التكالب على شراء السلع من المولات، وهي ظاهرة كانت موجودة في تلك الفترة في ذروة انتشار وباء كورونا.
بعد ذلك انضم مجموعة من الكتاب منهم محمد زناتي وأحمد زيدان وسيد لطفي وأحمد جابر، كتبوا مجموعة من النمر، فقدمنا خمسة عشر عرضا، عرضت كلها على قناة المركز على اليوتيوب، وتم تجمعيها لتصدر في كتاب تحت عنوان “حواديت أراجوزية” وقدمناها كنمر جديدة تضاف للنمر القديمة للأراجوز.


عيد عبد الحليم